محنة العراق وموقف المرجعية

 

عبدالنبي الشعلة **

** كاتب بحريني

 

من حيث المبدأ والقناعة والإيمان وبكل وضوح فإننا نقف دائمًا ضد تدخل المؤسسة الدينية في أمور السياسة وشؤون الحكم.

لكن نظرًا للمحنة التي يعيشها العراق الشقيق اليوم، فإنّ الأمر الواقع يفرض علينا الوقوف إلى جانب مؤسسة المرجعية الشيعية في النجف الأشرف عند هذا المنعطف بالذات وفي هذه المرحلة فقط، وأن نقف إلى جانب مرجعها الأعلى السيد علي السيستاني الذي يواجه ويقاوم ضغوطًا شديدة ومتزايدة من مرجعية قم، أو بالأحرى من مرجعية طهران، ومن أذرعها ومراكز نفوذها المتمددة في العراق والتي أصبحت تمتلك قدرات وإمكانيات مادية وعسكرية وإعلامية هائلة.

نقف إلى جانب مرجعية النجف لأنّ السيستاني أعلن صراحة انحيازه إلى صف المحتجين والمتظاهرين المطالبين بتوفير أبسط المتطلبات المعيشية ووضع حد للفساد والمحسوبية وسرقة المال العام والهيمنة الأجنبية على مقدرات الوطن وتدخل ولاية الفقيه في الشؤون الداخلية للعراق، ولأنّه نصح السلطات الأمنية في العراق بالاستجابة لمطالب المتظاهرين وعدم استخدام القوة المفرطة في مواجهتهم، بعد أن أدركت المرجعية أنّ شيعة العراق بشكل خاص والشعب العراقي عمومًا قد ضاق ذرعًا وطفح به الكيل فانتفض وهبَّ لاستعادة وصون كرامته ولإنقاذ وطنه من الهيمنة الأجنبية ومن استباحة كرامته ومقدراته باسم الدين، واستفاق من التنويم المغناطيسي للأيديولوجية السياسية التوسعية المصبوغة بألوان مذهبية زاهية.

نقف إلى جانب السيستاني لأنّه مُلزَم وملتزم بتراث وبعقيدة مرجعية النجف الرافضة من الأساس للتدخل في الشؤون السياسية والانخراط في النشاط السياسي، والمناهضة لنظرية ولاية الفقيه، ورغم أنّه إيراني الأصل والمولد فإنّه لا يستطيع أن يحيد عن هذا النهج الذي اختطه أسلافه من كبار مراجع مرجعية النجف، إلى جانب أنه شخصيًا ومنذ البداية من المعارضين لهذه النظرية شأنه في ذلك شأن الكثير من كبار علماء الشيعة حتى في إيران نفسها الذين يرون أن هذه النظرية مناكفة ومخالفة للمنطق والعقل وتعاليم الدين.

لقد وضع مؤسسو وقادة الأمة الإسلامية من السلف الصالح القواعد الأساسية لمبدأ "ولاية الأمة على نفسها" وليس "ولاية الفقيه"؛ فهذا هو الخليفة الأول أبوبكر الصديق رضي الله عنه يخاطب جماهير الأمة بعد تنصيبه خليفة للمسلمين قائلًا: "أمّا بعد أيها الناس فإنّي قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ...." إلى أن قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

وقد وصف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كيف أنّه تسلم زمام الخلافة بإرادة الأمة حين قال كما ورد في نهج البلاغة: "ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي ان ابتهج بها الصغير ....."

 

إنّ مرجعية النجف لا تؤمن بولاية الفقيه بل تؤمن بـ "ولاية الأمة على نفسها" وهو موقف يخالف بشكل حاد مفهوم الولاية المطلقة للولي الفقيه الذي أرساه الإمام الخميني والذي يستمد من خلاله الولي الفقيه السلطة المطلقة من الله نيابة عن الإمام الغائب ما يجعله المسؤول عن رعاية أحوال المسلمين جميعًا وتدبير شؤونهم الدينية والدنيوية بتفويض إلهي وبموجب وظيفته كزعيم للأمة الإسلامية كما ينص الدستور الإيراني، في مقابل ذلك فقد أعلن السيستاني في إحدى خطب الجمعة مؤخرًا: "إن الحكومة إنما تستمد شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السري العام إذا أجري بصورة عادلة ونزيهة".

 

ويُشهد لمرجعية النجف كذلك عدم تدخلها في شؤون الشيعة في مختلف أوطانهم، وإنها جعلت علاقتها بهم محصورة في نطاقها الديني والروحي على خلاف مرجعية طهران التي تجد نفسها مسؤولة عن شيعة العالم .

 

إن موقف مرجعية النجف تجاه ممارسات الولي الفقيه ينبثق أيضًا من اختلاف صارخ بين رؤيتين أساسيتين في الفكر الشيعي السياسي والديني الذي انعكس على شكل صراع خفي ومنافسة صامتة بين المرجعيتين، إلا أن الكفة في هذا الصراع وهذه المنافسة ستظل تميل لصالح النجف التي تتمتع بمكانة رمزية متأصلة لدى الشيعة وفي وجدانهم أينما كانوا لا تتمتع بمثلها مرجعية قم، ثم إن للتاريخ والمكان إسقاطات ومدلولات أخرى مؤثرة، فالإمام علي اختار الكوفة بالعراق عاصمة له، وهو يرقد في النجف وليس في قم أو غيرها من المدن الإيرانية، وأن أرض العراق هي التي تشربت بالدماء الطاهرة لأحفاد الرسول التي أهرقت وأسيلت عليها وليس على أرض فارس، وأن للعراق منذ فجر الإسلام قامة مميزة ومكانة خاصة في قلوب المسلمين عمومًا والشيعة خاصة لا يمكن أن تقارن بمكانة بلاد فارس، كما أن الشيعة يعتبرون العراق منبع التشيع أما إيران فلم يكن لها وجود محسوس في الساحة الشيعية قبل قيام الدولة الصفوية، إضافة إلى ذلك فإن الولاء المذهبي لشيعة إيران نفسها وقلوبهم تهفوا إلى مرجعية النجف أكثر من مرجعية قم، ولذلك فإن أكثر من نصف الخُمس الذي يدفعه الإيرانيون يذهب إلى مرجعية النجف كما أكد الكاتب الإيراني المعروف أمير طاهري في مقال له نشر في جريدة الشرق الأوسط الأسبوع الماضي.

وكما قلنا في بداية هذا المقال بأنه نظرًا للمحنة التي يعيشها العراق الشقيق اليوم، وكحالة استثنائية، فإن الأمر الواقع يفرض علينا الوقوف إلى جانب مؤسسة المرجعية الشيعية في النجف عند هذا المنعطف بالذات وفي هذه المرحلة فقط للأسباب التي ذكرناها، ولذلك فإننا نتمنى من صميم قلوبنا ونتضرع إلى الله جلت قدرته بأن تنقشع الغمة عن أرض الرافدين العزيزة، ويعود الاستقرار إليها، وتستتب الأمور فيها، وتنعتق من نير الهيمنة الأجنبية، وتحظى بحكومة نزيهة مخلصة ومنتخبة؛ عندها على المرجعية أن تبادر بالانسحاب من الساحة السياسية وتترك السلطة بأوزارها وأثقالها في يد السياسيين وتدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

 

وعليها أن تدرك أن عصر الحكم نيابة عن الله قد انتهى، وأسقطت الشعوب نظام حكم الكنيسة، وولى إلى غير رجعة نظام حكم الأيديلوجيات بانهيار الحكم الشيوعي في الإتحاد السوفيتي، ولن تسمح روح العصر وتحدياته باستمرار الحكم باسم الدين.

تعليق عبر الفيس بوك