بين السياسة والديمقراطية

 

عبد الله العليان

ارتبطتْ السياسية بالديمقراطية ارتباطاً وثيقاً، منذ نشأة الأخيرة، وذيوعها وانتشارها في العالم، خاصة العالم الغربي؛ باعتبارها وسيلة للانتخاب واختيار من يُدِير المؤسسات الكبيرة في الدولة، أو المجالس النيابية، ولا شك أنَّ الديمقراطية نجحتْ في الغرب نجاحاً كبيراً، وأسهمت في استقرار هذه القارة بصورة لافتة، خاصة من التداول السلمي للسلطة، ومبدأ الشفافية والمحاسبة، والفصل بين السلطات...وغيرها من الجوانب، قد تكون هناك عيوب للديمقراطية، خاصة الجانب الذي ارتبط بالثقافة الغربية، والجانب الآخر الحرية الواسعة، بمقاييس الثقافات الأخرى المحافظة، لكن الجانب الأهم في هذه الديمقراطية مسألة النظام السياسي الناجح، في مسألة الديمقراطية التي لا تعرف ولا تتسم بالتلاعب بالنتائج الانتخابية، وهذه القضية أصبحت ثابتة، بعكس ما يدور في دول أخرى، خاصة العالم الثالث؛ بحيث أصبحت الديمقراطية فارغة من كل أسياسيات الديمقراطية، كما تكون في دول المنشأ.. ففي كتابه "الديمقراطية"، يطرح الكاتب العربي د. محمد حامد الأحمري عن "السياسة ومصلحة الإنسان"، أنَّ "السياسة هي جزء من تراث البشرية المشترك، فكراً وممارسة، وليست هناك فروق في أحقية الأمم في امتلاك تراث حكمة الإنسان، بل هو حق الجميع، كما أنَّ نقده حق الجميع، فإذا كان هم الإنسان الوصول إلى السعادة في حياته، وفي آخرته، فإن زعم امتلاك مفهوم أو مفارقة آخر مجرد عبث من عبث الدارسين، وفنون تقسيمهم الاعتباطية في العلوم الإنسانية أو الجغرافية الثقافية، فما كان خيراً تبين للناس نفعه، فهم أحق به في أي بيئة وجد، وإن كان سوءاً فنبذه واجب على كل عاقل، وإن كان الخطأ من اختراعه هو، فضلاً عن أن يكون من عمل أجداده، وهذا النهج المصلحي مفهوم عريق في ثقافة المسلمين في عهود فجر وعيهم بأنفسهم والعالم". وفي فصل "الديمقراطية هي الأصل"، يرى د. الأحمري أنَّ هذه الوسيلة -الديمقراطية- بغض النظر عمن ابتكرها وما هي الأسباب التي جعلهم يتفقون عليها، تعتبر من الوسائل الناجحة؛ لأنها أقرب إلى جوهر عقل الإنسان منذ العصور السحيقة كما عاش حرًّا ونقيًّا من نوازع كثيرة، حصلت بعد ذلك في البشرية، في أن يحيا حياة تتسم بالعدل والحقوق والمساواة، وهذه مسألة تلاقي القبول في الناس، وتجذبهم إلى احترامها لإنسانية الإنسان. ومن هنا يعتقد د. الأحمري أنه عندما "نبحث في فطرة البشر السوية تجدها المساواة، ونتاجها قرار جماعي، أو أغلبية تحدد مراد ومصالح المجموع؛ سواء كان التمثيل بالحضور المباشر أو عبر ممثلين ينوبون عن الغالبية أو الكل. وتبحث في أخبار البشرية وعاداتها ونظم حياتها فتجد الإقطاع والهيمنة والتحكم عارضاً في حياة البشر أو كريهًا محروبًا، وإن طال أمده، والفطرة الإنسانية تُضاده، وتتجه إلى النظام الديمقراطي وما يقاربه، سواء في قرية نائية أو حاضرة عامرة، وتجد أنَّ هذه الفطرة هي العقلية التي بنيت عليها الشريعة، يقول الطاهر بن عاشور: "فوصف الإسلام بأنه دين الفطرة: معناه أنه فطرة عقلية؛ لأن الإسلام عقائد وتشريعات أمور عقلية، أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به". ويرى د.الأحمري أن مسالة نجاح دول غير ديمقراطية في جوانب التنمية الاقتصادية، ربما قدَّم -يفهم عند البعض- أنها -أي الديمقراطية- غير ذات جدوى، أو غير صالحة...إلخ: في مسألة التقدم والنهضة، ويرى أنَّ هذا لا يجوز القياس عليه، وقد يكون هذا نتاجَ تخطيط عقلي مُتقن في هذه الدول لخبرة قديمة لحقب من السنين، لذلك يختلف الأحمري مع من: "يجادل بأن التخطيط والتنمية الاقتصادية قد لا ينسجمان مع الديمقراطية، ويحتجون بسنغافورة والصين، ومن دعائم هذا الاحتجاج كوان لو الزعيم السنغافوري، وهذه ليست حججًا صحيحة؛ فالهند وتركيا تمَّ نموهما تحت الجناح الديمقراطي و"شبه الديمقراطي في ماليزيا"، ولأن هناك شعوبًا تطورت لأنها ديمقراطية، أو ساعدت الديمقراطية على نهضتها، وغالب الدول المتقدمة سياسيًّا واقتصاديًّا، وفي مجال الحريات هي دول ديمقراطية كالغرب كله تقريباً، ثم إنَّ خطط التنمية وتوزيعها ومعرفة حاجات الناس تحتاج إلى الجو الحر الذي توفره الديمقراطية للتنمية". ويكشف د. محمد حامد الأحمري عن حياة ديمقراطية في بلد ما بين النهرين -العراق مثلاً- بمقاييس ذلك العصر -تبرز الأجواء للتعددية، يُشارك فيه الرجال والنساء والشباب، وسبقت كل الحضارات والثقافات، بحسب بعض المؤرخين، وهذه حقيقة إحدى المعلومات التي لم يُعرها المؤرخون العرب اهتمامهم الذي يُستحق، وهذه الممارسة الديمقراطية كما يقول الأحمري: "تتجاوز هذه الديمقراطية المكتوبة نظاميْ الحكم الديمقراطي الأمريكي والسويسري بميزة أخرى، وهي مساواة الرجال والنساء في هذه الحكومات؛ حيث لم تنل المرأة حق الاقتراع إلا عام 1971، وإلى منتصف الثمانينيات لم تكن المقاطعات السويسرية تسمح لهن بذلك، بينما قبل الميلاد بألفين وخمسمائة عام تتحدث وثائق العراق عن المجلس (جمعية الأرباب)، وعن امرأة تخطب فيه يتجاوز أثرها في الخطابة الرجال الحاضرين. وفي العراق القديم، وجدت الديمقراطية ذات المجلسين: مجلس للحكماء أو كبار السن، ومجلس آخر للشباب، أو لحاملي السلاح، وهذه أول تجربة معروفة في العالم لهذا النمط من توزيع الصلاحيات وتعميم الخبرات". وهذه الوثائق للديمقراطية في العراق، وفي بلاد ما بين النهرين عموماً، خاصة نظام المجلسين، ربما الباحثون الغربيون ومنهم المستشرقون، ربما اطلعوا على هذه الوثائق، وتم الاطلاع عليها من صناع القرار في الغرب، خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، وتم تطبيقها فعلاً في الغرب، إذ لم تكن مطبقة في فترة ما يسمى بـ"الحكم الإلهي"، قبل عصر ما سُمِّي بالأنوار، وهذه مسألة تحتاج مراجعة لأمتنا التي استوردتْ بعضَ التطبيقات البسماركية والكولونيالية...وغيرها من الأفكار الشمولية، التي تخلَّى عنها الغرب بعد ذلك، وطبَّق الديمقراطية، والتعددية والتداول السلمي...وغيرها من الأسس الدافعة للحرية في جوانبها الإيجابية.