العراق.. ونظرية فصل الرأس عن الجسد

 

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

يشهدُ العراق اليوم حراكًا حادًّا، ظاهره مطلبي معيشي، وباطنه تآمري يستهدف تدجين العراق والإضرار بجواره ومجاله الحيوي، كما كان عليه عراق البعث قبل احتلاله والتنكيل به عام 2003م. لا شك أنَّ العراق ومنذ التنكيل به عام احتلاله ولغاية اليوم وهو خارج أي تصنيف أو توصيف لأي قاعدة أو نظرية علمية، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، وهذا ما أراده له المحتل أصلًا.

عراق مُتناحر، وبلا هُوية جامعة، ينخره الفساد النموذجي المالي والسياسي، وتتآكل بنيته التحتية، وتتراجع خدماته، وتتشظى مكوناته الطبقية الاجتماعية، وتتضاد المذهبية والدينية والعرقية إلى حد التناحر.

بُنيت نظرية فصل الرأس عن الجسد في أقبية المخابرات الأمريكية وحليفاتها في المنطقة، واستهدفت رأس العراق منذ العام 1989م، وهو عام استراحة المحارب، وبعد أن وضعت الحرب المجنونة بين العراق وإيران أوزارها في جنيف بتاريخ 8/8/1988م؛ حيث كان لابد من الخلاص من الرأس المتمثل بصدام حسين، وإحلال رأس "سُني" آخر يواصل النهج ذاته، وعلى رأس المخطط ضمان استمرار معاداة إيران وسوريا، ثم أضاف إليهما عهد صدام كلًّا من الكويت والسعودية وتركيا لاحقًا.

فكان الخيار المطروح هو الفريق أول عدنان خيرالله وزير الدفاع العراقي حينذاك، فتنبه صدام للمخطط وتخلص من ابن خاله وخال أولاده وصهره عدنان، فتأجل المخطط لفقده حلقة مهمة من حلقاته.

أنضج الحصار وفرق التفتيش العراق، وأوصل العراق والعراقيين إلى الرمق الأخير، ولكنَّ الرأس لم يسقط، لهذا أسقطت بغداد بيد المحتل الأمريكي البريطاني، وبتعاون الحلفاء الإقليميين معهم، وسقط رأس العراق وتفتت جسده. وقد أسهم البعث منذ العام 1979م -وهو عام تولي صدام حسين للسلطة- بمغامراته ومقامراته في إفراغ الحزب والدولة من مقدراتها وعقولها تدريجيًّا بالتصفية الجسدية والنفي والإقصاء والتهميش، حتى فقد الحزب والعراق المناعة والحكمة والقوة بصور لافتة.

كان لِزامًا على الاحتلال التنكيل بالجسد، والعبث بمكوناته وأطرافه، وإحداث التحلل التدريجي بداخله عبر منظومات المحاصصة والاجتثاث والأحزاب والفساد المالي والإداري الممنهجين، وحل المؤسسات العميقة بالعراق؛ وعلى رأسها الجيش والاستخبارات. فنتج عن كل هذا العبث عراق نموذجي في كل شذوذ وقواعد المألوف وغريب حتى على أبنائه ومكوناته قبل محيطه العربي ومجاله الحيوي.

من الطبيعي أن يُحدث هذا العبث ردودَ فعل عبثية وغير منضبطة ما بين قوى مقاومة للاحتلال، وقوى تبارك الاحتلال وتقتات على فتاته، وقوى أخرى تتاجر بعواطف الناس وتقتات على ماضيها ووزنها العائلي والاجتماعي لا أكثر.

أحدث المحتل منظومة أضداد ومسخ غريبة، دولة مؤسسات لكنها بلا قانون، وحرية بذيئة وسقف عال للكلمة بمُسمَّى ديمقراطية، وحياة حزبية لكنها بدون أي أثر أو إثمار، وحكومة مرهونة لبرلمان محاصصة.

حين احتَكَم العراقيون إلى عقولهم وتحصَّنوا بمناعتهم التاريخية وزادهم الحضاري، وبدأ يتشكل نفس وطني بعد خروج المحتل صاغرًا عام 2011م، بدأ التخطيط للمرحلة التالية لفصل الرأس عن الجسد مجددًا، وإعادة تشكيل عراق ما قبل الاحتلال، وسبق هذا محاولات دعشنة العراق عبر إسقاط 5 محافظات بيد داعش، ووصول راياتها إلى تخوم بغداد، فكان الحشد الشعبي لهم بالمرصاد.

مثَّل الحشد الشعبي ظاهرة غير طبيعية وغير متوقعة للمحتل الأمريكي وغير سارة بالمطلق لأدواته بالمنطقة؛ كون الحشد مؤسسة اجتماعية خارجة من رحم معاناة العراق وضميره وسر قوتها؛ كونها لا تتبع المنظومة الحكومية التي يسيطر عليها الأمريكي من المنطقة الخضراء وتخترقها سفارات حلفائه كذلك.

ظاهرة الحشد الشعبي والتقارب العراقي مع إيران وسوريا والصين وروسيا أربك الأمريكي وأعوانه في المنطقة أيما إرباك، وألزمهم الحراك العاجل لتفتيت هذه التشكل (النواة) الخطير على مصالحهم، وهو تشكل ملامح حلف إقليمي عربي إيراني قابل للتوسع والزيادة (سوريا، لبنان، العراق، إيران، باكستان وأفغانستان)، ومعاد بفطرته للمخطط الصهيوأمريكي في المنطقة. فقيام هذا الحلف على أساس تعاون اقتصادي فقط مع بقاء البعض تحت الولاء لأمريكا يهدد التحالف الأمريكي في المنطقة والقائم على تفتيت المقاومة وعزلها وحصارها حماية للكيان الصهيوني والإبقاء على النفوذ الأمريكي.

السفير الأمريكي السابق بالعراق دوجلاس سيليمان، لم يُشع سرًّا حين صرح مؤخرًا في جلسة غير علنية أمام لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي بأن بلاده لديها طبقة سياسية عراقية مستعدة لحكم العراق وإعادته إلى سابق عهده!!

وهذا التصريح هو صك اعتراف يُضاف إلى قائمة لا تُحصى من محاولات تطبيق نظرية فصل الرأس عن الجسد في العراق، وتفتيت المكونات التاريخية "للهلال الخصيب"، والمباعدة بينها كلما لاحت للخصوم أي بوادر تقارب أو وئام بينها؛ فمواجهة تكتل هذا الهلال لم تكن ضرورة مُلحة للغرب وحلفائه في المنطقة زمن إيران الشاة، كما هي الحال اليوم في زمن إيران الثورة وتبدل قواعد الاشتباك.

المُضحك المُبكي في حراك العراق اليوم أنَّ من يتصدَّر ويتطوع لتنفيذ المخطط الأمريكي هو حزب البعث العربي القومي الاشتراكي المُنحل، صاحب شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"!! والذي يتعامل مع الواقع اليوم رغم جميع المتغيرات بعقلية الثأر والقبيلة والعصبية الجاهلية؛ حيث وجد الأمريكان في تحالف وحشد البعث وداعش الضد النوعي لمواجهة الحشد الشعبي وكراهية إيران معًا.

حقيقة الوضع وخلاصته في العراق اليوم هو مواجهة حامية ظاهرها مطالب معيشية وباطنها إسقاط الدولة في العراق وإعادة إنتاجها مجددًا على هوى الأمريكي، هُنا يبرز دور المرجعية في النجف سماحة السيد علي السيستاني وقوة الحشد الشعبي التي خرجت من فتواه وتتبعه معنويًّا، ولاشك عندي أن العراق سينتصر عبر المرجعية والحشد لأسباب يطول شرحها.

كما أنَّ المُستهدف الرئيس والأكبر من هذا "التحريك" بالعراق وهي إيران في وضع مُريح جدًّا خصوصًا بعد كسر النظام الإيراني لعملية "العنكبوت" الاستخباراتية الأمريكية لتفجير إيران من الداخل؛ فالأمريكي اليوم في سباق محموم مع الزمن للإجهاز على العراق أولًا لتوفير حاضن إرهاب مجددًا للدواعش الذين استودعهم في السجون والكهوف وبقايا البعث لتهديد أمن كل من إيران وسوريا، إضافة لخلق منطقة جغرافية عازلة بينهما تقطع الدعم اللوجيستي والتواصل الاقتصادي كذلك. وفي المقابل، يُدرك أقطاب حلف المقاومة جيدًا أهمية اللعب على وتر الانتخابات الأمريكية القادمة، والتي حمي وطيسها اليوم، هذه الانتخابات التي ستجعل القطبين الديمقراطي والجمهوري يتهافتون على تحقيق مكاسب إقليمية يسوقها كل طرف لناخبيه، وفي ظل كسر العنكبوت في إيران وصلابة المرجعية والحشد، ووقوف طيف وطني عراقي واسع معهما وفصل الوطنيين التوأمة بين السلمية والمؤامرة، فإن الحمار والفيل بأمريكا سيضطران لتقديم تنازلات ومُغريات جسيمة لأطراف في حلف المقاومة لا تقل عمَّا قدموه بلبنان مؤخرًا مقابل جوائز ترضية، وهزائم مُشرفة، يستثمرونها على الطريقة الهوليودية لكسب صوت الناخب الأمريكي.

لاشك عندي أنَّ أمريكا دولة قوية جدًّا، ولكن قوتها المادية لا تعنِي بالضرورة قوتها العقلية؛ فتوقيتها لتحريك الأوضاع بلبنان والعراق بالتزامن مع حمى الانتخابات الرئاسية، أفقدها الكثير من عناصر المبادرة والقوة، وستدفع ثمن خطأ التوقيت وسوء تقدير قوة الخصم ومفاجآته معًا، وستهدي مكاسب لا تُحصى للخصم.

وبالشكر تدوم النعم...،

-------------

قبل اللقاء: حين خرجت الملايين في شوارع طهران، مؤخرًا، مُندِّدة بقرار الحكومة الإيرانية رفع أسعار المحروقات، ومعلنة وقوفها مع حكومتها في ذات الوقت، ومندِّدة بمحاولات النيل من وحدة إيران وأمنها واستقرارها، رغم الحصار الجائر والقاسي على الشعب الإيراني منذ العام 1979م، تيقَّنتُ عمقَ وعي هذا الشعب بالظرف التاريخي الذي يُحيط ببلادهم، ومن حجم الحاضن الشعبي للنظام، ورأيت بأم عيني عظمة الشعوب التي تُقدم الشرف على العلف.