في مسألة التقييم ومناهجه

عبد الله العليان

من القضايا الجوهرية في حياة أي أمة من الأُمم، قضية المنهج الصحيح والقويم وفق ما يتم تحديده في البرامج والخطط، ووفق نظرة عقلية مدركة، لكل الظروف والقدرات والإمكانيات، لكي تسير هذه المخططات إلى الوجهة الصحيحة والسليمة، خالية من التعثر والانحراف المنهجي ومن غيره.

وفي غياب هذه الأسس وفشلها، أو تعثرها، تتأثر الأجيال الجديدة، عند فقد الكثير من الاحتياجات والمتطلبات التي تحتاجها، من حيث استيعاب هذه الضرورات، وهذه بلا شك سببها الإخفاقات المنهجية للخُطط التي تتعثر، وتجلب معها الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فكل عمل غير مُخطط له التخطيط الواعي والسليم، وفي غياب منهج قويم، يستدعي ما هو أفضل وأرقى للرؤى السليمة، فكل هذه الأعمال تفقد قدرتها على النجاح.

ويرى الكاتب والباحث السوري د. عبد الكريم بكار، في كتابه "مدخل إلى التنمية المتكاملة" أنَّ "المعرفة القاصرة تُعطل الإمكانيات الذهنية الجيدةـ عندماـ يتشوق المرء دائماً للمعرفة وإدراك الحقيقة، لكن ذلك ليس متاحاً دائماً.

ومع أننا نعيش عصر الاتصال وتدفق المعلومات إلا أنَّ ما يحتاجه المرء من المعرفة لاتخاذ قرارات حاسمة هو أضعاف ما كان يحتاجه من قبل، هذا بالإضافة إلى أنَّ قدرة الإنسان على إخفاء المعلومات أكبر بكثير مما كان لديهم فيما مضى. في العالم الإسلامي قدر أقل من المعلومات والإحصاءات عن كل شيء، وهناك أشياء كثيرة محظور الاطلاع عليها، في حين أنها مكشوفة تماماً في البلدان المُتقدمة".

ويضيف د. بكار، في هذا الصدد، أنَّ المسألة ليست في قصور العقل العربي، أو الإسلامي، وإنما هي نتيجة لنقص المعلومات والبرامج والإعداد الجيد، ووفق مناهج مستوعبة كل الظروف القائمة والمستقبلية، ولذلك كما يرى د.عبد الكريم بكار: "إن نظام عمل العقل لا يختلف عن نظام (الحاسوب)، فالمدخلات الخاطئة تعني دائماً مخرجات خاطئة، فالعقل ـ كالحاسوب ـ لا يستطيع إضفاء تحسينات كثيرة على المدخلات القاصرة، إلا بعد بلوغ درجة عالية من النضج والرشد، من ثم فإنَّ كثيرا من القرارات التي نتخذها مصابة بعيوب جنينية، حيث إنها لا تعتمد على معلومات جيدة وكافية، وكم قتلنا من الوقت، وضيعنا من الجهد في جدل عقيم حول قضايا كبرى لا نملك أية خلفية عنها! بل إنَّ هناك جماعات وأحزابا ودولاً وهيئات وقفت مواقف صارمة خاطئة، ما كان لها أن تقفها لو أنه توفر لها الحد الأدنى من المعرفة الجيدة".

ولذلك ـ كما يرى د. بكارـ فإنَّ ما وقعنا فيه من قرارات خاطئة، ومن مواقف بعيدة عن الصواب في الإدراك العام في قضايا مهمة وأساسية، وعن التفكير المنهجي الصحيح، حيث إننا وقفنا عند الكثير من القصور المعرفي والعلمي، لما اتخذناه من قرارات ومواقف ينقصها الكثير من الدقة المنهجية، ولذلك فإنَّ:" مشكلة نقص المعلومات على نحو مستمر، إنما تولد عقلاً محدوداً. والناس يرفضون الاعتراف بهذه الوضعية، فمن السهل أن يعترف المرء بأنه مخطئ، في هذا الموقف، أو ليس له خبرة به، أما أن يعترف أن عقله محدود، فهذا ما لا يرتضيه أحدٌ! بل إن الكثير من الناس يزعم أنَّ ما لديه من حدة في الذكاء يجعله في غنى عن كثير من المعلومات التي يلوكها كثير من الناس، ويشعر هذا الفريق أنه يمتلك عدداً كبيراً من البدهيات التي لا ينبغي الخلاف حولها!!". ومن هنا يشير د. عبد الكريم بكار، إلى مسألة النظرة التجزيئية، للمواقف والسياسات التي ننظر إليها نظرة اختزالية، بعيدة عن الواقع، وعن استجلاء المعرفة الصحيحة، وهذه إشكالية قائمة، عند الكثير من النخب السياسية والاقتصادية، وحتى الفكرية، ولذلك فـ:" التجزيئية في هذا الموقف ناتجة عن ضيق الأفق وقصر تعليل الظاهرة على عامل واحد، مع أنَّ أكثر الظواهر لا تعلل بعلة واحدة. وفي حالتنا هذه ـ ويقصد البلدان العربية ـ تكون نسبة الجرائم ناتجة عن زيادة عدد السكان بالنسبة نفسها، ومن ثم فلا تكون هناك زيادة في الجرائم، وقد تكون ناتجة عن اجتياح موجة الفقر أو الانحلال الخلقي،(:) ومن مظاهر النزوع إلى الفهم الجزئي التركيز على حقبة تاريخية معينة على أنها تمثل التاريخ الإسلامي كله، أو التركيز على جانب من جوانب التاريخ، على أنه يُمثل حقبة تاريخية كاملة".

 ويشير د. بكار في مسألة التجزئة في الأفكار والرؤى والقضايا، يعمد البعض إلى اختزال التاريخ أو تحريفه، بوقائع وأحداث، غير مُطابقة أو محرفة:" فينتزعه من سياقه، ثم ينشره بين الناس، ويستخدمه لدعم ما يدعيه من القصور في بنية الأمة وماضيها وحضارتها، ناسياً كل الأعمال الجليلة التي قام بها عظماؤنا في التاريخ! إنهم يريدون تصوير الرذائل، وكأنها صنعنا وحدنا.(:) بل إن بعضاً منِّا يحكم على صحة أحداث التاريخ وفق تركيبه العقلي الخاص بعيدا عن أية مُعطيات موضوعية، فإذا نُقل له خبر يدل على أخطاء وقعت من قبل بعض الخاصة من المسلمين حكم على ذلك الخبر بالوضع والزيف، أو وجد له تأويلاً يحيله إلى فضيلة!. وإذا نقل له خبر يكيل المدائح، ويسرد المناقب دون حساب قبله دون أي نقاش، وكأن تاريخنا من صنع أشخاص معصومين".ص(112).. ويناقش د. عبد الكريم بكار، هذه النظرة التجزيئية السلبية، من حيث إن هؤلاء الذين يتبنون هذه المواقف لا يدركون حقيقة التاريخ وحركته، ولذلك يقول د. بكار :"إن التاريخ ، كالواقع صنعه بشر، لهم مبادئ، وقيم، ولهم مصالح واجتهادات وشهوات، وقد مروا في فترات نهوض، وفترات ركود، ولا يكون البشر إلا كذلك.

إنَّ التاريخ أداة مهمة من أدوات التربية، وإن عدم استيعابه بطريقة صحيحة قد يحوّله إلى أداة هدم وتخريب".