حبُ الوطن

حاتم الطائي

علاقة وثيقة تربط بين حب الوطن والإيمان إعلاءً للقيم الحضارية العليا

الانتماء والهوية من بواعث حب الوطن في نفوس الأفراد

النعم التي نحيا في ظلالها تستدعي ضرورة صون المُكتسبات الوطنية

 

تتعدد وتتنوع الأدبيات التي تتحدث عن الوطن، وحق الوطن والوفاء للوطن، وفوق كل ذلك حب الوطن في معناه العام ومفهومه البسيط لدى المواطن الذي تربى في كنف وطنه ونهل من ينبوع عطائه المتدفق بإكسير الحياة.. وعندما أبحثُ في ماهية "حب الوطن" تستوقفني دائمًا مقولة "حب الأوطان من الإيمان" التي غُرست في نفوسنا وشكلت وعينا في عُمر مبكر، وهي تربط بوضوح بين حب الوطن كقيمة حضارية وإنسانية سامية، والإيمان كقيمة روحية تنبع من داخل الفرد المؤمن بوطنه.

ويشغلني هنا تسليط الضوء على تلك القاعدة الذهبية، والعلاقة الوثيقة الصلة بين حب الوطن والإيمان، فكلاهما جزء من بعضهما بعضا، كما أنّ هذه القاعدة تحمل في طيّاتها الكثير من المعاني والدلالات عميقة الفهم واسعة المحتوى، فالربط بين حب الوطن والإيمان يجعل من الأول عقيدة يجب أن تترسخ في نفس كل فرد من أفراد المجتمع، بما يصاحب هذه العقيدة من طقوس وشعائر تترجم ذلك الحب في النفس؛ فالدفاع عن حياض الوطن والذود عنه بالغالي والنفيس والتضحية من أجل بناء الوطن والعمل والإنتاج.. كل ذلك من الطقوس التي يؤديها كل محبٍ لوطنه. وحب الوطن غريزة إنسانية، تنشأ مع نشأة الفرد وترعرعه في البيئة التي يحيا فيها، وتنمو معه كلما كبر وأدرك قيمة حب الوطن في نفسه، لاسيما إن كان هذا الوطن معطاءً يمنح الجميع خيراته وثرواته، وفوق كل ذلك نعمة العيش على ترابه. وعندما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي "وطني لو شغلت بالخلد عنه// نازعتني إليه في الخلد نفسي"، فإنّه لا يبالغ عند مقارنة حب الوطن وغريزة الانتماء إليه بحب الجنة (الخلد) والعيش فيها، فالوطن جنة المحب، والجنة وطن لهذا المحب.

وإن من بواعث حب الوطن، الانتماء والهوية، فانتماؤنا للتراب العماني يبعث في نفوسنا مشاعر الولاء والتضحية للوطن، فما من عماني إلا وشارك في نهضة وبناء الدولة، منذ أن انطلقت المسيرة الظافرة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- فكان الجميع شركاء في التنمية والبناء، انطلاقا من الشعور بالانتماء المُتجذر في أرض الوطن، والمؤمن بضرورة تكاتف الجهود وتعاضدها من أجل استكمال مسيرة البناء والتقدم. ولقد أكّد جلالته على ذلك المعنى عندما قال: "لا يمكن لأمة من الأمم أن تدرك غايتها إذا لم تعمل يدا واحدة من أجل بناء مستقبلها وتنمية قدراتها وإمكاناتها. ونحن واثقون تمام الثقة من أنّكم جميعا رجالا ونساء سوف تسهمون في نمو هذه التجربة العمانية وترسيخ جذورها وإعلاء بنيانها من خلال العمل الجاد المتسم بالمسؤولية والحكمة والذي لا يراد به إلا رفعة الوطن وخدمة المواطنين".

ولا شك أنّ الشعور بالانتماء الكامن في نفس كل مواطن، يتوازى معه شعور بالهوية، والتي يمكن أن نقول إنّها تجليات ذلك الانتماء لدى كل فرد؛ فالهويّة القائمة على الانتماء تنعكس على الاستعداد في التضحية من أجل الوطن، وهو الحرص على التحدّث بلغة الوطن وارتداء الزي الوطني ببيئاته المختلفة، والالتزام بقيم الوطن وعاداته وتقاليده الأصيلة، وإلى جانب ما سبق الدفاع عنه بالنفس إذا تطلب الأمر..

حب الوطن ينبع من الشعور بنعمه علينا، فنعم الأمن والأمان والطمأنينة والسكون والبركة في الرزق والعافية في الجسد؛ كلها نعم أنعمها الله سبحانه وتعالى على هذا الوطن، بفضل الرؤية الحكيمة الثاقبة لجلالة السلطان- أيّده الله- والتي استطاعت أن تبني عمان الحديثة في زمن قياسي، بمساهمة وبتأييد من كل مواطن آمن بهذا الوطن وبذل الجهد من أجل رفعته، كل على طريقته وبما يملك من قدرات. وتلك النعم التي نجني ثمارها اليوم وُضعت بذورها قبل تسعة وأربعين سنة من الحكم الرشيد والتوجيهات السديدة لجلالة السلطان للمسؤولين في كل القطاعات، فتحققت نعمة الأمن والأمان، فلا نجد- ولله الحمد- انتشارًا للجريمة أو العنف أو التطرّف، فلقد حافظنا على هويتنا العمانية الأصيلة انطلاقا من حب الوطن، وهذه الهوية ترتكز في جوهرها على قيمة التسامح والوئام والعيش المشترك، حتى مع المختلفين معنا. وما نشعر به من أمان هو ترجمة لما تحقق من نهضة شاملة عمّت أرجاء الوطن، فكل الخدمات متوافرة من أقصى نقطة في الشمال إلى آخر ذرة تراب في جنوب الوطن.

ومن هنا وبفضل ما نحيا فيه من نعم عديدة، يجب أن نسأل أنفسنا ما هي حقيقة حب الوطن في نفس كل فرد وكل مؤسسة، عامة كانت أم خاصة؟ هذا السؤال لا إجابة له سوى العمل والاجتهاد ومواصلة العطاء لرفعة وعلياء الوطن. فالتقاعس عن العمل لا يعكس حبا للوطن، بل يزيد من المشاعر السلبية في نفوس الآخرين، ويخلق حالة من عدم الاكتراث، لا تتماشى مطلقا وما يوليه الوطن لكل فرد، وما يجزله من عطايا على الجميع.. والوطن هنا الذي أقصده هو مؤسسات الدولة وقيادتها الرشيدة، التي تخطط وتعمل لنهضة عمان وشعبها، دون توقف، وفق رؤية مستقبلية بعيدة المدى، وضعت منذ اللحظات الأولى من عمر النهضة المباركة هدفا ساميا هو تحويل عمان إلى دولة عصرية تصطف إلى جانب الدول المتقدمة، ولقد تحقق ذلك بالفعل، فمؤشرات التنمية والتقدم تشهد على ما وصلنا إليه من نهضة شاملة مستدامة في شتى القطاعات، فما أن ننظر يمينا أو يسارا إلا ونجد هذه النهضة متجسدة في مؤسسة خدمية تقدم أعلى مستوى من جودة الخدمة، أو معلم سياحي فريد يترجم حضارة عمرها آلاف السنين في هيئة معاصرة تواكب التطور والتقدم.

كل ذلك يجب أن يتحقق من منطلق "ثقافة رد الجميل للوطن"، فالوطن الذي علمنا وتربينا على ترابه جدير بأن نرد له الجميل، ولذا وجب على كل فرد وكل مؤسسة ألا تتوقف عن الإسهام في مسيرة العطاء والعمل، وعلى كل شاب أن يدرك أنّ حبه لوطنه يتحقق بالإنتاج وسبر أغوار العمل الحر القائم على الإبداع الذاتي والأفكار النيرة التي لطالما تمتع بها المواطن العماني. المؤسسات أيضًا مطالبة بمواصلة دفع جهود التنمية، والإخلاص في العمل وزيادة الإنتاجية، وتطبيق الفكر الإداري المرن وتبسيط الإجراءات، بما يساعد على زيادة الاستثمارات وافتتاح المزيد من المشاريع الاقتصادية، وخاصة التي توفر لنا تنويعا اقتصاديا في مصادر الدخل.

علينا أن نحمي ونصون مكتسبات الوطن، حبا له وإيمانا به، فما تحقق من منجزات خلال مسيرة النهضة باتت مكتسبات وطنية بالغة الأهمية وعزيزة القيمة، والحفاظ عليها واجب مقدس، فهناك من الشعوب من تبحث عن نعمة الأمن ولا تجدها، وآخرون يفتقرون لمشروعات التنمية الشاملة، أو تغيب عنهم القيادة الرشيدة، لكننا وبفضل الله تعالى نملك كل عناصر النجاح والاستقرار، وهي مكتسبات يتحتم على فرد منّا أن يضحي من أجل الحفاظ عليها وصونها، من خلال التعلم المستمر والعمل المتواصل وزيادة الإنتاج، وإذا ما تحققت هذه الثلاثية فلا شك أنّ سفينة الوطن ستمضي قدمًا على طريق العزة والرخاء والمجد.