الحكمة السامية والمؤتلف الإنساني

حاتم الطائي

 

الإعلان يعكس الحرص السامي على غرس قيم التعايش والوئام والتفاهم

"المؤتلف الإنساني" ثمرة 49 عامًا من النهضة والسلام والتسامح

رسالية الدولة العمانية الحديثة تنبع من فلج الأصالة الجاري منذ فجر التاريخ

 

على مر العصور والأزمنة وعُماننا الغالية مرفوعة القامة، رايتها خفاقة في سماء الإنسانية، بما تشتهر به من حضارة عريقة وشعب خلوق؛ حافظ طيلة تاريخه على قيمه وثوابته الراسخة في جذور هذا التراب الوطني رسوخ جبالها الشامخة، وقد أسهم العمانيون بدور حضاري رائد في نقل ذلك الموروث الإنساني إلى شعوب المعمورة، فقد آمنوا بهذه المبادئ؛ فتبلورت لديهم رؤية شاملة للعالم تقوم على أبعاد إنسانية بحتة، بما يجمع الناس لا على ما يفرقهم، مصداقا لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات 13).

ومن منطلق الحرص السامي على ترسيخ وتعميق هذا الدور العماني في غرس قيم التعايش، والوئام، والتفاهم، والمشترك الإنساني بين الناس؛ يخرج مشروع "إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني" إلى النور، تزامنا مع مناسبتين بالغتي الأهمية؛ الأولى مع حلول العيد الوطني التاسع والأربعين المجيد، والثانية مع الاحتفال باليوم العالمي للتسامح. وإذا ما نظرنا إلى الارتباط الزمني الأول مع "الإعلان"، وهو العيد الوطني التاسع والأربعون المجيد، فهذا الإعلان يمثل ثمرة 49 عاما من مسيرة النماء والخير، تلك المسيرة التي وضعت- من بين أهداف عدة- مسؤولية نشر ثقافة التسامح والوئام في سلم الأولويات سواء على المستوى الوطني الداخلي أو على الصعيد العالمي الخارجي، وعلى مدى عقود النهضة المباركة توالت المساعي والجهود لنشر هذه المفاهيم، وغرسها وتعظيمها في نفوس الجميع؛ الأمر الذي ساهم في تعميق الصورة الحضارية لعُمان وشعبها، وباتت صفة التسامح والمحبة لصيقة الصلة بالشخصية العمانية، على مستوى الأفراد والمسؤولين والسياسات. ولذا لم يكن مستغربا أن تتحول السلطنة إلى قبلة للسلام ومنارة للوئام ومحطة رئيسية للباحثين عن الاستقرار في عالم يسوده الاضطراب والفوضى. ونجحت السلطنة- بفضل تلك القيم المتأصلة في تربتها الطاهرة- في أن تنال ثقة الجميع، فالقوى العالمية والإقليمية لا تجد ملجأً سوى مسقط لكي تحط الرحال فيها ساعيةً للاستفادة من حكمة قائدها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- وطلبا لإبداء المشورة والرأي من أجل نزع فتيل الأزمات ووأد الخصومات وإخماد نيران الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اليوم العالمي للتسامح

أمّا الارتباط الزمني الثاني فيتمثل في تزامن هذا الإعلان مع الاحتفالات الدولية باليوم العالمي للتسامح، فما أنسبه من حدث عالمي لكي يتم الكشف عن هذه المبادرة السامية العالمية، ما يؤكد اهتمام جلالة السلطان المفدى- أيّده الله- بأن يواكب هذا الإعلان زخما عالميا، يتمثل في الحضور رفيع المستوى من ممثلي قادة دول العالم وعشرات المنظمات العالمية وعدد من المنظمات الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، مما أكسب هذا الإعلان صفة الرسمية، وانعكس ذلك في الإشادات التي قوبل بها الإعلان من ممثلي هذه الدول والمنظمات.

ولقد شرُفتُ بالمشاركة في هذا الحدث التاريخي العالمي، وما صاحبه من فعاليات هدفت إلى الاحتفاء بهذا المنجز العماني الخالص، والذي منحني- كحال جموع العمانيين- شعورا بالفخر لكوننا في السلطنة نموذجًا للتعايش السلمي ودولة سلام في الشرق الأوسط والعالم، فالسلام هو أحد المحاور المهمة لإنجاز التنمية الشاملة والمستدامة، وهكذا هي الرؤية السامية لجلالة السلطان المعظم، فبدون السلام لم نكن لنتمكن من تحقيق هذه التنمية على مدى قرابة خمسة عقود من النهضة والبناء والتشييد، ذلك البناء الذي استهدف في الأساس بناء الإنسان العماني، باعتباره الغاية والهدف- كما يؤكد جلالة السلطان المعظم- إلى جانب بناء دولة المؤسسات والقانون، وتشييد البنى الأساسية والمشروعات العملاقة، التي باتت الآن معالم تاريخية وطنية، شاهدة على النهضة وما تحقق- ولا يزال- خلال العهد الزاهر لمولانا جلالة السلطان المفدى. وقامت هذه التنمية على أسس من العدل والسلام والتعاون، واستهدفت مجالات عدة بما يحقق الأهداف الوطنية الطموحة في بناء دولة عصرية تضع أقدامًا راسخة على درب التقدم والنماء، وهو ما يتوازى مع الأهداف الأممية للتنمية المستدامة.

إننا العمانيون نؤمن في أعماقنا بأننا دعاة سلام، وحاملو لواء السلام، ورسل محبة للناس أجمعين، نستهلم من ديننا الحنيف قيمنا ومبادئنا، فسرنا على صراط الخير والوئام، منطلقين من الدعوات الإلهية بأن ننشر السلام والمحبة، وأن ننتهج الصفح والعفو عن الناس دائما، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا بذلك، فهو القائل: "فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" ("الزخرف 89). وقيمة الصفح- كخلق إنساني سامٍ- ارتبط بقيمة أخرى وهي السلام، وأنّ من يتبع ذلك الهدى سيعلم في نهاية المطاف بأنّه اتبع الحق ونفذ الأمر الإلهي.

وعمان- ولله الحمد- ومُنذ فجر نهضتها المباركة لم ترفع سوى راية السلام والوئام، انطلاقا من المشترك الإنساني الذي يجمعنا مع الآخر، من أجل إرساء الاستقرار العالمي ودعم جهود نبذ العنف وإخماد نيران الحروب، مصداقا لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" (البقرة 208).

تفرُد الشخصية العمانية

ومما ساهم في بلورة هذا الإعلان وصياغة أهدافه؛ ما تستند عليه الشخصية العمانية من ميزات تمنحها خصوصية وتفردا، شهد لها العالم ووثقتها أحداث التاريخ، بل وأكّدت عليها السنة النبوية المطهرة بحديث رسولنا الكريم "لو أنّ أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".. فالإنسان العماني مسالم بطبعه، معطاء، ودود، خيِّر، لا يعادي أحدا، وبرهان ذلك أننا صنعنا حضارة عظيمة في قرون ما قبل التاريخ أو خلال القرون الأخيرة من عمر الإنسانية، فقد امتدت الإمبراطورية العمانية على مساحات شاسعة من قارتنا الآسيوية وشرق القارة الإفريقية، دون حرب أو سفك دماء أو هدم، بل عبر المعاملة الحسنة والتجارة الأمينة والعلاقات الإنسانية الودودة، والالتزام بقيم الحق والخير والعدالة.  

وإعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني، يترجم رسالية الدولة العمانية الحديثة، التي تحمل في عمق رؤيتها لنفسها وللعالم من حولها رسالة سامية؛ تقتضي السعي المتواصل من أجل أن يعم السلام والاستقرار أنحاء العالم، وهي رسالة تنبع من فلج الأصالة العمانية الجاري منذ فجر التاريخ، وتحمل في طيّاتها قيم التسامح والتعايش والوئام، وتمتد إلى شتى أنحاء العالم، ولذا يمكن القول إنّ هذا الإعلان العالمي يُناشد كل إنسان على ظهر البسيطة بأن يرفع راية السلام، وأن يبذل الجهد كي ننعم بالاستقرار ونحيا في وئام.

إننا عندما نمعن النظر في تفاصيل مشروع إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني نجد أنّه يستند إلى 3 أبعاد؛ هي: تحسين حياة البشر، واعتماد منظومة أخلاق عالمية، ورعاية القيم الروحية للإنسان، إلى جانب 3 مرتكزات حضارية إنسانية، تضمن تحقيق التعايش والتعارف بين البشر، وهذه المرتكزات هي: العقل والعدل والأخلاق، وأخيرا 3 موجهات أساسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسلوك البشري، وهي: تعزيز ثقافة السلام والتفاهم، واحترام الحياة وتقديرها وطمأنة الناس بالحفاظ على هويّاتهم وحياتهم الخاصة، وتعميق قيم الشراكة المجتمعية والقيم الاجتماعية.

ولذا؛ لا ينازعني شك بأنّ هذه الثلاثيات عالمية التوجه تضمن في نهاية المطاف تحقيق الهدف المأمول من هذا الإعلان، من خلال بناء وعي عام عالمي بحتمية تبني قيم الوئام والائتلاف والعمل المشترك نحو علاقات إنسانية متوازنة وفاعلة، فلا مناص عن وأد الصراعات وإحلال السلام العالمي إلا ببلوغ هذا "المؤتلف الإنساني"، وتطبيق منظومة أخلاق عالمية بدلا من حالة الانهيار الأخلاقي التي سقط فيها العالم من حولنا، فاستحالت الحياة معتركا كبيرا ينتصر فيه قانون الغاب، دون إعمالٍ للعقل أو تطبيقٍ للعدل أو التزامٍ بالأخلاق الحميدة اللازمة، وهو ما تسبب في تدني السلوك البشري، وفقدان ثقافة السلام والتفاهم، وغياب الاحترام بين بني البشر، وانعدام الشراكة المُجتمعيّة.

وما يدعم سبل نشر هذا الإعلان حول العالم، ارتباطه باسم حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أبقاه الله- فالتاريخ المشرق لجهود جلالته في إحلال السلام ودعم الاستقرار يمثل القوة الدافعة لبلورة بنود وأركان هذا الإعلان، الذي ستشارك في صياغة تفاصيله نخبة من الخبراء والباحثين. فالسلطنة وخلال العهد الزاهر لجلالة السلطان تعمل على تعميق مسارات التعاون والتآخي والوئام مع مختلف شعوب العالم، انطلاقا من القاعدة التي أرساها جلالته حين قال: "أنني أريد أن أنظر إلى خارطة العالم ولا أجد بلدًا لا تربطه صداقة بعمان". هذه هي الرؤية الثاقبة لجلالته التي استوعبت جيدا حركة التاريخ ومآلات أحداثه، ووظفت بحكمة منقطعة النظير الآليات الكفيلة بالتعاطي مع المتغيرات، فما كان من سفن نهضتها إلا أن ترسو في موانئ السلام والرخاء والنماء.

الصورة الحضارية

إنني عندما أتحدثُ عن الصورة الحضارية المشرقة للعمانيين والتي ازدادت لمعانا تحت ظل القيادة الحكيمة لجلالة السلطان المفدى- أبقاه الله- ترتسم في مخيلتي هالة مضيئة لاسم عمان، فأرى وطني قمرا منيرا تهتدي به دول العالم، ومن هنا فإنّ إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني ينقل تلك الصورة البهية إلى أرض الواقع، ويترجمها إلى حقيقة راسخة في الوعي الإنساني، فهذه المبادرة العالمية تُرسِّخ صورة عمان الحضارة، عمان صانعة السلام، عمان الداعية إلى التسامح والتفاهم، عمان التي تسكُن وجدان كل مؤمن بأهمية بسط ثقافة السلام وإعلاء مفاهيم التعايش في إطار من المشترك الإنساني الذي يجمعنا نحن بنو آدم..

ومن أجل التأكيد على هذه الجوانب، فإنني- ومن منطلق مسؤوليتي المهنية والأدبية- أرى بأنّ على وسائل الإعلام دورا لا يجب أن يُستهان به في نشر الوعي بأبعاد ومرتكزات وموجهات هذا الإعلان، من خلال تبني رؤية إعلامية شاملة مكتملة الجوانب، تركز على تبصير الناس بالقيم والمبادئ التي يدعو إليها الإعلان، وترسم خارطة طريق لما ينبغي أن يتعاطى معه الإعلام إزاء هذا الإعلان العالمي الذي يتوازى في أهميته مع المواثيق الأممية والدولية السامية، وعلى الإعلام أيضا أن يكون بوتقة تجمع كل الآراء التي يُمكن أن تُبلور مضامين هذا الإعلان، وقاعدة انطلاق عريضة لمخرجاته.

وأخيرا.. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف 108)، ولذا فإنّ مشروع إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني يرسم سبيلا واضحا ويصيغ نهجا دقيقا من أجل إعادة التوزان إلى عالمنا المضطرب الذي يئن تحت براثن الفتن والفوضى، وبناء عالمٍ جديد تسوده قيم التعايش والمحبة والوئام، ويؤمن سكانه بأهمية التسامح ونبذ العنف والتطرف، وفق قواعد راسخة تصون كرامة الإنسان وتدعم حقه في الحياة الآمنة المستقرة.