الرؤية تحاور "باسم فرات" الفائز بجائزة السلطان قابوس في أدب الرحلات

حاوره: ناصر أبو عون

 

  • الأحزاب الإسلامية ترتدي عباءة الإسلام السلجوقيّ، والقومجيون إلغائيون.
  • الحزب الشيوعي العراقي ساهم في نشر الجهل بين النخب.
  • المثقف الخائن يساند قضايا مبنية على سرديات مملوءة بالأوهام والتزوير
  • مخرجات الفكر الإسلامي اجترار للماضي وكأن أوامر إبطال الاجتهاد مقدسة.
  • الشعر همّ فرديّ، ومشروع لا ينتهي، لأنه مشروع حياة.
  • الطغيان والاستبداد في العالم العربي، هَشَّمَ روح المواطنة.

أُركّز في كتاباتي على تاريخ التنوع اللغوي والعقائدي، حتى لا نكرّس سرديات التهويل والمظلومية المبنية على كذبة الحق والوجود التاريخي

"باسم فرات" اسم يملأ مساحة كبرى من المشهد الثقافي العراقي والعربيّ وعلامة أدبيّة عراقيّة المنشأ، عربيّة الملامح، حداثويّة الرؤى، انتقلت من (المحليّة) الضيّقة، إلى (العالميّة) المنفتحة على كل الجهات، وتحرّرتْ من النمطيّة والانكفاء على الذات، وأسقط عن كاهله كل ما يعيقُ حركته، أو يفرض السكونيّة على فكره بلا استثناء، وخلافا لمشروعه الشعريّ ، وقصيدته العابرة لكل الثقافات؛ فإنكَ سوف تقرأ له في (الانثربولوجيا)، و(تطبيقات حوار الحضارات)، و(تاريخ الشعوب)، و(الفلكلور)، وغيرها من (الفنون)، وعندما تحاوره سوف تكتشف من الجملة الأولى أنّ الرجل تحرَّر من كل القيود البالية، ونجا بأعجوبة من شرنقة (الثقافة الإلغائية والانتقائية المدمرة والمؤدلجة)، وخرج إلى العالم الرحب الواسع، ونفض عن عقله غبار الطائفيّة المقيتة، وركزّ في كتاباته على أهمية "التبحر في قراءة تاريخ تنوعنا اللغوي والعقائدي"؛ "مخافةَ أنْ نتحول إلى مُكرّسين لسرديات مملوءة بالتهويل والمظلومية المبالغ فيها والمبنية على وهم وكذبة الحق والوجود التاريخي"، ومن أهم كتبه في أدب الرحلات" الحلم البوليفاري.. رحلة كولومبيا الكبرى"، وحول تقاطع حياته الشعرية بحياته كرحالة: يقول:"أحلم دائماً أن أعيش للشعر، وأن أتنقّل بين البلدان والشعوب والمجتمعات والثقافات. الرحلات والمغامرات لم تأخذني من الشعر، بل قد لا أبالغ إن قلت إنها عمّدتني في ملكوته أكثر. فبفضلها، كتبت ديوان "بلوغ النهر"، وفي حوزتي قصائد لرحلات ومغامرات أخرى في أميركا الجنوبية". ومن أهم مجموعاته الشعرية "أشد الهديل”، و”خريف المآذن”، و”أنا ثانية”، و”إلى لغة الضوء”، و” بلوغ النهر” و"أشهق بأسلافي وأبتسم"ـ وفي نيوزيلندا صدر له بالإنجليزية “هنا وهناك” و”القمر الذي لا يجيد سوى الانتظار” و”لا قارب يجعل الغرق يتلاشى”، وصدر له أيضا في إسبانيا “تحت ظلال المنافي”. وباسم فرات يرى أنّ الشعر همّ فرديّ، ومشروع لا ينتهي، لأنه مشروع حياة... وقد توجهنا له بالعديد من التساؤلات التالية...

***

  1. أينما أولي وجهي شطر جهة من الأرض تقع عيني على مفردةٍ عراقيّة بدءًا من الإنسان وصولا إلى التراث الشعبي، ناهيك عن ثقافة بلاد الرافدين المحمولة فكرًا وبذورًا صالحة للإنبات في الثقافات كافة.. بوصفك مثقفًا فاعلاً– وفق تعبير جرامشي– هل أثمرت جهودك عبر ربع قرن من الترحال، حول الأرض في "تجذير" بعض شتلات الثقافة العراقية في وجدان بعض الجماعات التي التقيت بها؟

(***) الحديث عن النفس لا يخلو من إثم، ويخف هذا الإثم حين تضطر للحديث. وأنا لستُ سوى قارئ يحاول الشعر، وشاءت الظروف أن المناطق التي زرتها وعشت فيها؛ قليلة الارتباط بالثقافة العربية، فبلد اللجوء الذي أحمل جنسيته، يبعد عن أُستراليا بألفَي كيلومتر مياه، وهو أول بلد يستقبل شروق الشمس، وهناك اكتشفت جهلهم شبه التام بالثقافة العربية، ولكن نشاطاتي الواضحة ومثابرتي جعلتني أنشر في المجلات الأدبية وفي الصحف، وهذا أدّى إلى انبثاق الأسئلة. تصرفت بعفويتي، فكنتُ أردد حين يبدون إعجابهم بشعري: ما أنا إلاّ شاعر بسيط أمام عشرات الشعراء الكبار إن لم يكن المئات وربما الآلاف، وأن اللغة العربية من الثراء بحيث تحوي أكبر تراث تدويني عرفته البشرية. فكانت مجاميعي الشعرية الثلاث بالإنجليزية أول ما تُرجم من العربية ونُشر في نيوزلندا. كنتُ أحدّثهم عن العراق بعصوره كلها، فأنا أرفض رفضًا قاطعًا إلغاء مرحلة من مراحله التاريخية، أو التعصب والتطرف لمرحلة تاريخية على حساب مراحله التاريخية الأخرى، أراها ثقافة إلغائية انتقائية مدمرة ومؤدلجة، مثلما كنت أتحدث عن الثقافة العربية ودور بلدي العراق بوصفه مبتكر الأبجدية العربية ومن رواد الحضارة العربية الأساسيين، ولا أظلم بلدًا عربيًّا آخر، لأنني تعلمت من طه حسين وحسين مروّة ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وتوفيق صائغ والطيب صالح ومئات النقاد والمفكرين والباحثين والمبدعين ممن أثروا العربية، فهل أنكر شغفي بفيروز والرحابنة ووديع الصافي وأم كلثوم وفريد الأطرش ووردة الجزائرية وأسماء أخرى لا يمكن حصرها في مجالات الفنون والآداب والثقافة عمومًا.

***

 

  1.  لقد عانت المنطقة العربيّة طويلاً من ويلات "انعكاس التفارق بين الديمقراطي والإسلامي" على الرابطة الاجتماعية والدولة والمواطنة.. ثم وصلنا مع الربيع العربي لظهور تيارات الإسلام السياسي أو مرحلة (الدينوقراطيّة).. هل تتقبّل؛ كمثقف حداثيّ ومعولم ومتحاور مع الكثير من الثقافات؛ بفكرة تطوير "نظرية سياسية دينية"؟ خصوصًا من المنظور السياسي الذي يحقق الجمع بين القيم الدينية وحاجات العصر؟ أم أن هذا المطلب محض يوتوبيا لن تتحقق؟

(***) إن تكلمنا بواقعية، فهو محض يوتوبيا، فليس كل رجل دين معمم هو محمد مهدي شمس الدين وهاني فحص، لأن الشرط الأساس في دولة المواطنة؛ الاحترام التام للحريات الشخصية وخصوصيات الفرد والأقليات، ما يعني أن الأمر يشمل حرية المأكل والملبس والعقيدة والسلوك الذي لا يستفزّ القانون المدني العام، وأن الخيانة الكبرى حين يدعم دعاة اليسار والعلمانية والدولة المدنية رجل الدين وحقّه في التصدي للمشهد السياسي وقيادة البلد سياسيًّا، بلا فرض شروط ينفذها رجل الدين أولاً، نظريًّا عبر وسائل الإعلام، إذ يعلن إيمانه بمدونة حقوق الإنسان، واشتراطات الدولة المدنية، وعمليًّا عبر رفض مظاهر الاستبداد المتمثلة بثقافة الصورة، وتمجيده والسماح بنقده على المستويين التنظيمي والجماهيري، فهذا لم يحدث مع الأسف ولا أرى ظهورًا قريبًا لرجل دين يجعل الوطن ووحدة ترابه والاحتفاء بتنوعه والحقوق الفردية خطًّا أحمر.

***

 

  1.  بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية في العراق، ومصر، وليبيا ، وتونس.. كنا ننتظر أن يكون "مشروع المواطنة" كأولوية فكرية وسياسية واجتماعية.. لكن فوجئنا بتأجيله بل ونزعه عن "الخطابات السياسية للأحزاب الإسلامية" برأيك لماذا عجزت الأحزاب الإسلامية عن مقاربة الفرد والرباط الاجتماعي من خارج الإطار الديني؟

(***) الطغيان والاستبداد في العالم العربي، هَشَّمَ روح المواطنة، وهي أساس متين من أسس الـمَدَنِيَّةِ، والأحزاب الدينية ابنة بارة للبنى التقليدية في ثقافتنا ومجتمعنا، وعليه لا يمكنها أن تقدّم مشروعًا يؤسس لدولة مدنية يشعر فيها أي فرد من أفراد هذه الأمة بأنه مواطن، حقه وكرامته وخصوصيته محفوظة، وإن انتهك القانون، فسيحاسب بوصفه مواطنًا انتهك القانون، ولا علاقة لخلفيته الدينية والإثنية والمناطقية بالأمر. وحتى الآن الأحزاب الإسلامية، لم تخرج من عباءة الإسلام السلجوقي، وما تلاه من فتاوى قتلت الروح الحية والمتوثبة التعايشية والتسامحية التي اصطبغت بها ثقافتنا قبل السلاجقة؛ في حوار معه يذكر الباحث جورج قرم ما يلي "في كتابات عدة لي منها كتابي الجديد، أذكّر أنه جرى تأسيس حرية المعتقد والاجتهاد في النصوص الدينية المقدسة في كنف الحضارة العربية الإسلامية، حيث كانت كل الفِرق الدينية تُؤول القرآن الكريم برؤى مختلفة. مارس العرب الفلسفة بشكل كبير في حين كانت الأخيرة ممنوعة عقائديًّا في أوروبا المسيحية". الأحزاب الدينية بلا استثناء تفكر بعقلية الفترة المظلمة وتستند على فقهاء الظلام والمعجزات أعداء الفلسفة والتفكير، مثلهم مثل الأحزاب القومية التي لم تخرج من عباءة الإلغاء والاستحواذـ، كلاهما قاتل حقيقي مع سبق الإصرار لروح المواطنة والدولة المدنية المحتفية بالتنوع والحريات الفردية.

***

 

  1.  هناك علاقة جدلية بين "التراثي والمقدس" في "المناهج التعليميّة والأكاديمية"، وبدون شك يتم توظيفها في العالم العربي من جهة الأنظمة الاستبداديّة للإبقاء على حالة السكونيّة والركود الفكريّ ألم يحن الوقت لفك الارتباط؟ وكيف ترسيخ مفهوم "التأويل" في الذهنيّة الثقافيّة والمجتمعية للانتقال بالتراثي والمقدس من المستوى الميتافيزقي إلى المستوى البشري وتوظيفه في مشروع إنساني، سياسيًّا كان أم اجتماعيًّا أم انثروبولوجيًّا؟

 

(***) ما يحزّ في النفس أن الناس انقسمت إلى فرق وشِيَعٍ، ولم تنظر إلى مدونة الفقه الكبرى والحديث بوصفها مدونة إسلامية واحدة، بل كل مذهب قَدَّس مجموعة من المؤلفين وأبعد الآخرين، وأرى أن صرخة العلامة عبد الله العلايلي، بالاعتراف التام بكل المذاهب الإسلامية وفتاواها، وجعلها مدونة واحدة نغرف منها ما يناسبنا اليوم، ولا ضرر أن نرى ما اعتمدناه بالأمس لا يصلح ليومنا، وما نعتمده اليوم لا يصلح لغدنا؛ دعوة ثورية حقًّا. لكن ما يؤسف له أن كل ما ينتجه الفكر الإسلامي هو اجترار للماضي، وكأن الأوامر التي أبطلت الاجتهاد في القرن الحادي عشر الميلادي، أوامر مقدسة وليست أوامر سياسية أو ابنة لظروفها وسياقها التاريخي، ما صبغ أكثر الكتابات بصبغة التسطيح، فزادوا الطين بلّة، وهذه خلقت حالة سكونية في الوعي الجمعي، من حيث لا يعلمون، وحتى الاستثناءات في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، خنقتها فتاوى التكفير والتطرف المناهض للتعددية المذهبية.

لم يتصدّ لدراسة الإسلام سوى النخب التقليدية، التي ما فتئت تحارب مَن يتصدى لدراسته من النخب المثقفة على قلتهم، والتكفير سلاحهم الفعال بيد الجهلة، والنخب التقليدية لا علاقة لها بما وصلته كشوفات المعرفة الحديثة المتصلة بالظاهرة الدينية، تستفيد من علوم اللسانيات والإناسة (الأنثروبولوجي) والأديان المقارنة وعلم الدلالة وغيرها من العلوم الحديثة. ظاهرة إضفاء المقدس على التراث عامة؛ إن لم نتجاوزها ونتحرر من إسلام العصر العباسي المتأخر وما تلاه، لنطلق بشجاعة الجيل المؤسس وجيل التدوين الوثابة، روح الاجتهاد في الدين وحرية البحث فيه بوصفه ظاهرة اجتماعية أصيلة، تعرضت لمؤثرات السياسة والعنف السلطوي وانتكاسة القرون المظلمة التي هيمنت على حياتنا منذ القرن الحادي عشر وبشكل أوضح منذ القرن الثالث عشر الميلادي. لا يمكن نكران محاولات دراسة التراث والدين قراءة بشرية، مبنية على الاجتهاد، لكنها مع الأسف لم تتحول إلى ظاهرة تفرض نفسها، وتسحب البساط من الأنظمة العربية، ومن رجال الدين التقليديين والتكفيريين وهيمنتهم على المجتمع.

***

 

  1.  احتفاؤك بـ"التأويل" يأخذنا إلى الحديث عن دوره في تعضيد "الهوية الثقافية" للشعوب خاصةً وأنّها "تشتغل كبندول الساعة وتتأرجح بين "جدلية الذات والآخر".. كيف يمكن للعراق كخزان حضاري– شعبًا ودولة- أن يعيد تأويل ثقافته من خلال اتصالاته الثقافية، ويعيد ترميم ما تصدع منها، ويكون عابرًا للحضارات الحديثة؟

(***) كرّست الأنظمة المتعاقبة الجهل بيننا، وأسهمت النخب الأخرى بذلك، إذ كان الحزب الشيوعي العراقي أكثر الأحزاب العراقية تأثيرًا في النخب، ما بين الخمسينات والثمانينات، لكنه بدلاً من أن يحث مؤيديه وأنصاره على قراءة التاريخ الثقافي العراقي وتنوعه؛ كان أشبه بالوكيل والموزّع الثقافي للأدب السوفيتي بخاصة والأدب اليساري بعامة، فانتشر الجهل بين النخب، لأن قارئ الإبداع ليس مثقفًا، والعراق بعد سيطرة غير العرب المسلمين على أهم أحزابه، انتشرت مقولات نرددها ببغائيًّا ولكننا لم نعطها أولويتها، عبر القراءة والبحث.

كيف تطالب بحقوق الآخرين لا سيما غير العرب، وأنت لم تُكلّف نفسك قراءة أكثر من كتابين عن كل فئة لغوية ودينية، وتجهل ما قدموه للعراق من مثقفين وسياسيين ومناضلين وشهداء، وقبل ذلك فقهاء وأدباء ومؤرخين وباحثين أثروا الحياة الثقافية. لا سبيل لنا إلاّ الإيمان بتنوعنا وأننا خليط من تجانس وتزاوج بشري متنوع عرقيًّا وثقافيًّا، وأننا ورثة الميراث العراقي بكل لغاته وأدواره التاريخية، وأن نتصالح مع تاريخنا، ومثال ذلك، بدلاً من صبّ جام غضبنا على الأتراك، إلى درجة جرح مشاعر أخوتنا التركمان وذوي الأصول التركية، فالأفضل أن نفخر أن أمير الشعر التركي في العالم هو عراقي ولد في مدينة عربخا (كركوك) التي كانت ذات غالبية تركمانية حتى عقود قليلة مضت، وعاش في بغداد أغلب حياته وختم أعوامه الأخيرة في كربلاء ودُفن فيها. هذا مثال لإبراز الإيجابي في فئة عراقية قدمت الكثير للعراق مثلها مثل بقية العراقيين، والأمر نفسه يسري على الآخرين. لأن هذا ينمي الروح الوطنية عند الناس، وثمة أساليب أخرى منها مثلاً التأكيد التاريخي على وحدة التراب العراقي بحسب المصادر التاريخية، والأهمية الاقتصادية الكبرى على المدى الطويل للعراقيين في وحدتهم، فالنفط لا أهمية له بعد خمسين سنة من الآن، ليس نفاده فقط بل لنتأمل التسارع المثير في التقنيات.

***

 

  1.  يقول السير جون دنهام: "إن للشعر روحا غير ظاهرة؛ تختفي أثناء سكبه من لغة إلى أخرى" وتجربة ترجمة الشعر العربيّ كانت عبر تاريخها الطويل عملية عبور محفوفة بكل المخاطر المتلفة للمعنى والمبنى وتحولت معها اللغة إلى معضلة حقيقية، خاصةً وأنّ اللغة ليست زادًا من المواد بقدر ما هي أفق، حسب رولان بارت".. لماذا لم يقم– حتى الآن- في العالم العربي مشروع قومي كبير لترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبيّة؟ وكيف تُقيّم الأدب العربي المترجم إلى اللغات الأخرى؟ وهل تصلح أعمالنا المترجمة لتكون جسرًا نعبر عليه نحو الآخر حول العالم؟

(***) في حوار قديم معي، تمنيتُ إنشاء وزارة الترجمة في كل بلد عربي، وإنشاء مؤسسة كبرى للترجمة في جامعة الدول العربية تُنسّق مع وزارات الترجمة في الدول العربية، هذه الوزارات تتسابق لترجمة كتب المعرفة قاطبة من الطب والهندسة إلى الرياضيات والحاسوب والزراعة وبقية العلوم، فضلاً عن الإبداع والمعارف الإنسانية عامة، سباق في الكم والجودة العالية. والترجمة الأخرى هي ترجمة المنجز العربي إلى اللغات الحية، ويأتي عبر سياقات علمية صارمة، مثل تأسيس مؤسسة في جامعة الدول العربية مهمتها فرز الكتب التي يتناولها النقد، أو تستوفي الشروط المطلوبة للترجمة، لأن كثيرًا من الكتب تُغبن لأنها لم تفز بجائزة أو يتم نشرها في دور نشر لا تجيد التوزيع.

حينها سنقطف ثمرات عديدة، أولها توفير المعرفة الإنسانية وما استجد فيها من مصادرها إلى الناطقين بالعربية، وتوفير المنجز الكتابي والإبداعي العربي إلى الناطقين باللغات العالمية الكبرى، والترجمة خير جسر للتعارف الذي يقود إلى المحبة، ويقمع الأنا المتعالية عند أي طرف على الأطراف الأخرى.

***

 

 

  1.  في العام 2010 صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب "مأزق الحداثة العربية من احتلال مصر إلى احتلال العراق" للأستاذ سعد محيو. والسؤال المحوري الذي طالما تردّد في أدبياتنا العربية: "من المسؤول عن تعثّر النهضة، أو مشروع الحداثة العربية، العوامل الخارجية أم العوامل الداخلية؟" والمنطقة الآن تعيش في حالة حروب أهلية داخلية، وهي حروب لا تجري في فراغ، بل في حضن بيئة خارجية يسيطر عليها الغرب. هل تعتقد برأيك أنّ تأخر المنطقة العربية مسؤولية مشتركة لكلّ من الشرق والغرب؟!

 

(***) في كتاباتي ركزّت على أهمية التبحر في قراءة تاريخ تنوعنا اللغوي والعقائدي، وإلاّ فإننا سنتحول إلى مُكرّسين لسرديات مملوءة بالتهويل والمظلومية المبالغ فيها والمبنية على وهم وكذبة الحق والوجود التاريخي، بحسب ما يُصدرها لنا الغرب؛ أدّى اهتمامي بهذا التنوع وتاريخه، أن كشفت مقدار الزيف والخيانة التي مارسها ويمارسها كثير من مثقفي اليسار المناهضين للقومية العربية والذين حولوا صراعهم الدموي مع القوميين العرب في العراق بخاصة إلى مناهضة أي إيجابية تقال عن العرب وتاريخهم، وفي الوقت نفسه التسليم التام بكل أوهام السرديات لمتطرفي الحركات القومية غير العربية. ما تعانيه المنطقة مسؤولية مشتركة حتمًا، ومن الخطأ رمي ثقلنا كله على العوامل الخارجية، ونسيان دورنا في هذا الخراب، فنحن مجتمعات تعايشت على مدى قرون، وإن لم يكن تاريخنا ورديًّا كله، لكن بقاء التنوع اللغوي والإثني والقومي والديني والمذهبي حتى يومنا هذا، لدليل على تعايشنا، لا سيما وأننا لا نجد تنوعًا بعد مرور عدة قرون على سيطرة أقوام في بلدان كثيرة حول العالم. لا نجد مثلاً في انجلترا مَنْ يتحدث بغير الإنجليزية كلغة أم وأولى وقد وُلِدَ لعدة أجيال فيها، والأمر ينطبق علىى غيرها والأمثلة كثيرة. نتلقى ما تصدره مراكز الدراسات الغربية ومراكز القرار، بينما نفتقد إلى مراكز دراسات عربية، تدرس ظواهر التخلف، وأسباب بروز الهويات الضيقة وهيمنتها، وتكون نتائج هذه الدراسات جماهيرية، كي لا يتم تضليل الرأي العام بأكاذيب السرديات الغربية وافتراءاتها، التي تهمل أهمّ عناصر وحدتنا وهي التزاوج الهائل، التطابق في كثير من الحوامل الاجتماعية، والعادات والتقاليد، وتأثيرات الفنون والآداب علينا مهما اختلفت أدياننا ومذاهبنا، خضوعنا لأنساق ثقافية واحدة بغض النظر عن العرق واللغة والقومية والدين والمذهب. أنا مثلاً في أسرتي الكبيرة، تنوع مذهبي وديني وقومي كل ما في العراق ستجده في أسرتي الكبيرة.

التأخر والارتداد والعنف والإلغاء والإقصاء محركاتها خارجية، هيأت الأرضية لها للتخصيب أنظمة زعمت الحداثة بينما هي تغط في عباءة القرون المظلمة؛ مثلها مثل الحركات المتأسلمة؛ فلم تراع تنوعنا وأن الناس ما عادت تؤمن بقانون الرعايا والسلطان، بل بدولة المواطنة التي تحترم الخصوصيات، ففشلت في إدارة التنوع، وتخرجت الأجيال تلو الأجيال من الجامعات وهي تجهل تاريخًا آخر غير تاريخ المدرسة الأحاديّ. حتى هذه اللحظة لا وجود للتنوع في مناهج الدراسة في العراق، فتم تجهيلنا تمامًا، ولا تستغرب أن الذين تجاوزوا السبعين من العمر بسنوات، يجهلون أن الطبيعة السكانية لشمال العراق أو ما كان يُطلق عليه "ولاية الموصل"- وبحسب وثيقة عثمانية صادرة سنة 1889 ميلادية تخبرنا بالنسب السكانية للعرب والأكراد والتركمان والمسيحيين واليزيدية والشبك- تتضح فيها الغالبية العربية بجلاء، بينما تغير الأمر في إحصائية عصبة الأمم لتقرير عائدية ولاية الموصل العراقية في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1925 ميلادية؛ هذا الجهل قاد إلى تصديق سردية المناوئ للأنظمة المتعاقبة على الرغم من زورها وبهتانها. إذًا، تتحمل الأنظمة الوزر الأكبر من الخراب، وللقوى الخارجية وزرًا وللنخب قاطبة وزرها أيضًا.

***

 

  1.  بعد صدور مجموعاتك الشعرية "أشد الهديل”، و”خريف المآذن”، و”أنا ثانية”، و”إلى لغة الضوء”، و” بلوغ النهر” و"أشهق بأسلافي وأبتسم"ـ وفي نيوزيلندا صدر لك بالإنجليزية “هنا وهناك” و”القمر الذي لا يجيد سوى الانتظار” و”لا قارب يجعل الغرق يتلاشى”، وصدر لك في إسبانيا “تحت ظلال المنافي”. هل قارب هذا المشروع على الانتهاء، وهل ثمة مشاريع أخرى في الطريق؟

(***) الشعر همّ فرديّ، لا ينتهي، لأنه مشروع حياة، ولأنه مشروع حياة فهو مستمر ما زال الشاعر يتنفس، ولديَّ مجموعة قصائد عن الأكوادور والسودان، فضلاً عن قصائد أخرى، أفكّر مستقبلاً في نشرها بين دفتَي كتاب؛ ومن المشاريع الأخرى، أنجزت كتابًا عن إقامتي ورحلاتي في زي الجديدة (نيوزلندا) وأكتب آخر عن السودان، وربما خلال عامين أنجز كتابًا عن إقامتي في هيروشيما (اليابان) وجنوب شرق آسيا، وإذا سنحت الفرصة مع قناعة، ربما أصدر كتابًا يتضمن بعضًا من مقالاتي التي تتناول الهوية والسرديات الثقافية، ورؤيتي كقارئ لهذه السرديات.

***

 

  1.  هل نجح الشعراء العراقيون في بلاد المهجر، والمنافي القسريّة والاختيارية تكوين مدارس شعريّة على غرار مدرسة المهجريين الأوائل في الأمريكتين؟ وما مزيّة الشعرية العراقيّة المترحلة عن تلك المقيمة في الداخل؟ وهل ثمة أنطولوجيا مطبوعة أو إلكترونية حاولت لمَّ هذا الشتات؟

(***) نشاطات العراقيين كثيرة، وأغلبها لم يستمر طويلاً، وكثير منهم تعب من جحيم المنافي، لكن مع ذلك فثمة عشرات أثروا نتاجهم الشعري بالبيئات الجديدة، وليس جميعهم منجزهم الشعري يدلّ على أنهم ما زالوا في العراق روحًا وذاكرة ووعيًا وكتابة، وخارجه جسدًا فقط. هناك أطروحة دكتوراه تناولت الشعر العراقي في المغتربات، للدكتورة وسن الزبيدي، لكنني أجهل إن كانت ثمة أنطولوجيات اختصت بالشعر العراقي في المنافي، لكن الحق يُقال إنني من الذين تمّ تناول شعرهم في عدد من رسائل الماجستير والأطاريح الجامعية في العراق، ربما لوضوح المكان والثقافات الأخرى التي عشتها وانغمست فيها في شعري لا سيما في ديواني "بلوغ النهر".

***

 

  1. هل تعتقد أن النصوص الإبداعية طالها تغيير جوهريّ على مستوى الشكل والمضمون؟  وعلى الرغم من مزايا النشر الإلكتروني وإيجابياته فلماذا هناك حالة من الضبابيّة تمثلت في ظهور حالة من الرفض وعدم التعايش بينها وبين القارئ والمثقف العربي؟ وهل النصوص الإبداعية المولودة بهوية إلكترونية «إنترنتية» إن صح التعبير سوف يطالها التغيير إن تبدلت هويتها إلى هوية ورقية؟ وهل المبدع مجبر على إجراء تغييرات في نصوصه عند انتقالها ما بين الورقي  والإلكتروني؟

(***) الإبداع هو الإبداع، وهو حالة نادرة، وظهور ثورة التواصل الاجتماعي والرقمي في حياتنا، ثراء للجميع، ثراء للمبدع ليصل لقرائه، وثراء للهواة أن يجربوا، وثراء للقراء مثلما هو ثراء للمتطفلين على الشعر والإبداع؛ لكن المبدع سيجد طريقه إلى المبدعين والقراء المحترفين، والمتطفل سيجد طريقه إلى آلاف المتطفلين، والنتيجة لا يوجد شاعر بقامة صلاح فائق يبدي اهتمامه بهذه المحاولات، ولا ناقد بقامة حاتم الصكَر يتناولها نقديًّا. أمّا تغيير النصوص، فهي حالة وُجدت منذ أن وُجد الإبداع، بل إن ثمة شعراء يعيدون صياغة نصوصهم حتى بعد النشر في مجاميع شعرية، أي في الطبعة الثانية أو الثالثة، وقد حدثت معي وأعدت صياغة بعض الجمل في بعض القصائد المنشورة في مجموعتي (خريف المآذن) حين نشرتها مع أغلب قصائد مجموعتي (أنا ثانيةً)  فضلاً عن ثلاث قصائد نُشرت لأول مرة.

***

 

(11) في "جدل الثقافي والسياسي" من جرامشي إلى إدوارد سعيد في "خيانة المثقفين" ومحاولات أخرى عديدة سقط "القارئ" ومن ورائه المجتمع؛ قد انزلق في فخ "التنميط" والانحياز غير الواعي، والإقصاء الممنهج (للآخر) بجميع صوره الدينية والمذهبيّة والطائفيّة والعرقية والإثنية دونما استثناء، وتبعه انحراف البوصلة وانهيارات السدود، واجتاح الحياة العربية طوفان الإرهاب.. هل تعتقد أنّ المثقف الحقيقي أدّى دورًا في هذه الكارثة.. وكيف يمكن بعثه من نومة أهل الكهف التي ألمت به– إن كان بريئا– من تهمة التآمر على أمته؟

(***) يجب مناهضة التطرف والإقصاء والإلغاء والاستحواذ بحق فئة سكانية أو ثقافة أو تاريخ أو أرض، إن صدرت من أنظمة أو من غالبية سكانية أو من معارضة أو من أقلية سكانية أو من الضحايا، فالنضال الحقيقي ليس في معارضة ومناهضة الأنظمة العربية فقط، وممالئة كل معارض وضحية؛ مهما كان خطابه وما يؤمن به أو يشيعه؛ بل النضال الحقيقي في مناهضة الظلم والجور والإلغاء والإقصاء والكذب والتزوير والعنف والإرهاب المعلن والإرهاب الكامن، مهما كان مصدره، ورفض الاستحواذ؛ إن كان على أرض أو ثقافة أو تاريخ أو عمارة أو أزياء أو رقص أو أي فن من الفنون بل حتى على أكلة من الأكلات ونسبها لهم، أو لُعبة من الألعاب؛ غير هذا تكون خيانة يُكرسها المثقف لتتحول إلى نسق ثقافي مثلما حدث في العراق. إن أبشع أنواع الخيانات التي يمارسها المثقف، الوقوف بجانب قضايا مبنية على سرديات مملوءة بالأوهام والتزوير، أو تنتهج نهج مَن يعارضهم، أو الكيل بمكيالين أو شخصنة المعارضة، أو شيطة حزب قومي ما، والركوع أمام زعماء أحزاب على رئاسة أحزابهم أكثر من عشرين سنة، وتطفح أدبياتهم بالإساءة لقومية أخرى أو ديانة أخرى أو مذهب آخر، والإسهام في العنصرية أو الطائفية عبر العمل مع حزب من هذه الأحزاب، أو التعامل مع زعاماته ومثقفيه.

تعليق عبر الفيس بوك