لوابس العَلمانيّة

محمود حيدر| مفكّر وباحث لبناني

 

لمَّا صاغَ عالم الاجتماع البريطاني جورج هاليواك مصطلح العَلمانية في العام 1846، ربما غاب عنه أن يتحول مصطلحه هذا الى فتنة لا مستقر لها في عالم المفاهيم. وأنَّى ما سينتهي إليه الحال، فقد كان هاليواك مطمئناً الى كونه أحسن صنعاً في تظهير مصطلح أراد من ورائه إخراج الغربية من معاثرها الاجتماعية واستعصاءاتها الحضارية.

ما الذي حصل لاحقاً.. وما الصورة التي تتراءى إلينا اليوم بعد انصرام أكثر من قرنين من الزمن على سريان المفهوم في ثنايا الحداثة وأزمنتها المتعاقبة؟

تلقاء العلمانية ومشتقاتها، نرانا وسط عالم مكتظٍّ بالإلتباس. فالذي جاءنا منها وعنها على امتداد أزمنة الحداثة ما يجعلها مفردة مشبعة باللَّبْسِ والشُّبهة وعدم الوضوح. ولأمر يعود إلى كَثْرة اللوابس التي أحاطت بها في المجالين النظري والتطبيقي، الْتَبسَ فهمها الى الحد الذي أوشكت فيه أن تتحوّل إلى مفردة لا ماهيّة لها ولا هوية...

وحال العلمانية لغة واصطلاحاً شأن مجمل نظائرها في معارف الحداثة. فقد تَشابَهَ على النظّار لفظُها ومعناها ومجالُ استعمالها، حتى كادت ـ بحكم الاشتباه والتشابه ـ أن تصير غير قابلة للفهم. ولأن هذا هو حالها، فهي تدعوك بقوة لافتة إلى متاخمتها قصد التعرّف إليها وتعيين تخومها. والذين نقدوها أو جادلوها، أو أولئك الذين اتخذوها منها شريعة سياسية، مَضَوْا، كلٌّ بقَدَرهِ، إلى دائرة الإشكال. ذلك بأنها كأي مفهوم غامض حمّالة وجوه. من أجل ذلك نجدها تنطوي على إغواء. وبفضل هذا الإغواء ستوظف الفلسفة السياسية الحديثة جلّ فعالياتها في البحث عن سبيل آمن للاتفاق على بنية مفهوم تحول في مجتمعاتها الى مصدر لقلق مستدام. ولقد جاء في "الأثر المستحدث" ان المفهوم غالباً ما يسري بشاغليه في غير اتجاه: إما إلى التحيُّز إليه، وإما إلى ذمِّه وإبطال شرعيته، أو إلى الرضى بما يختزنه من تآويل لا انتهاء لها.. ولمّا كان كل ما يستدعي الالْتباس والإبهام يستحث على التعرّف، فقد وَجَب على الناظر أن يبتدئ بمساءلة كل ما هو ملتبس من دائرة البداهة.

*       *        *

في وقت متأخر من مساجلات ما بعد الحداثة قدَّم عالم الاجتماع الأميركي لاري شاينر ستة تعريفات للعلمانية وأقامها على الترتيب التالي: أفول الدين ـ التناغم مع الدنيا ـ تحرر المجتمع من قيود الدين ـ تحول المعتقدات والمؤسسات الدينية ـ سلخ القدسية عن العالم ـ والسير من المجتمع القدسي إلى المجتمع العلماني. لكن في ضوء الجذر اللغوي والمسيرة التاريخية للعلمنة، فإن تعريفها بـ "التناغم مع الدنيا" و"أصالة الشؤون الدنيوية" يبدو في الحقيقة تعريفاً عامّاً ودقيقاً للعلمانية. ذلك بأن "التحول إلى الدنيوي" في الأدبيات الفلسفية الغربية يعني التحول إلى الـ "هنا"، وإلى الحال، وإلى الأرضي، أي أن الوجود في علم الوجود (الانطولوجيا) ينحصر في العالم المادي المحسوس، بينما تترك عوالم ما وراء الطبيعة، والآخرة، للنسيان..

*       *        *

صحيح أن المجتمعات العلمانية لم تستأصل البعد الروحاني للإنسان، لكنها استنزلته إلى أدنى مراتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلا لشغفها بليبرالية الاقتصاد والسياسة، واستغراقها في تعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدإ الرحمانية والعدل. أما النتيجة التي أدّت إليها أفعال العلمنة، فكانت فقدان العقل دوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أي شيء معياري خارج التحكيم الشخصي. وهذا ما يسميه الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تايلور "إيديولوجية إنشراح الذات" épannouissement de soi وهذه الأيديولوجية ـ كما يبين تايلور ـ هي شديدة الحضور والقوة في الثقافة الغربية المعاصرة. تلك التي استمدت قوتها من عصر الأنوار ونالت دعماً لا سابق له من الليبرالية الجديدة، وكل ذلك بذريعة الاعتقاد أن الكائن هو محور الكون. على حين سيغيب عنها أن هذا الكائن لم يفتأ برهة حتى استحال رقماً سليبّاً في منظومة رأس المال وجوعها الضاري إلى التكاثر.

لم تلبث العلمانية أن تحولت إلى ميتافيزيقا تلهم الدولة والمجتمع والمؤسسات. لكن لم تأمن مجتمعات الحداثة إلى العلمانية لمَّا استحالت لاهوتاً سلطويّاً يصدر أحكامه بلا هوادة. حتى إذا آنت ثورة النقد تهافت اليقين، وآل كل شيء إلى حضرة الشك. حتى قال الذين اكتووا برمضاء الخيبة: "علمانية التنوير ماتت، الماركسية ماتت، وكذلك حركة الطبقة العاملة. وأما المثقف فقد بات لا يشعر بأنه على ما يرام أو أنه أوشك على الموت".

*       *        *

تبدو الصورة على أتمِّها حين تُنقد العلمانية من أهلها. فلاسفة التنوير هم أول من افتتح مغامرة النقد ونزع الغطاء عن معايب الحداثة...

أدموند هوسرل سيمهِّد إلى مثل هذه المغامرة ويقول: "إن من دواعي التفلسف ان تكون مع التراث وضده في الآن عينه". وكان يتساءل: كيف يمكنني أن اهتدي إلى منهج يمنحني الخيط الذي أسير عليه لكي أبلغ العلم اليقين. ومع أنه كان من وَرثَة ديكارت إلا أنه أُخذ عليه قصور منهجه الرياضي في الكوجيتو. ودليله أن التفلسف فضاء لا متناهٍ ولا تحده حدود المعادلات الصمَّاء.

مارتن هايدغر سيمضي إلى حيث لم يقدر عليه الأولون من قبله. عنده الحداثة لم تفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوة جديدة من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدّاً بات معه على دراية بما انتهى إليه مشروعها من صدوع لا ينفع معها نقدٌ ذاتي، أو تبريرٌ إيديولوجي.

في مقام التفكير الفلسفي جرت وقائع النقد على نحو شديد الوقع: إدانة عارمة للعقل المجرد، وكرهٍ عميق لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان. حتى الماركسية والعلمانية الليبرالية اللتين حملتا مشاريع بديلة للرأسمالية التقليدية لم تنجوا من سوط النقد. فقد ذهب كثيرون من صنّاع الثقافة الغربية المعاصرة إلى النظر إليهما بوصفهما فلسفتين رجعيتين فقدتا رونقهما وعفا عليهما الزمن. ومبعث حكم كهذا من الأزمة الأخلاقية التي وَسَمت علمنة عصر التنوير ولمّا تنته إلى يومنا هذا. فإذا كان صحيحاً أن العصر المشار إليه قد أتاح للإنسان تحرير ذاته من تقاليد العصور الوسطى، إلا أن إصرار علمانيِّيه على إحلال تلك "الذات الفردية محل المتعالي"  سيقود إلى تناقض ذاتي، حيث تُرك العقل مجرداً من الحقيقة الإلهية، ثم ليتحول إلى مجرد أداة للتصنيع وإدارة السوق ومن دون هدف روحي أو أخلاقي.

من هذه الزاوية لم يرَ جمع من فلاسفة ونقاد ما بعد الحداثة إلا أن علمانيةً بهذه الصفات، لا ترقى لتكون قيمة أخلاقية متسامية. وما بيَّنه الفيلسوف الأميركي جون راولز كان حاسماً، لمّا رأى أن العلمانية ليست قيمة أخلاقية أو مفهوماً للخير، على الرغم من أنها شكلت في وجه من وجوهها إحدى قيم العدالة لجهة دعوتها إلى حرية الاعتقاد لدى الأفراد.

*       *        *

مع أن الدخول إلى فكرة العلمانيّة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذر لافت بين مفكري وفلاسفة الغرب، فلا ينفك التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية بمنهج نظر يشوبه التبسيط والاختزال، كما يحكمه الاندهاش والاستغراب...

في هذه المنزلة، يغدو أمراً ملحّاً مراجعة المعايير التي تحوّلت مع تقادم الزمن إلى يقينيات، لا سيما لدى النخب التي لم تدرك العلمانية إلا بوصفها أفكاراً ونظريات ووعوداً افتراضية. في هذه المنزلة أيضاً يصير ضروريّاً فهم حدود التمايز بين العلمانية كمفهوم ورؤية للعالم، والعلمنة كما تتبدى في حقل الاختبار والتجربة التاريخية. فإذا كان المفهوم هو على الدوام معيار البناء المعرفي لدى النخب التاريخية في العالمين العربي والاسلامي، فإن مفهوم العلمنة نفسه لم يتحدد بوضوح إلا وفقاً للاختبارات الميدانية وخصوصيات التجارب. فالعلمنة في الغرب ليست واحدة، ولا هي جرت على النشأة نفسها في البلدان المختلفة التي شهدت ثورات الحداثة ابتداءً من القرن الرايع عشر. ففي كل بلد أوروبي أخذ بالحداثة سبيلاً له كان للعلمنة فيه نسقُ يناسب هويته وثقافته وجغرافيته المعرفية.

السؤال في الغرب اليوم يعود ليتجدد حول مآلات العلمنة، بما لها وما عليها. سؤال يبدأ من النقطة التي انتهى إليها وكان مسبوقاً بها. أي من المنطقة المعرفية التي وضعت فيها العلمانية على الطرف النقيض من لقيم الإيمان والبعد المتعالي للشخصيّة الإنسانيّة.

تعليق عبر الفيس بوك