هل يتخطَّى الوعي العربي الأنظمة لبناء دولة وطنية خالصة؟!

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

هذه القفزة الثورية هل يستطيع فيها الوعي العربي تجاوز مكوناته ومكبلاته التاريخية، التي فرضت عليه فرضا فغيرت كثيرا من المفاهيم ولبست البعض الآخر، حتى دخل العقل العربي في عتمة من التغييب والانفصال عن الواقع، وحتى ازدادت الهُوّة الثقافية والفكرية بين نمط الوعي العربي والشعوب على المستوى العالمي، بعد حالة الاستقطاب والتهميش لطبقة المثقفين والمنظرين والمعلمين، وتم استبدالهم بنماذج تعمل تحت سمع وبصر السلطات والآلة الأمنية.

هذه المرحلة من التغييب خلال فترة ما بعد الاحتلال والتحرر، ما بعد الخمسينيات والستينيات، مرحلة التحرر من الاستعمار والاستعاضة بأنظمة وطنية بديلة أثبتت الحقبة التاريخية أنها لم تكن أخف وطئا على الأوطان والشعوب من سابقتها.

وقد دشنت لأجيال وأنظمة من الوعي المتهاوي والمتماهي، إذ لم تستطع بسياساتها أن تصنع عقلية وطنية  منتمية موالية بالمعنى الحقيقي لبلادها وأنظمتها، كما لم تدع مجالا من الاستقلال الذاتي لهذا الوعي الوطني أن يتكون بمفرده بعيدا عن سياسات الاستقطاب والاحتكار والصناعة الإعلامية المؤثرة، مستخدمة كل وسائل الصناعة الإعلامية بدءا من أنظمة التدريس في المراحل التعليمية المختلفة، ثم وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة.

ولولا هذا الإرث التاريخي الذي لا يمكن تغييبه أو مواراته، لتكونت حالة من الوعي المستسلم المسلِّم لقدر"ليس في الإمكان أبدع مما كان".

وبعد هذه الفترة من التغييب الوعيي والتوجيه المؤدلج، انتفضت الشعوب في لحظة قد ظن كثيرون أنها غابت في كهف الغفلة أبد الدهر، واستسلمت لأقدارها، قامت حركات الربيع العربي التي لم يكتب لها الاستمرار التاريخي نظرا لافتقادها خبرة الممارسة السياسية، وتمالأت كثير من الأنظمة الإقليمية والغربية لوأدها في المهد.

وحين توارت أحداث هذه الحركات ونتائجها، واستعادت النظم البديلة أوضاع سابقتها وسياساتها، برزت مرة أخرى انتفاضات كنوع من التداعي الثوري العربي المتوالي خلال العام 2019 من الجزائر وتونس مرورا بالسودان والعراق ولبنان، والذي يمثل امتدادا ربيعيا للتحرك الشعبي العربي والذي ظن الكثير أنها كانت زوابع خريفية ما لبثت أن أتت عليها رياح القمع فبدلت نهارها ظلمة، وبعدما اشرأبت الآمال والأحلام والأوهام تخطط لغد قادم يحمل معه بشارات الأجيال القادمة، التي تحمَّل أهلوها من أجل أن تحيا حياة محررة من مورثات السنين الحوالك.

ما لبثت توابع الربيع العربي أن هبَّت مرة أخرى كأنها توحي أنه لن يكون نصف حياة ونصف موت معا، فإما حياة وإما ممات:

أذل الحياة وكره الممات ** وكلا أراه طعاما وبيلا    

فإلم يكن غير إحداهما.. فسيرا إلى الموت سيرا جميلا.

استطاع هذا الامتداد الربيعي الأخير خصوصا في (العراق ولبنان) أن يتجاوز موروثا تاريخيا صعبا على مستوى التشكيل الممتد للبنية الاجتماعية (الطائفية) ويعيد صياغة اللحمة المجتمعية بنكهة جديدة تتجاوز الطائفية والعنصرية والديانة والعرق متمحورا حول مفهوم الوطن، ككيان سياسي اجتماعي يختزل نجاحه ونهوضه وتقدمه فيما يسديه إليه أبناؤه وقادته المختارون المصنوعون على عيون شعوبهم، لا القادمون على أسنة رماح الاستعمار.. الجاثمون على أنفاس الشعوب المستقوون بالرضا الغربي (الأمريكي الأوربي).

لم تفلح التدخلات الإقليمية في السودان، ولا الغربية في الجزائر ولا في تونس  أن تصيغ نظما جديدة على غرار القديمة، أو أن تحمي نظما بائدة فقدت كل معنى للولاء الوطني، واستمر على يديها نزيف الثروات والدماء حتى لم يبق إلا خياران كلاهما مر: الموت هلاكا، والموت حرية، فاختارت الشعوب الخيار الثاني واستطاعت على المستوى المُرضي أن تختار لنفسها حكومات بنكهة شعبية محررة نسبيا من الولاءات الغربية والإقليمية إلى حد بعيد.

ثم يؤمَّل أن يتكرر هذا النموذج في لبنان والعراق؛ وقد كادت الطائفية أن تأكل لحمة هذه الشعوب بعدما أتى الاحتلال على ثرواتها، وقد أُمِّرَ عليها أنظمة بولاءات غربية وإقليمية (فرنسا وإيران)، وإن كان شكلها ولسانها من جنس الشعوب وجلدته ..

لم ترض شعارات هذه الانتفاضات بشيء من الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وقد بدا أن هذا أمر قد ولى زمنه، واتسع الخرق على الراتق، ولم يعد هناك أمل أن يأتي على يديها إصلاح، فجاءت الشعارات مطالبة باجتثاث هياكل الأنظمة الحاكمة صاحبة الولاءات الإقليمية بكاملها دون القبول بشيء من الإصلاح الجزئي مهما كان شكله، إذ هي ترمي بحركاتها إلى إعادة هيكلة للنظم السياسية الحاكمة لتحل محلها أنظمة قادمة من نبض الشعوب وآلامها وآمالها  وحركتها الوطنية.

التجربة العراقية تبدو من الصعوبة بمكان لقوة الهيمنة الإيرانية والوصاية الأمريكية على النظم الحاكمة، وحزمت أمرها ببقاء الرئاسات الثلاث في أماكنها (رئاسة الجمهورية والنواب والوزراء)، مع الاكتفاء بالإصلاحات السياسية المزعومة، والتصدي للانتفاضة والثوار.

ويبقى الرهان الشعبي فقط على استمرار الثورة كحل وحيد قد يكون باهظ الثمن، لا يستبعد فيه أن يتكرر النموذج السوري؛ لكن البديل هو التنكيل بالثورة والثوار والقضاء على متصدري المشهد، كما يرمي إلى استمرار هذه الأنظمة الموجهة من الخارج بنفس السياسات ودرجات الفساد الغير مسبوقة في التصنيف العالمي لقطر من أعظم دول العالم إنتاجا للنفط.

أما النموذج اللبناني ومع استقالة الوزارة إلا أنه يبقى محتاجا إلى النمط نفسه من إعادة الهيكلة السياسية للتخلص النهائي من الطائفية المترسخة الجاثمة على أنفاس الشعب والمضيعة لثرواته من خلال فكرة المحاصصة السياسية واعتبار الوطن كعكة مقسمة بين الطوائف يأخذ كل منها نصيبة دون الاعتناء أو الالتفات لمقدرات الشعوب ومكتسباتها.

ويبقى السؤال.. حالة استطاعة الشعوب تجاوز هذه الأنظمة فرضا.. هل تستطيع هذه الحركات استكمال مسيرتها (بدون قيادة) وهذه أيضا من مساويها، وبدون برنامج سياسي مدروس؟ وهل تستطيع التصدي بمفردها للأنظمة الإقليمية والعالمية الرافضة لاستقلالها من حكوماتها، والسماح لها بقيام أنظمة وطنية خالصة؟!!

الإجابة صعبة جدا على السؤال، والثمن مقابل النجاح أصعب، قد يكلف الحياة والمكتسبات والأوطان نفسها!! ويبقى العون الإلهي وحده هو القادر على فك طلاسم هذه المعادلات، العصية على الحلحلة، الفادحة النتائج، البهيظة الأثمان!

تعليق عبر الفيس بوك