الحكمة القابوسيّة في الإدارة وبناء دولة المؤسسات

حاتم الطائي | رئيس تحرير جريدة الرؤية والمدير العام

 

فقه الأولويات في التجربة العمانية

وقد مرّت عملية بناء الجهاز الإداري للدولة بمراحل مختلفة، اعتمدت نهج التدرّج والتحوّل المرحلي المدروس والقائم على فقه الأولويّات، ولم تكن سياسة الدولة في يوم من الأيام تسعى إلى حرق المراحل أو القفز على المعطيات، وهو ما شكل الضمانة الأساسيّة لاستقرار المسيرة ورسوخ التجربة العمانية حتى باتت نموذجا يُستشهد به في المحافل التنموية الدولية. فكم من مؤسسة دولية وإقليمية أشادت بما تحقق من نهضة شاملة، وكم من وفود أجنبية جاءت إلينا للوقوف على التجربة العمانية في الإدارة وبناء دولة المؤسسات وتطوير الكوادر الوطنية.

***

 

جوهرة التاج في مسيرة التنمية

فلسفة إدارة شؤون الدولة وبناء مؤسساتها تمثل جوهرة التاج في مسيرة التنمية الممتدة منذ عام 1970، فعلى أساسها مضى قطار التنمية في محطاته المختلفة بمختلف الولايات، ووفق الرؤية الفلسفيّة العميقة لنهج الإدارة السامية لبلادنا تحققت المنجزات، واستطاع المواطن أن يقطف ثمار التنمية، وتمكّنت الدولة العمانية الحديثة من وضع أقدامٍ راسخة في ركب الحضارة المدنية المعاصرة، وبإذن الله تعالى تتواصل المسيرة في عامها الخمسين الذي أشرفت شمس أولى أيامه أن تشرق علينا لتضيء بأنوارها الذهبية أعواما وأعواما.

***

 

التنمية وبناء دولة المؤسسات مساران متوازيان ومتداخلان

ثنائية التنمية وبناء دولة المؤسسات، يعتقد البعض أنّ ثمة تعارض قد يقع أو أن إشكالية بنيوية قد تنشأ، غير أنّ الواقع المُثبَت في نهضتنا الشاملة برهن غير ذلك، فكانت التنمية وبناء دولة المؤسسات شعاعين متوازيين يضيئان مسيرة التطوّر والنماء والتقدّم. وكانت البداية في هذه المسيرة متمثلة في كيفية تدبير النفقات العامة للدولة، وتحقَقَ ذلك عبر الإدارة الرشيدة لعمليات استخراج الثروات المعدنية، والاستعانة بالخبرات العمانية المهاجرة، التي عادت إلى أرض الوطن لتسهم بسواعدها المخلصة في عملية البناء والتشييد. ومن ثمّ تواصلت المسيرة وتعمّقت التجربة العمانية رويدا رويدا، ووُضعت البنى الأساسية الكفيلة بانطلاقة تنموية لم تشهدها عمان على مر تاريخها، وبات المواطن ينعم بالرخاء والتنمية، وتساوى في ذلك المواطن القاطن في العاصمة مع أخيه الذي يسكن القرية في كل أنحاء عمان.

***

 

المساواة والعدالة والمشاركة

ثلاث قيم من النهضة المباركة تشكلت من وحي التنمية، فالمساواة والعدالة من بين أكثر القيم وضوحا على مدى عقود التنمية، فلم تفرق الحكمة السامية لجلالة السلطان في مشروعات التنمية بين ولاية وأخرى، أو بين شمال وجنوب، بل كانت يد التنمية مبسوطة في ربوع الوطن، تشيد مدرسة هنا وتبني مستشفى هناك. كما نال الرجل والمرأة والطفل والشيخ أنصبة متساوية من الحق في التنمية، فالجميع شرب من نهر التنمية الذي شقّ عمان من أقصاها إلى أقصاها.

قيمة أخرى من قيم النهضة يمكن قراءتها من خلال التطوّر التدريجي لمسيرة الشورى العمانية، والحرص السامي على إشراك المواطنين في صناعة القرار؛ حيث كان الحق للمواطنين والمواطنات في انتخاب من يرونه مناسبًا لتمثيل ولايتهم في مجلس الشورى، وبالتالي المشاركة الضمنيّة في دعم مؤسسات الدولة في عملية صنع واتخاذ القرار.

***

 

محوران شكَّلا منظومة التنمية الشاملة

استندت فلسفة الإدارة التي صاغتها الحكمة القابوسية في جوهرها على بُعدين؛ الأول: إيصال التنمية لربوع السلطنة دون توقف، والبُعد الثاني: بناء الجهاز الإداري للدولة، وكلا البعدين شكلا منظومة التنمية الشاملة والمستدامة في بلادنا. وما يميز هذه الفلسفة- فضلا عن عُمقها وتأثيرها الفاعل في المجتمع- أنّها واقعية وتتماشى مع معطيات الظروف، وتتلاءم مع كل المراحل والفترات التي مرّت بمسيرة نهضتنا، فلم تكن هذه الفلسفة يومًا معقدة حد استحالة التطبيق بل كانت مثالية في واقعيتها؛ حيث مزجت بين الأصالة العمانية التي توراثها العمانيون على مر القرون، وبين قيم المعاصرة والحداثة التي نهل جلالة السلطان المعظم- أيّده الله- من علومها ومعارفها خلال مراحل النشأة الأولى وما تلاها من دراسة في الخارج في أعرق الكليات العسكرية في العالم، إلى جانب الخبرات المتتالية في فنون السياسة وبناء الدولة والتفكير الاستراتيجي.. كل هذه العوامل صقلت المعارف السلطانية لدى المقام السامي، وساهمت في بلورة الرؤية الفلسفية لجلالته في إدارة شؤون الدولة وقيادة مسيرة التنمية بكل جدارة وإتقان.

تعليق عبر الفيس بوك