نحو تعليم ديني متصالح مع العالم (12)

ماذا نريد من التعليم الديني؟

 

د. عبد الحميد إسماعيل الأنصاري

كاتب قطري، عميد كلية الشريعة سابقًا

 

إننا اليوم- وبعد ظواهر التطرف التي اجتاحت العالم الإسلامي، وأسقطت آلاف الضحايا إثر السرطان الإرهابي الذي تمكن من شبابنا، وحولهم إلى قنابل متفجرة وآلات قتل وتدمير وإزهاق للأرواح وإفساد كبير في الأرض وترويع للعالم أجمع- بحاجة ماسة إلى (أنسنة التعليم الديني) ليصبح تعليماً يحتضن الإنسان الذي كرّمه الله تعالى (لكونه إنساناً) قبل أن يكون مسلماً أو غير مسلم، ذكراً أو أنثى، أبيض أو أسود، نريد أن يكون الإنسان محوراً أساسياً حاضراً في المنظومة الدينية، نريد تعليماً ينفتح على (إسلام الإنسان) طبقاً لجمال البنا، ويجلي النزعة الإنسانية في ديننا، طبقاً لمحمد أركون في طروحاته المستفيضة، والدكتور عبدالجبار الرفاعي، المفكر العراقي في كتابه المرجعي الهام (إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين).

نريد تعليماً دينياً يعلم شبابنا فن الاستمتاع بالحياة ومباهجها (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) كبقية شباب العالم، نريد تعليماً دينياً يُرغِّب شبابنا في العمل والإنتاج والتنمية، ويحفز طاقاتهم نحو البناء والإبداع والتعمير والابتكار والاختراع والاكتشاف، لا الكراهية والتعصب والتطرف والهدم والتدمير والموت، نريد تعليماً متسامحاً يغرس ويرسخ في نفوس أبنائنا محبة الإنسان، لكونه إنساناً، ويبعث دوافع الخير ومشاعر الحب في نفس المسلم تجاه كل إنسان، بل كل كائن حي، طبقاً للمفكر الإسلامي الشيخ حسن الصفار، والمبادرة إلى مساعدة الآخرين، وإشاعة البهجة والسرور والفرح في الحياة، وبث التفاؤل في النفوس، تعليماً يعمق القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية السامية في قلوب أبنائنا وعقولهم، فرسولنا، عليه الصلاة والسلام، (رحمة مهداة) بنص كتاب الإسلام الخالد (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) و(إلا) أداة استثناء تفيد الحصر، فكل المرويات التي تصور الرسول (سيفاً مسلطاً) على رقاب العباد، ساقط ولا يلتفت إليه .

نريد تعليماً دينياً يعلم طلابنا أن الجهاد الأعظم، هو الجهاد في ميادين السباق الحضاري: التعليم والمعرفة والإبداعات والكشوف العلمية، ميادين التنمية والنظم والتقنيات التي تنهض بمجتمعاتنا، وترتقي بأوضاعها إلى مصاف الدول المزدهرة.

ما بعث رسولنا، عليه الصلاة والسلام، سباباً ولا لعاناً، بل بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة وبالحوار البناء الذي لا يضيق بالرأي الآخر، فما لتعليمنا الديني وخطابه، لا يترجمان هذه التعاليم في المناهج والدروس والخطب الدينية، وبخاصة خطب الجمعة التي تختم غالباً بالدعاء على من يصورهم الخطيب أعداء للإسلام، لنكون الأمة الوحيدة التي تدعو على الأمم الأخرى؟!

نريد تعليماً دينياً يعزز المشترك الديني بين المذاهب الإسلامية والطوائف الدينية المختلفة، بما يساهم في التقارب والتعاون والتكامل، بدلاً أن يكون عامل تأزيم وتفرقة وشحن مذهبي وطائفي، وتغذية صراعات سياسية ومذهبية.

نريد تعليماً دينياً يبني (العقلية النقدية) عند أبنائنا، بما يقوي جهاز المناعة لديهم ضد أمراض الكراهية والتعصب والتطرف، ويحصنهم تجاه غزو الفكر العدواني العدمي، بالانفتاح على الفلسفات والثقافات والفنون، وثقافة الحوار، وقبول الآخر، والتسامح، وتعلم أدوات وآليات المنهج النقدي: المساءلة والمراجعة والتفكيك.

نريد تعليماً دينياً يزيل توجس العالم من شبابنا ومهاجرينا وإسلامنا، كما يزيل من نفوس أبنائنا الهواجس التآمرية التي تصور العالم لا هم له إلا الكيد للإسلام والمسلمين!

نريد تعليماً دينياً يقدم صورة حضارية للإسلام، ديناً للسلام والمساواة والعدالة والتسامح والأخوة والمحبة، يناصر حقوق الإنسان، وينحاز لحرياته وكرامته.

نريد تعليماً دينياً يساير التطور الاجتماعي والسياسي، ويستجيب للحاجات المجتمعية، ويراعي مصالح الناس، ويستشرف المستقبل.

أخيراً: تساءل الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)  1947، احتفينا به وروجناه، لأنّه أرضى عواطفنا، وجاءت الإجابة، بعد نصف قرن، على يد بن لادن وأتباعه، كارثة سبتمبر2001، وصعود المتطرفين، لنتساءل: كم خسرنا بزرع الكراهية في نفوس شبابنا تجاه العالم؟!