عبد السلام سنان.. شِعرية الومضة في لُجَّة الغموض

ناصر أبو عون

 

ليس من الإنصاف القول بأنّ هناك (شعر هايكو عربي) على النموذج الياباني، - رغم إنني كنت غائبا عن الوعي لفترة طويلة ومنحازا لهذا القول وسائرا معصوب العينين في ركاب المؤيدين له، وبعد انقشاع سحابة النقد الانطباعي عن سماوتنا، ولم نفلح في الإتيان بدليل يثبِت صحة القول بوجود (شعر هايكو عربي)، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحيث وقف المنهج مكتوف اليدين حائرا وعاجزا عن إسقاط عناصر وبناء قصيدة الهايكو اليابانية على نصوص "الومضة" العربية، و لَيّ عُنق (الشكل والمحتوى)، أو تجريد النص الحداثي العربي من عباءته وتلبيسه "الكيمونو. وهي في الأخير ليست غير نصوص إبداعية عربية قلبا وقالبا تعتمد المفارقةَ "استراتيجيةً" في نهاية المقطع الشعري لصناعة الدهشة. وللخروج من هذا الجدل الذي لن يفضي إلى مساحة مشتركة ننطلق منها جميعا في محاولة جديدة لتعريف الشعر في عصر الثورة الصناعية الرابعة.. ننطلق إلى نصوص عبد السلام سنان لنلقي الضوء على إبداع مغاير يكتنفه الغموض، لنفتح كوةً في جدار صلد لإزالة القُطرية المقيتة التي تُرصَّص حواجزها بين فنون الإبداع العربي.

 

وليس من ضير في هذا المقام الانطلاق من التعريف المجازيّ (للقصيدة) عند الشاعر الليبي عبد السلام سنان الذي يرى"القصيدة أحضان، شوق وشغف، مترامية الوهج، راسخة اليقظة" وبمحاولة الاقتراب من هذا التعريف وتشريح جُمله سيأخذنا إلى مساحات بعيدة، ودهاليز لغوية، وإحالات تراثية يتقاطع فيها النثر مع الشعر، والحداثي مع التراثي موسومة بالغموض الذي يتحوّل إلى حبل لولبي يلتف حول عنق النص ويكاد يخنقه.

 ومن ثَمَّ يمكن استعارة مصطلحات من قبيل (الدفقة الشعرية) أو (الومضة الشعرية) أو (المفارقة الإبداعية) والعديد من الاصطلاحات التي تعارف عليها سدنة النقد العربي حديثه وقديمه، في إطار قصيدة النثر العربية المعاصرة التي قطعت شوطا كبيرا في إثبات وجودها واحتلال مساحة كبرى من المشهد الإبداعي العربي حول العالم.

,,لم أتوقع أن تضعي الكون

بين كفيَّ! أنا مدينٌ لكِ بقصيدة,,

 

من هذا المدخل نستطيع الولوج إلى عتبات نصوص الليبي عبد السلام سنان الذي يتمتع بقدرة هائلة في إنتاج (ومضات شعرية) تلمع في حلكة المشهد العربي، تتمتع بقدرة هائلة على (الإزاحة)، و(الإحالة)، وتفتح عوالم لا نهائية من التأويل. لكن يظل الغموض المكثف والمتراكم في شكل طبقات مرمّزة في النهاية عائقا أمام القاريء يمنعه من التلقي، أو اختيار المفتاح المناسب لفك شفرة النصَّ.

,,فوق كاهلي ينتصبُ جرح حُبٍّ قديم

ورفاتُ قصيدتي الأولى، أكل الزمن أكفانها.!,,

 

نصوص عبد السلام سنان لا تتكيء على استراتيجية التأويل اللفظي فحسب؛ بل تعدت اللفظ إلى الصورة بفضل قدرة الشاعر على إزاحة سيل جارف من الصور الثرة إلى مناطق أبعد، ومعانٍ متناسلة ومتشظية في الزمان والمكان.

,,لم تعد تكترثُ لحرفي

أيُّ ريبةٍ ترهقني

عذرا أيُّها السطر,,

 

في عالم استبدل صوت القيثارة بزخات الرصاص، وموسيقى الطبيعة بدانات المدافع، ورقصات التانجو بحجلة الخارجين من الأجداث تحت الأنقاض، والسّلَّم الموسيقي بهبطات المرتزقة على أحلام الأطفال في حضن أمهاتهم تحت أزيز الطائرات، والوطن بالعشيرة، والمتن بالهامش؛ استطاع عبد السلام سنان أن يخلق عالما رحبا من الجمال، في حوافِّه وفي القلب منه المرأة الضاجَّة بالأنوثة كمعادل موضوعي للواقع المرتجى والحلم المأمول، وهي محاولة منه للقفز على الأوجاع والآلام والمخاضات اليومية التي تعيشها الأمة من محيطها إلى خليجها.

,,للهروبِ وجوهٌ أخرى :

:

:

المعاني قوافل محتشدة

لكنها تبقى في قصائدي

واحدة,,

 

ربّما انطلق عبد السلام سنان في قصائده القِصار، وومضاته الشعرية، ودفقاته الشعورية، كمشروع شعري محاولا تطوير أدواته، لتتوافق مع تقنيات العصر، وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، والاستفادة من الفنون البصريّة التي صارت سطوتها تُلقي بظلالها على الإنسان الذي أضحى مجرد خادمِ للآلة وعبدا للحداثة وأدواتها الرأسمالية الجامحة؛ وما انفكت تُسيّر كل شؤون حياته.

وبتقليب كتابات (سنان) نجد الومضة الشعرية معادلا موضوعيا لرسالة هاتفية قصيرة يمكن تمريرها عبر (الواتس آب، أو تغريدة ملّغمة على منصة تويتر) ومن هذا النوع نقرأ له:

  أنصتو! أيها العابرون لا تنبشوا رفات قصيدي، ثمّة حرفٌ رجيم.

 

وفي نصٍّ قصير آخر يستدعي الشاعر تقنية التعليق (Comment) بمعنى (ملاحظة أو انتقاد)؛ ولكنه يأتي في شكل رسالة SMS لاذعة يسحب على معا دفتر التاريخ وينتقي الهزائم الكبرى، ويعلّقها تميمةَ عارٍ في رقاب أجيال متتالية.. ويمكننا التيقن من ذلك في استدعائه لمفردة (الأندلس) لتكون (قُفْلا) للومضة الشعرية على نموذج أقفال الموشّحات؛ وإن كانت تتخذ من (استرتيجية المفارقة) خاتما (Stamp)

 

,,ولا قطرة في قاع القدح

لمن سأرفع نخب الثمالة..؟

وغربةِ النبيذ تقدّدني في منافي الأندلس,,

 

ولأنّ "الصورة السينمائية والشعر" وجهان لعملة إبداعية واحدة لذا نرى (سنان) يتخذ من المشاهد السينمائية القصيرة خلفية محايدة تقف وراء المعنى فلا تطغى على النصّ، ولا تجعله باهتا في حضرتها.

,,أنفاسها الأخيرة

خريفٌ أصفر الملح

اليقين القادم

من جوفِ الذهول

عند آخر صلاةٍ للريح

كُلّما اغتابني حرفٌ منكِ شاهق التأويل

أظلُ سرُّكِ الرائفُ بكِ

الماكثُ على ضَفّةٍ سماوية

كي لا تجوع أرض الهزائم

ولا تختلُ مسافات الغربة

ضعي روحكِ في نصابي,,

 

ويرتدي عبد السلام سنان ثوب (المونتير السينمائي) ويقوم بعملية Montage، ويبدع في "اختيار وترتيب مشاهد شعر/سينمائية" تتحول معها القصيدة إلى شاشة فضية، وتنتقل القصيدة من الحالة الصامتة إلى "رسالة محددة المعنى"، ويبرع في التوليف أو الـ" Video Editing" ويعيد إنتاج مشاهد شعرية/سينمائية تبدو مألوفة لكنها تتحول إلى دراما ذات خطاب متعمد موجه إلى الجمهور.

,,امرأة هشّة الظِلال :

:

:

ذاكَ النص المشنوق

حين صلبْتِهِ على حائطِ حُزْنكِ

زاد من لهفي على قلمي الحادق

سأدعكِ تقترفين عِظاتكِ اللئيمة

من محاريبكِ المنسيّة

ضميري في العتْمة

يتحول إلى وحشٍ نازي

يؤزني أن أدخّن أصابعك

يسيلُ وجهكِ نبيذاً

كغيْمةٍ لحوح

تتعرّى من أخمصِ الشغف

حتى آخر العطش

أيتها الفاتنة بدمعِ العنب

تفاصيلكِ غرائبية

تفاحة يلوكها شيطان أخرس

ثلجية الملامح زيتونية الذاكرة

كُفي أحزانكِ عني

تأبطي ذاك السر وأمضي

لقد خبأتُ عهدكِ في جيبِ سذاجتي

هذا العالم لا يتّسعُ لكلانا,,

 

ولكن يبقى "المونولوج" هو اللازمة أو الخاصيّة التي صارت ملاصقة لكل نصٍّ ينتجه عبد السلام سنان سواء أكان طويلا أو قصيرا .. الأمر سيان؛ فهو بارع في خطابه مع ذاته، يكتب لنفسه أولا، يشبع نهمها في الحكي، يفرغ شحنتها السلبية، ويثبط براكين الغضب الثائرة في قاع اللاوعي بالحوار مع الذات حيث لم يعد يأبه ولا يهتم بكل ما هو خارج ذاته.

,,أصفاد المعنى، خواءٌ عدمي كشهوةِ الثرثرة، دروب التيه احتدام الهاوية، الريح زلال الغيم، الشمس ضُرّة الأرض، الخريف رئة المطر، الليل مرابئُ الحزن، ينصبُ فِخاخه على النوافذ المطلّة على السراب، صدى الصهيل محضُ غِواية تخمشُ خاصرة النمش المحنط فوق نهد عجائبي التكوين، كأرْزةٍ عارمة، صِنوان الاخضرار، محمومة المدِّ والجزر، أنا سليل الغصّة وصوتٌ مسفوح على حائطِ اللغة، تلطمني حمم التأويلات، دعي لي ما تبقى من هوسي المهزوم في فلاةِ المداءات الشسوع، ليُمطرني خذلانكِ وابل من خُسْرانٍ مبين,,

تعليق عبر الفيس بوك