باحث عماني يرصد ملامح من الأسواق القديمة الأثرية في الشرقية

...
...
...
...
...
...
...

 

 

سوق الوسيّدة في قرية "بعد" بولاية المضيبي أنموذجا

تنشر "الرؤية" دراسة للباحث سند بن حمد بن محمد المحرزي (من قرية بعد بولاية المضيبي) يرصد فيها ملامح من الأسواق القديمة الأثرية في الشرقية، ويسلط الضوء خلالها على سوق الوسيّدة في قرية بعد بولاية المضيبي.

 

عاش الإنسان العماني في الأزمنة الغابرة نمطا من العيش يستحق الوقوف عليه واستلهام العبر منه (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى)، وفي الوقت ذاته نتعرف على طرق وأساليب التجارة في تلكم الفترة من الزمان.

وأقول مع أن الوسائل كانت صعبة وشاقة تحتاج لجهد عظيم قد يشق علينا نحن الجيل الحالي محاكاتها وتقليدها ولو على سبيل التمثيل.. وكذلك مما نستفيده من خلال التقييدات الواردة في الوثيقة أعلاه عن الشيخ العالم الفقيه عمير بن حامد المحرزي رحمه الله من علماء نهاية القرن الثالث عشر والثلث الأول من القرن الرابع عشر كان حيا إلى عام 1336 من شهر رمضان.. أي في عصر إمامة الإمام سالم بن راشد رحمه الله لوجود بعض المراسلات  والتقييدات الأخرى عنه التي من خلالها حفظ أخبارا بسببها اتضح لنا شيء من زمنه الذي عاش فيه عن سوق -بعد- وعن غيرها من الأخبار في المنطقة الشرقية بأجمعها... نص الوثيقة(قد بلغ في هذا الدهر جونية الأرز 12 قرشا وسدس عشر بيسات قد بلغ من سوق بعد في سنة 1331 وكتبه عمير بن حامد المحرزي بيده والقرش مئة بيسة وعشر بيسات - وفي سنة 1318 وفي سنة 1317 بلغ القرش ميتين بيسة وعشر بيسات وجونية الأرز 1322 بلغ 8 قروش) وفي موضع آخر قال (ووقع في جميع أقطار الشرقية محل واشدة الناس في هذا الوقت ووقع موت من مرض الطاعون والبطن والرياح هذه السنة وما قبلها من التاريخ في شدة المحل والغلاء نسأل الله السلامة وكتبه عمير بن حامد المحرزي بيده) والملاحظ أنَّ السوق يتأثر بارتفاع الأسعار ونزولها كباقي الأسواق العمانية.

وأقول والله أعلم إن الأسواق في تلك الفترة تأثرت بالحرب العالمية الأولى والثانية فارتفعت وغلت الأسعار وقلت الموارد والسلع بقلة التنقل والأسفار. ورغم ذلك ظل العمانيون صامدون لما اعتادوا عليه من اكتفاء ذاتي عبر أسواقهم التي تكون سلعها ومبيعاتها من بلدان ونتاج أرض عمان خصوصا الأطعمة من اللحوم الحمراء والداجنة والثروة السمكية ومشتقاتها من المأكولات البحرية (العوال والقاشع السمك المجفف الحبار الروبيان وغيرها) ومن الثروة الزراعية كالحمضيات والفواكه والتمور وسائر الأطعمة وكذلك صنع الحلوى العمانية التي هي شعار الأسواق المحلية ... وتلك الأطعمة والمنتجات هي من  حرث العمانيين وزرعهم في بلدانهم فتتمتع بالجودة والصحة ما لم يعد متوفرا في زماننا هذا الذي كترث فيه الأدوية والصناعات المحسنة والمبيدات الكيماوية التي أفقدت الأطعمة فوائدها وكثرت وتفشت الأمراض بسببها وابتلت الناس بأسقامها... نعود لصلب موضوعنا وجوهر حديثنا وهو سوق -بعد- وما أذكرها من ملامح عنه في هذا السياق فإنها تنطبق وتغلب على أكثر الأسواق في المنطقة الشرقية كسوق سناو وسمد الشأن وسوق المسيلة وإبراء وغيرها من البلدان ممن لم أذكر أسواقها.

يعد سوق- الوسيدة- من أقدم الأسواق في المنطقة ولا نعرف له تحديد زمن سوى أنه قديم قدم البلاد يقع في وسط البلاد أسفله فلج -بو لبانة- في محلة -الحجرة- تحيط به القلاع والبيوت الأثرية منها السكنية ومنها الحربية.. ولا زالت أطلال هذا السوق باقية كما توضح ذلك هذه الصور وهو عبارة عن محلات من حجر صغيرة في وقتنا كبيرة في زمنهم وبه عرصة المناداة للماشية وما يباع ويزايد أو يزابن عليه بطريقها وعادة المناداة يتكفل أحد الأشخاص ولها أعراف وقوانين بالأسواق..وبعض المرافق الضرورية التي يكتمل بها السوق من سور وممرات وأماكن البيع ورفع وتعليق السلع لعرضها  وعرض اللحوم ومشتقاتها وغيرها من التنظيمات التي يشترك أهل البلد في الإشراف عليها كل بدوره وبما يحسن والمتخصص بما يتقن... ومن الأهمية بمكان ما جاء في تقييدات الشيخ عمير ذكر العملات والنقود المتداولة بالسوق وهي عملة القروش والظاهر هو القرش الفرنسي أو الفرنسيس ماريا تيريز كما يطلق عليه العمانيون والبيس من عملة السلطان فيصل بن تركي بن سعيد بل إن الشيخ عمير كان يقوم القرش ويقابله بصرف بيسات المسكوكة العمانية- فليرجع إلى نص الوثيقة- وهذه صورة من هذه العملات وهي من مقتنيات وتراثيات كاتب هذه الكلمات...وهذا يتضح أنه من التنظيم والإدارة المتقنة لهذا السوق.

وكان هذا السوق لا زال حيا نشطا قائما إلى عام 1975 من الميلاد في بدايات عصرنا الحالي بقي صامدا إلى أن هجره الناس واستبدلوه بالوفود على الأسواق الأخرى وليتهم قاموا بتطويره بما يناسب عصرنا ونمط معاشنا لما ضاق عليهم ذلك لما فيه من الخير والبركة وإن شق عليهم تطويره استحدثوه بمكان آخر يواصل خدامته كما كان مع تقدم أفضل بالوسائل الحديثة والحكومة تعينهم بلا شك على ذلك بل وتشجع فيما علمنا والله أعلم.. أو على الأقل المطالبة بترميمه كمعلم أثري من تاريخ عمان ذاكرة للأجداد وإنني أناشد في هذا المقام الجهات المختصة بالقيام على هذه الأسواق بحصرها بمسمياتها ثم ترميمها وجعلها ضمن المعالم السياحة ولا مشاحة في الجهة الوزارية التي تستلمها فكلها جهود حكومية تصب في خدمة هذا الوطن العزيز.

هذه الأسواق  التراثية في خطر دائم بسبب الزحف العمراني الذي لا يبقي ولا يذر فعلى الحكومة التنبه لذلك وإلا فإنَّ خسارة التراث لا تعوض ... ويذكر أنَّ هذا السوق كان يستقطب الناس أهل البلدان القريبة المجاورة ومن كل مكان فذاع صيته وملأت الأرجاء شهرته بما له من تجارة تغطي احتياجات ومستلزمات الناس والأسر فلم يكن مجرد محلات باع أو لم يبع أو وفر السلع من عدمها بل كان على قدر راق من التنظيم من أجل ذلك استمر مئات السنين منذ القدم..

ولقد أخبرني والدي -حفظه الله- أنه كان يؤتى بالأسماك من مطرح على ظهور الحمير مشيًا على الأقدام وكانوا يعمدون إلى رشح الأسماك بالملح حفاظا عليها أن تفسد من طول مسافة الطريق وتأخر الوصول إلى السوق.

أما اللحوم فكانت طازجة تذكى وتعرض فتباع بوقتها وكانت من اللحوم المتوفرة وبكثرة لحم الوعل فقد كان بعضاً من رجال أهل لبلد يجوبونها شرقا وغربا وطولا وعرضا في الأودية والكهوف والجبال ومواطن عيشها فكانوا يقنصونها إما بطلق ناري وبعضهم لهم طرقهم الخاصة بالإمساك بها فيؤتى بها إلى السوق حية فتباع ومن جملة أولئك الرجال الشايب محمد بن حمد الزيدي من أهل بعد والزيود قبيلة تسكن -بعد- فحالها وآل محرز حال واحد.. ولا زال حيا وقد بلغ من الكبر عتياً نسأل الله له السلامة والعافية..

وكذلك الحلوى تصنع بشكل يومي وقد تشتهر أسر بتخصصها بهذه الصنعة منهم الوالد سيف بن سالم بن سعيد المحرزي كان واحدا من الذين يصنعونها ولا زالت الوسائل والمحل الذي به يصنع باقيًا.

وأما من حيث بقية السلع فكانت هي كذلك متوفرة منها بما أخبرني به والدي حفظه الله الطحين والأرز والقهوة والملابس الرجالية والنسائية وبعض الكماليات كالعطور وغيرها وهذه السلع والمعروضات كانت تجلب من سوق مطرح ويضيف قائلاً في بعض الأحيان تنقص بعض السلع والمعروضات فيذهب الأهالي لشراء ما يحتاجونه لسد نقصها من الأسواق الأخرى كسوق سمائل وسمد الشان وغيرها...وفي السنوات الأخيرة آل هذا السوق للشيخ القاضي حمود بن سليمان المحرزي رحمه الله بالشراء..فكان يقصد أصحاب المحلات ومن له ملك في السوق فيشتريه منه وبذلك خلص له وبلا منازع ...ولكنه وللأسف الشديد الزحف العمراني أخذ جانبا كبيرا من السوق فلم يبق منه سوى هذه الأطلال القليلة المتبقية مع ما كان من مساحة هذا السوق الذي كان يومًا من أكبر أسواق المنطقة.

هذا ما تيسر لنا في هذه الكلمات من توضيح لحقبة عاشها العمانيون ولا زالت آثارها باقية في واقعنا وفي ذاكرتنا فخرجت من صاحب هذا القلم هذه التوصيفات تذكيرًا لنا عن حياة الآباء والأجداد.

تعليق عبر الفيس بوك