كان يا ما كان المقهى!

د. رحاب الكيلاني| جامعة زايد - الإمارات

 

 ليس مبالغا به اعتبار المقاهي حاضنة فعلية لحركات التغيير على جميع المستويات السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء.  كانت رئة المدينة ومتنفسها إلى الخارج كما يقول علي حرب في أحد مقالاته، لا سيما مقاهي الرصيف الديناميكية، حيث كانت تدور حلقات نقاش لا عبثية. وليس من المبالغة القول إن ثقافة المقاهي أحدثت انقلابا في مفاهيم السياسية والأدب والقضايا الاجتماعية السائدة أنذاك، فبعد أن لعب الحكواتي دوره الهام في نشر الثقافة والوعي وسرد بطولات عنترة، والسيرة الهلالية ومرويات الزير سالم على أسماع المتحلقين حوله في المقاهي؛  أصبح للمقهى دوره الكبير حينما سكنه كثير من الكتاب والشعراء والفلاسفة والمفكرين تاركين بيوتهم ليتمركزوا في مقاهي مختلفة عرفت بهم، في عواصم العالم العربي، من القاهرة إلى دمشق مرورا ببيروت صوب بغداد.. كان لكل واحد منهم مقهاه الذي يعرفه ويعرف به. بعض المقاهي خلدت أسماؤها لأنها اقترنت بأسماء مشاهير  طغى حضورهم على حضور غيرهم، فاستطاعوا تحويل هذا المقهى أو ذاك إلى مكان أشبه بالمنتدى الثقافي، لتتجاوز المقاهي بذلك إلى حد بعيد وظيفتها الأساسية في استقبال محبي الشاي والقهوة.

وهكذا احتلت المقاهي على امتداد التاريخ ركنا أساسيا في إنتاج الآداب والفنون وتشكل الأفكار والنظريات إن لم يكن ولادة روايات واكتمالها على طاولات المقاهي حين يخلو الكاتب إلى نفسه مع كل الضجيج المحيط به من ثرثرة وموسيقى وطرقات النرد على الطاولات ورنين الملاعق،  ليخلق عالماً آخر من رحم الشارع ممتزجا بخيال الكاتب.

وما يميز هذه المقاهي حقاً، إضافة إلى زبائنها المعروفين وأماكنهم المعروفة هم ندلها وصبيانها الذين يعدون جزءا منها وليسوا ضيوفا طارئين يتبدلون، فهم عمودها وأساس حركتها، يحفظون أسماء الزبائن ومواعيد حضورهم وأمزجتهم ومشروباتهم وأصدقائهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية. 

هذا عن المقاهي القديمة، فهل بقي للمقاهي الحديثة (العالمية الطابع والاسم) والتي تقدم المشروبات نفسها في كل مدن العالم بالأكواب نفسها معتمدة زيا موحدا يطبع موظفيها بصبغة ثابتة باردة – هل بقي لها الدور نفسه أم أنها تغيرت ولم يعد لها دور فعلي في نشر الثقافة والوعي؟ وإن كانت تقدم ثقافة أخرى فما هو طابعها وأي قيم ترسخ؟!

يقدم ياسر حارب في كتابه ( بيكاسو وستاربكس) المقهى الحديث العصري بوصف سلبي وصورة أبعد ما تكون عن صورة المقهى التي ترسخت في الأذهان  حين يقول: (ستاربكس هو اسقاط مصغر للحياة التي نعيشها، فكل شيء فيه سريع حتى تحضير القهوة الذي يفترض أن يتم بتؤدة، يتعمد موظفو المقهى أن يستعجلوه أمامك، ثم عليك أن تحمل قهوتك وتمضي دون أن تحدث أحدهم، حتى لا تربك تدفق الزبائن وتحرق تقاليد المكان، يمنحك ستاربكس خيارات كثيرة، ولكنها قد لا تكون حقيقية)

قد يشعر المرء بأن دورها قد انقلب وصارت المقاهي رمزا لتبديد الوقت بلا فائدة، ومكانا لقطع الصلات بدل رأبها، وعلامة على صرف الشباب عن أعمالهم وهدر طاقاتهم.

قد نطالع على رفوف المكتبات روايات (قليلة نوعا ما كأسبريسو لــعبدالله النعيمي، وكتابا بعنوان كابتشينو لعبدالله الشعيلي) وقد نجد في بعض المقاه في عديد العواصم العربية زاوية فيها رفوف كتب مهملة تبدو للزينة بالدرجة الأولى، وقد نلمح لُمَاماً كاتباً منكباً على أمر ما.. وسنشعر بمزيج من الحنين والقلق، حنين إلى المقهى كرمز ثقافي وقلق على ذلك الرمز. وسيكون مشروعا حينها التساؤل التالي أيهما الأصح للمجتمع الإنتشار السرطاني للمقاهي العالمية ذات اللون الواحد أم البحث عن مقهى ثقافي بالسراج والفتيلة ؟

تعليق عبر الفيس بوك