التقنية الصمَّاء بما هي فلسفة ما بعد الغرب

محمود حيدر | لبنان

مفكر وباحث في الفلسفة

 

يتزامن الحديث عن حقبة ما بعد الغرب، مع السجال المحتدم حول الأثر العميق الذي أحدثته التقنية في البناء الفلسفي للحضارة المعاصرة. بهذا المعنى لم تكن الثورة العلمية بصيغتها التكنو- إلكترونية المستحدثة سوى تأسيس مستأنف لحادث معرفي يشكل تعبيراً جوهرياً عما "ما بعد الغرب" في أفقه الفلسفي. وما كنا لنخلع على هذه الحقبة صفة "الما بعدية" إلا لأنها انعطفت بحداثة الغرب نحو مآلات انقلابية عميقة في أنساقها طاولت ثوابتها وقِيمها الكبرى.

ولو أجرينا مراجعة تحليلية مجملة لتلك الحقبة لوجدنا أن الحضارة الحديثة شهدت انتقالات جذرية لم تقتصر على التغيير في السياسة والثقافة وعلاقات الإنتاج، وإنما امتدت إلى منهج التفكير وطرائق عمل العقل لجهة نشاطه في اكتشاف سر الوجود الإنساني والعالم المحيط به.

حين اختصر إيمانويل كانط مشروعه الفلسفي ورأى أن مهمته العظمى تكمن في تحويل الفلسفة إلى علم، فقد كان يمارس فعلاً غير مألوف سوف يؤسس لحقبة جديدة يمكن توصيفها بحقبة "ما بعد الفلسفة". ربما غَفِل كانط عن أن سحر العلم سيحجب قسطاً وفيراً من جاذبية التفلسف الموروث من السَلَف اليوناني. فبدل أن تُحفظ الميتافيزيقا بوصفها بحثاً دؤوباً عن حقائق الأشياء، فقد جرى تحويلها إلى علم تسري عليه المناهج الحاكمة على سائر العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتربية والفن وما سوى ذلك.

 

النتيجة الأساسية لمثل هذا الحدث المعرفي كان أن تحولت الفلسفة ومعها سائر العلوم الإنسانية إلى مجرد معارف مستتبعة لمقتضيات العلوم الطبيعة وبالتحديد للعلم التقني.

*     *     *

من البيِّن – كما هو معلوم - أن الحداثة الغربية بعد المنعطف الكانطي وظّفت أطروحة الإنسان كمركز للكون؛ لكنها ما لبثت إلا قليلاً حتى أخضعته لأوثان التقنيّة. وهنا ستبدأ إرهاصات "ما بعدية" مستحدثة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي سعى بدأب كبير إلى إنقاذ الميتافيزيقا من معضلتها الكبرى من خلال إعادتها إلى مهمتها الأصلية. فالتقنية التي أدت إلى "نسيان الكينونة" لم تعد - حسب هايدغر- تشكل تهديداً للمصير الإنساني، وإنّما أيضاً، تبديداً لأسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. ها هنا سيظهر غرب فلسفي آخر غير الذي عهدناه في التأسيسات الكبرى لعصر النهضة. وسيعرض لنا النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً إلى يومنا هذا سيْلاً وازناً من المعاثر الأساسية التي تعصف بالحداثة الغربية؛ ولا سيما منها ما يتعلق بـ "أزمة الأنسية". أي مشكلة الحضور المأساوي للكائن الإنساني في عصور الحداثة. فلقد كشفت التقنية عن مسار عام يسير نحو نزع الإنسانيّة (Disumanzzazione)، وانحطاط قِيَمَها وتهافت معاييرها. ولو نظرنا إلى حقيقة هذا التحول من زاوية فلسفة التاريخ، لألفيناه تأسيساً لتاريخ غربي غير واضح المعالم. وهذا التأسيس يشكل في الواقع افتتاحاً لبَدءٍ جديد يطوي سجلاً كاملاً من العمر الميتافيزيقي للغرب الحديث.

لقد ظهرت التقنية كفجوة تتوسع يوماً إثر يوم في بنية العقل الغربي الحديث. لعل أشدها وقعاً كان توضيع العقل في مواجهة الإيمان، والتقنية في مواجهة البعد الروحي للإنسان. والنتيجة أن وقع العقل الحديث في أحادية جائرة ستجرِّده من إمكانات هائلة هي ضروريّة لتجدّده الحضاري. أمّا السبب فيعود إلى شغف العقل الحداثي غير العقلاني بعقلانية العلم ومنجزاته. فالغلو بالعقلاني حين يصل إلى حدّه الأقصى يحدثُ مساراً ارتدادياً على العقل نفسه، بحيث تظهر علاماته باضطراب السلوك وعدم القدرة على ضبط حركة التقدّم في الميادين الحضارية كافة. من المنطقي القول بإزاء فجوة التناقض بين التقدّم العلمي والإيمان، أن الأشياء والظواهر لا تتضاد أو تتصارع إلّا بين أجناسها. ولكن لم يدرك العقل التقني - وبسبب من استغراقه في دنيا الرقمية الصمَّاء - إن العلم لا يمكن أن يحتدم إلّا مع العلم، والإيمان لا يحتدم إلّا مع الإيمان. والصراع الشهير بين نظريّة التطوّر ولاهوت بعض الطوائف المسيحيّة لم يكن صراعاً بين العلم والإيمان، كما يبين الفيلسوف واللاهوتي الألماني بول تيليتش؛ بل بين علم يجرّد إيمان الإنسان من إنسانيّته، وإيمان شوَّه التأويل الحرفي للكتاب المقدّس في تعبيراته. وتأسيساً على هذه الفرضية لن يكون ثمة صراع بين الإيمان في طبيعته الحقيقية والعقل في طبيعته الحقيقية. هذا التأكيد يشمل حقيقة تالية، هي أنه لا يوجد صراع جوهري بين الإيمان والوظيفة الإدراكية للعقل.

في الحداثة التقنية حصل الانشطار المزعوم بين الحقيقتين المتلازمتين. مما أفضى إلى "جاهلية جديدة" انبرى العقل يتوكَّأ فيها على المشاهدة والاختبار والتجريب. هي جاهليةٌ لا تعير أهمية إلا للعقل الأداتي الذي لا شأن له سوى الاستدلال طبق قواعد المنطق الصوري. أما الأهلية الوحيدة لهذا العقل فهي أن يصبّ القضايا المتأتية عن المشاهدة والاختبار والتجربة الحسية الظاهرية في قوالب الاستدلالات المنطقية المنتجة، ويقدم نتائج جديدة.

هكذا آلت الحداثة إلى الاعتقاد بأنّ تحصيل العلم بالكون لا يُنجز إلا وفق الشروط الخاصة به، ولا يعتمدُ على أيِّ شيءٍ خارج ذاته. وهذا المعتقد هو في الواقع تظهيرٌ شديد الكثافة لميراث عصر التنوير الذي نظر إلى العالَم كآليّةٍ ماديّةٍ مستقلّة. وتبعاً لهذه النظرة عُدَّت كلّ إشارةٍ إلى الفلسفة والإيمان الديني أمراً فائضاً عن الحاجة ونزوعاً إلى اللاَّعقلانيّة. مردُّ ذلك كلّه إلى تسليم الحركة التنويريّة، المطلق بقوّة العقل البشري وقدرته على تذليل الاستعصاءات التي تعترض اكتشاف الكون وفهم أسراره. لذا غالباً ما جرى التعامل مع العقلانيّة كحقيقةٍ قُصوى. حتى لقد أوشك كبار فلاسفة الحداثة وعلمائها على "تأليهها" لمّا رأوا كيف حُوِّلت الكنائس بعد الثورة الفرنسيّة إلى "معابد للعقل". في تلك الفترة من عمر الحداثة بدت العقلانيّة -وهي في غلواء توتّرها- أقرب إلى عقيدةٍ مرادفةٍ للإلحاد ومنتجة له في الآن عينه.

لقد ورثت ما بعد الحداثة عن الحداثة عقلانيّتها لتكون إحدى أهمّ مرتكزاتها الأيديولوجيّة. استظلّت بها لتمضي بعيداً في تقديس العلم، ثم لتحوّل العالم النيو- ليبرالي المعاصر إلى كينونةٍ تقنيّةٍ خرساء تدير ذاتها بذاتها. لقد أعلنت جهاراً أنّ الكون يعمل على نحو ما يعمل العقل حين يفكّر بصورةٍ منطقيّةٍ وموضوعيّةٍ؛ في حين أنّ الإنسان يمكنه في نهاية الأمر أن يفهم كلّ ما يدخل خبرته تماماً كما يفهم، مشكلةً رياضيّةً أو ميكانيكيّةً بسيطة. وبالتالي فإنّ القدرات العقليّة التي كشفت للإنسان سبيل صنع واستخدام وتشغيل وإصلاح أيّ آلةٍ منزليّة، سوف تكشف له في نهاية المطاف، السبيل إلى فهم كلّ شيء عن الموجودات الأخرى. لهذا السبب طاب للغالبية العظمى من رواد الفلسفة الحديثة الأخذ بالموقف القائل بأنّ المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيءٍ خارقٍ للطبيعة، وأقصى ما يُعرف به هو المجهول الذي قد يصبح يوماً ما معلوماً، ولا مكان في مخططهم الفكري أي حضور لقوى خارقة. وتبعاً لهذه السمات مضت الفلسفة العقلانيّة إلى عدم الإقرار بكلّ ما هو غيبي، ثم لتكتفي بالطبيعي، باعتباره قابلاً للفهم، وأن السبيل إلى فهمه في الغالب الأعم يتم عبر ما سمي بـ "مناهج ووسائل البحث العلمي"...

*     *     *

كانت التقنية حاضرة بقوة لمَّا نشر أوسويلد شبنغلر Oswald Spengler الطبعة الأولى من كتاب تدهور الحضارة الغربية The Decline of the West، في ستينيات القرن المنصرم. يومها عبّر بعض القرّاء عن اعتراضهم على بعض نتائجه، مشكّكين باقتراب انهيار الحضارة الغربية، إلا أن غالبيّتهم كانت تتوقّع الانهيار منذ زمن طويل. لم يكن هذا بسبب الحرب العالمية الثانية. على العكس، كانت الحرب وقت حماس وتكريس تامّ للنفس من أجل هدف مقدّس، وغدت المخاوف والشكوك المقلقة بالنسبة لمستقبل الثقافة الغربية طيّ النسيان. مع ذلك كله كان واضحاً وقتذاك أن الحضارة الغربية تسير بثبات نحو الانحلال. أما كيف ستبدو صورة الانحلال في خواتيمها الأخيرة، فهذا ما أخذت تنبئ عنه الميديا منذ عقدين من سيرتها المدوية؛ إذ حوَّلت المعرفة البشرية إلى مجرد رموز وأرقام وعالم بلا يقين...

تعليق عبر الفيس بوك