شمس نوفمبر المشرقة

حاتم الطائي

عمان اليوم شمسٌ مشرقة في سماء ملبّدة بالغيوم ونجم متلألئ يضاهي العالم المتقدم

الرؤية السامية ارتكزت في منطلقاتها على القيم الأصيلة والثوابت الوطنية لخدمة التنمية

نهج التدرّج رسّخ المشاركة السياسية للمواطن في صُنع القرار عبر مسيرة الشورى

 

 

 

 

لم تكن السياسة غائبة يومًا عن الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- بل ظلّت- ولا تزال- متجذّرة في أعماق هذا الخطاب، سواء كان منطوقًا في الخطب أو الكلمات أو الحوارات التلفزيونية والصحفية، أو ملموسًا عبر السياسات التي يطلقها جلالته، والثوابت التي أرسى دعائمها منذ فجر النهضة المباركة.

السياسة التي نتحدّث عنها هنا، ستكون جزءًا من سلسلة مقالات نوفمبريّة أسعى من خلالها إلى تكريس هذه النافذة الأسبوعية لكي يطل القارئ العزيز عبرها على بُعد إبداعي من أبعاد نهضتنا المباركة التي يقودها مولانا عاهل البلاد المفدى بفلسفة حكيمة وفكر نيِّر. وهذه السياسة تترجم الجهود والنجاحات الداخلية والخارجية، لرسم صورة ناصعة البياض للقيم السامية والثوابت التي على أساسها انطلقت الدولة العمانية الحديثة في عام 1970 نحو مسيرة التقدّم والرقي والسعي للحاق بركب الحضارة.

ومنذ أن ألقى جلالة السلطان البيان التاريخي الأول إلى الشعب العماني، كان التأكيد والحرص الساميين على الانتقال بعُمان إلى مصاف الدول المتقدمة، التي تأخذ بأسباب العصر وترتكز على معطيات الحاضر دون التخلّي عن قيم الماضي بأصالته وبريقه، وكان من بين العبارات الخالدة التي تضمّنها ذلك البيان التاريخي تعهُد جلالته بإنشاء دولة متطورة: "... وإنّي أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية..". هكذا كانت بواكير النهضة المباركة مليئة بالتطلّعات والآمال، وعامًا تلو الآخر تحققت وعاش الجميع في كنف الدولة الحديثة المعاصرة، التي وظّفت كل المقوّمات من أجل بناء المؤسسات وتشييد البنى الأساسية، فقد كانت النهضة المباركة انتقالا تاريخيًا من الماضي إلى الحاضر، استعدادًا للمستقبل، وفق أسس موضوعية وواقعية، وكان الارتكاز الحقيقي والسند والداعم الأول هو المواطن العماني، الذي سطَّر ملحمة وطنية على مدى تسعة وأربعين عاما من عمر النهضة المباركة، بوفائه وولائه إلى القائد الملهم والسلطان الحكيم الذي ما فتئ يكرس كل الجهود ووهب نفسه للنهوض بهذا الوطن المعطاء.

والخطاب السياسي لجلالة السلطان المعظم، استند في جوهره على مجموعة من العناصر الأساسية، وحزمة من الأهداف والتطلعات التي تحققت بالفعل خلال المسيرة الظافرة؛ أبدأُها بهدف تأكيد مكانة السلطنة الخارجية من خلال الأدوار الدبلوماسية والحضور العماني في مختلف المحافل الدولية، الأمر الذي أسهم في تمتع السلطنة اليوم بسمعة عالمية طيبة.

فمنذ العام الأول من النهضة المباركة، كانت المساعي السامية تسابق الزمن من أجل بناء علاقات دولية مع كل دول العالم، ولقد كانت مقولة "أريد أن أنظر إلى خريطة العالم ولا أجد بلدًا لا تربطه صداقة بعُمان"، نبراسا يضيء لجميع المسؤولين عن ملف العلاقات الخارجية دربهم ومساعيهم لتنفيذ رؤية صاحب الجلالة؛ في إقامة علاقات قويّة وطيبة مع مختلف الدول، مهما كانت درجة الاختلاف في الفكر أو الثقافة أو التاريخ، حتى تلك الدول التي كانت في مرحلة من مراحل التاريخ تناصب العداء لعمان أو تدعم تحرّكات هنا أو هناك، أقمنا معها علاقات طيبة تطوّرت حتى صارت اليوم قوية ومتينة، بفضل الحكمة السامية، التي ترى في دول العالم وشعوبها أصدقاء ولا شيء غير ذلك. ولذلك نرى بلادنا الآن تنتهج سياسة "لا عدو" وهو الوصف الذي تفضّله الصحف العالمية والتقارير الدولية عندما تتحدث عن سياستنا الخارجية، فبالفعل عمان لا تعادي أحدًا بل تسعى إلى نشر قيم الوئام والتسامح والسلام والصداقة مع الجميع، وهي القيم النابعة من التقاليد العريقة للعمانيين والتي ازدادت قوة بالدعم السامي لها، من خلال التأكيد عليها والحرص على تطبيقها مع جميع دول العالم دون استثناء.

وهذه السياسات الحكيمة في الشأن الخارجي، انعكست بطبيعة الحال على النظرة الدولية لعمان، فتحولت إلى واحدة من أهم دول العالم التي تتصف بالحياد والنزاهة في العلاقات الدولية، وهو ما دعا القوى العالمية للوثوق في السلطنة ليكون لها الدور المؤثر والفاعل في استضافة المفاوضات السرية والمعلنة للاتفاق النووي الإيراني الذي أبرم عام 2015، وأيضا الدور الإنساني المشهود للسلطنة في الإفراج عن بعض المحتجزين في عدد من دول المنطقة التي تشهد صراعات أو خلافات مع قوى عالمية. ولا شك أيضا أنّ الدور الخيري للسلطنة في الخارج ترجمة لهذه السياسات؛ فالجهود العمانية في عدد من دول شرق آسيا وأفريقيا والأراضي الفلسطينية المحتلة، جليّة، وتؤكّد الأبعاد الإنسانية للسياسة الخارجية، وتشير بوضوح إلى نهج السلام والإخاء والتعاون الذي تسير على خطاه بلادنا.

وإذا انتقلنا إلى الشأن الداخلي، نجد أنّ الخطاب السياسي الموجّه للداخل تماهى بالكامل مع تطلعات المواطن، فكان الحرص السامي من لدن جلالة السلطان على تطبيق سياسات وبرامج اجتماعية من شأنها أن توفر المعيشة الكريمة للمواطن، وأن تمتد يد النهضة والتنمية إلى ربوع الوطن من أقصاه إلى أقصاه، إلى جانب تعزيز المشاركة السياسية للمواطن في عملية صنع القرار وصياغة الأهداف التنموية وبناء مؤسسات الدولة. وسعت الرؤية السياسية لجلالة السلطان في الداخل إلى غرس الثقة في نفس المواطن وبأنّه قادر على البناء والتشييد من خلال دعم جهود الدولة في هذا الجانب. ونستطيع أن نرصد منذ العقد الأول لمسيرة النهضة الرغبة السامية في إشراك المواطن في وضع سياسات الدولة عبر نهج الشورى المتدرج، وممارساتها القائمة أحد أعمدة ديننا الحنيف وتقاليدنا الأصيلة، فكان مجلس الزراعة والأسماك والصناعة الذي تأسس عام 1979 بمثابة اللبنة الأولى في مسيرة الشورى العمانية الحديثة، حيث كان مسؤولا عن دراسة القوانين والأنظمة السارية في تلك الفترة، وسرعان ما شهدت مسيرة الشورى تطورا حتى أسس جلالته "المجلس الاستشاري للدولة" في عام 1981، يضم بين أعضائه ممثلين عن القطاعين الحكومي والأهلي. واستمر الحال هكذا في السياسات المتدرجة حتى عام 1991، أي قرابة 10 سنوات؛ حيث تأسس مجلس الشورى في هيئته المعاصرة، وأخذ منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا يمر بالعديد من المتغيرات والتطورات، التي منحته صلاحيات واسعة ومهام ومسؤوليات وطنية عديدة، منها ما يتعلق بالجانب التشريعي وآخر بالجانب الرقابي.

وتعزيزا للرؤية السامية في إشراك المواطن في العمل السياسي العام والإسهام في صناعة القرار، اشتمل النظام الأساسي للدولة الذي صدر في عام 1996، على تأكيد مبدأ الشورى، ليكون مبدأً دستوريا أصيلا، وقد تزامن مع ذلك إنشاء "مجلس عمان" في نفس العام لتتحول عمان في نظامها البرلماني إلى النظام القائم على غرفتين، الأولى مجلس الشورى وتضم، منذ عام 2003، أعضاء منتخبين من قبل المواطن مباشرة في انتخابات حرة نزيهة، والثانية مجلس الدولة الذي يضم أعضاء مُعينين من قبل جلالة السلطان، من كبار المسؤولين السابقين وأصحاب الخبرات والكفاءات الوطنية الرائدة.

وأخيرًا.. لا شك أنّ الخطاب السياسي لجلالة السلطان المعظم وضع الركائز المثلى للوعي السياسي للمواطن، والتي أخذت تتطور على مدى نحو نصف قرن، لتتخذ أشكالا عدة وتمر بمتغيرات أسهمت في بلورة الحياة السياسية العمانية؛ ووصلت في جوانب منها لمراحل نضج ووعي انتقلت بالدولة العمانية من النموذج التقليدي إلى دولة المؤسسات والقانون، القائمة على الحريّات والحقوق المدنية.. فعُمان اليوم، هي شمسٌ مشرقة في سماء منطقة ملبّدة بالغيوم، تموج بالأعاصير السياسية، ونجم متلألئ يضاهي الدول المتقدمة في الرخاء والمعيشة الكريمة للمواطن.