العرب أمام سيناريوهات الحرب والسلام (1- 3)

عبيدلي العبيدلي

تابعت وسائل الإعلام خبر مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، وركزت تلك الوسائل على قضية، جاء على هيئة تساؤل ملح هو: من هي تلك "الشخصية القيادية التي ستخلفه". تميز عن تلك التغطيات الإعلامية جميعا تلك الرواية التي وردت على موقع هيئة الإذاعة البريطانية الإلكتروني. ففي معالجته، والتي كانت تفصيلية، لخبر مقتل زعيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، أورد موقع هيئة الإذاعة البريطانية الخبر على النحو التالي:

"خلال أقل من شهر، طرأ متغيران متناقضان بشأن مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط: فمع بدء العملية التركية، برزت مخاوف من إمكانية هروب عناصر التنظيم المعتقلين لدى قوات حماية الشعب الكردية، ومن ثم عودة نشاط التنظيم في شمالي سوريا. واليوم، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، خلال عملية أمريكية في شمالي سوريا، أسفرت أيضا عن مقتل عدد من قيادات التنظيم. ويثير هذان المتغيران الكثير من الأسئلة بشأن مستقبل هذا التنظيم وما هي الاستراتيجيات والآليات القتالية التي سيلجأ لها بعد خسارته لقائده و "دولة خلافته"؟ وهل سيسعى التنظيم للاستفادة من معطيات العملية التركية الأخيرة في شمالي سوريا؟"

ثم ذيله مضيفا: " إنّ أي نظرة فاحصة في طبيعة السيناريوهات المستقبلية للتنظيم لابد من أن تنطلق من النظر إلى طبيعية الهيكلية التنظيمية فيه مقارنة بالتنظيمات الجهادية الأخرى وطبيعة العناصر المنتمية إليه". ولفت الموقع إلى أنّ "عددا من الباحثين يرى أنّ تنظيم الدولة الإسلامية شكّل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط الجماعات (الجهادية) العالمية، وبدت مبتكرة في العديد من خصائصها واستراتيجياتها".

التساؤل الذي يثيره هذا الخبر، والذي لم يرد في مقدمة تغطيته هو، ما هي السيناريوهات المحتملة التي تتربص بالمنطقة العربية، وليس بتنظيم الدولة الإسلامية وحدها؟ وكيف سينعكس مقتل البغدادي على إعادة رسم خارطة الحرب والسلام على المنطقة العربية خلال المرحلة المقبلة، انطلاقا من واقع هذه المنطقة، وليس واقع ذلك التنظيم؟

تساؤلات كثيرة تقترب أو تبتعد عن هذا التساؤل، الذي قد يرى فيه البعض شيئا من السذاجة السياسية، بل قد يعتبره البعض الآخر زجًا مفتعلا عند الربط بين الموضوعين: مقتل البغدادي، واحتمالات الحرب والسلام المتوقعة للمنطقة العربية.

لكن من يأخذ خطوة نحو الوراء، ويحاول أن يرى واقع المنطقة العربية، ومستقبلها من زاوية أوسع، سيكتشف إلحاح هذا التساؤل عليه، وحضوره بإصرار لا يمكن تفاديه. والسبب مصدره، أنّ هذه المنطقة لم تعرف السلام، منذ، في أقل تقدير، ما يزيد على قرن من الزمان، وتحديدا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. بل شهدت حروبا، مهما كانت محدودية دائرتها، كانت شبه مدمرة للمنطقة التي اندلعت فيها.

والعنصر المشترك الوحيد الذي سيطر على تحليلات أسباب اندلاع تلك الحروب، واستمرارها، هو مقولة وجود شخص أو دولة عربية، مسؤول عن إثارة "التخريب"، كما كان هذا التعبير سائدا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو "الإرهاب: كما أصبح مشاعا خلال الأربعين سنة المنصرمة، عند الحديث عن سيناريوهات الحرب والسلام المحتملة، التي "تتربص" بمستقبل هذه المنطقة. التي لم تنعم بالاستقرار، وعلى وجه الخصوص بعد اغتصاب الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية في العام 1948.

 إذا هناك عامل ثابت في المعادلة العربية يجعل من استتباب الأمن والاستقرار فيها مسألة تقترب من المستحيل، بل من التمنيات الطوباوية. يمكن سرد قائمة طويلة من الأسباب التي تفسر عدم الاستقرار العربي، بل استمرار ظاهرة العنف بأشكاله المختلفة فوق أراضيها، حتى بعد انقضاء فترة الاستعمار، ونيل البلاد العربية استقلالها بأشكال مختلفة.

بل يذهب البعض إلى إثارة السؤال مشوبًا بشيء من الاستغراب، الذي يمكن وصفه بالساذج، حول استمرار العنف، الذي طال بعض البلدان العربية التي، تبدو من النظرة الخارجية، قد قضت على كل مسببات العنف، بما فيها ذلك الذي مصدره محض اجتماعي.

يكمن السبب الحقيقي، الذاتي الذي يجعل من العنف ظاهرة عربية، بغض النظر عن الطرف أو الأطراف التي تقف وراء اندلاعه، داخلية تلك الأطراف أم أتت من الخارج، ونجد نحن العرب أنفسنا ضحايا له، ونتحمل تبعاته الرئيسة وحدنا، دون غيرنا مهما ادعى ذلك الغير، خلاف ذلك. هو عجزنا عن رسم السيناريوهات التي قادت المنطقة نحو ذلك العنف، مربوطة بسيناريوهات أخرى تستقرئ المستقبل الناجم عن تلك السيناريوهات الأولى.

السبب الحقيقي الذي يولد ذلك العنف، بل ويرعى أسباب تصاعده، ويعزز من قدراته على توسيع دائرة انتشار، ويقوى من عوامل استمراره، بل وتصاعده، هو وقوف العرب، دون أي استثناء، إلا بعض الحالات الجنينية التي ما يزال مستقبلها محفوفا بالمخاطر، بما فيهم مؤسسات البحث العلمي، ومراكز وضع الاستراتيجيات... وقوفها عند حدود تشخيص الأعراض، دون الغوص عميقا في البحث عن الأسباب، وحتى عندما تلامس تلك الأسباب، يحكم سلوكها الحياء الذي يصل إلى درجة الخوف، ويحول بالتالي دون رسم تلك السيناريوهات المطلوبة.

هذا الخوف عندما يتسرب إلى تصرف سلوك المؤسسات التي يفترض فيها أن تتولى الوقوف على الأسباب الرئيسة، وفي مقدمتها الذاتية، التي "تختبئ، بشكل مباشر أو غير مباشر وراء ظواهر عدم الاستقرار، أو بالأحرى العنف الذي يسبب تلك الحروب، يقود إلى فقدان مثل تلك المؤسسات القدرة على الرؤية الصحيحة، ويجردها من أسلحتها العلمية التي تساعدها على تحويل تلك القدرة إلى استراتيجيات تضع حدا لدورة العنف التي نتحدث عنها.

هنا وبدلا من أن تكون مخرجات تلك المراكز مجموعة من السيناريوهات العميقة، ذات الأبعاد لاستراتيجية، التي تقترح السياسات السليمة، نجدها تنحرف عن مسارها الصحيح، وتتقزم تلك السيناريوهات، كي تصل إلى مستوى التوقعات التي لا تتجاوز في أفضل حالاتها، تحديد بعض الاحتمالات.

هذه التوقعات، ونظيراتها من الاحتمالات، لا يمكن أن تكون بديلا لتلك السيناريوهات التي نتحدث عنها، والتي أشار لها ذلك الخبر الذي أورده موقع هيئة الإذاعة البريطانية.