ما الذي يحدث في لبنان؟ (1- 2)

 

عبيدلي العبيدلي

من يُتابع أحداث لبنان على وسائل التواصل الاجتماعي يكتشف أن تردي الأوضاع في لبنان، والتي قادت إلى انفجار أوضاعه، هي "نتيجة" وليست "سبباً" لما أوصل لبنان إلى الحالة التي بلغها، بما فيها تدهور الأوضاع الاقتصادية. أو هي كما وصفها البعض، "عرض" وليس "مرض". ولذلك لم تجد الإصلاحات التي تبنتها الحكومة ما كان متوقعاً منها، بل على العكس تصاعدت الاحتجاجات، وانتشرت المظاهرات في المزيد من المدن اللبنانية.

ربما انطلقت موجة الإضرابات الأخيرة مطالبة بوقف الضريبة الجديدة التي فرضت على المكالمات التي تستخدم الإنترنت، لكنها تصاعدت بشكل دراماتيكي حتى وصلت ذروتها فراحت تردد مطالباتها بإسقاط نظام الحكم القائم على المحاصصة الطائفية، من خلال إزاحة الطغمة الحاكمة.

فهل يقود ذلك التصعيد لبنان نحو نهاية طريق واحد سبقته إليه دول عربية أخرى في أحداث 2011، التي وصفها البعض بأنها "ربيع عربي". وتسقط حكومة الحريري؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، ينبغي معرفة ما يجري حقيقة في لبنان اليوم.

ما يحدث في لبنان، منذ اندلاع شرارة المظاهرات هو انفجار مخزون موقوت، تضافرت في توليده أربعة عناصر مهمة: الأول منها هو تنامي دور التدخل الخارجي، الإقليمي منه والدولي على حد سواء، في الشأن اللبناني الداخلي. فقد تزايد خلال العشرين سنة الماضية الحضور الإيراني في خارطة العلاقات السياسية، بل وحتى المجتمعية، اللبنانية. هذا أفقد اللبناني الثقة في خروج بلاده من دوامة العنف التي ولجتها، وولدت لديه ما يشبه الثقة، أن حل المشكلة اللبنانية، لم يعد بيد اللبنانيين أنفسهم، بل بات الحل في يد إحدى العواصم الإقليمية، ويقف اسم طهران في أعلى قمة لائحة أسماء تلك العواصم. دون أن يستثني ذلك عواصم الدول الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، وباريس، ولا يلغي دور كل من تل أبيب، ودمشق.

أما ثاني تلك العوامل، فهو الإحباط الشامل، الذي ألم بنسبة عالية من مكونات الشعب اللبناني، وعلى وجه الخصوص الفئة الشابة منه، إذا ما قيس بالثمن الباهظ الذي دفعه الشعب اللبناني، وليس زعامات الطغم السياسية الفاسدة، على امتداد سنوات تقترب من النصف قرن. قدم المواطن اللبناني تضحيات جسام، على أمل الخروج من النظام السياسي القائم، ووضع حد للأزمات الاجتماعية الممسكة بتلابيبه، وتوجيه الاقتصاد نحو مساره الصحيح.

لكن أيًا من تلك الأحلام اللبنانية الوردية، لم تعرف طريقها على أرض الواقع. فالمحاصصة السياسية القائمة على أرضية طائفية وفئوية، تعمقت جذورها، وشقت منطقها على نحو ممنهج، فتماسست إدارات الدولة على نحو أعمق فيما يتعلق بتقاسم المغانم وفق معادلات طائفية، وازدادت تعقيدا، وتعمقت رسوخا. ولم تعد تلك المحاصصة محصورة في إدارات الدولة، ومؤسساتها، بل نخرت جسم القطاع الخاص اقتصاديا، ومنظمات المجتمع المدني اجتماعيا. وانزلق المجتمع اللبناني برمته نحو هاوية الطائفية، كي يصبح أرخبيلا من جزر سياسية/اجتماعية، تعيد للذاكرة دول الطوائف.   

ثم يأتي ثالث تلك العوامل، والذي هو التكلس السياسي الذي عبر عنه استمرار القيادات التقليدية السياسية/المجتمعية، سواء في شكل شخوصها الذي تجاوز عمر الأكثر شبابا فيهم العقد الثامن من عمره، قضى ما يقارب من نصفها متربعاً على مقاعد قمة الهرم السياسي. ولم تشذ الأحزاب الجديدة التي ولدتها الحرب الأهلية، وخرجت من رحم الأحزاب التقليدية، من أمثال "حزب الله"، و"جماعة المستقبل"، وقائمة طويلة من تلك الأحزاب، عن تلك القاعدة، بل كرستها، وأعطتها أبعادا جديدة، مدتها بقدرات متزايدة أباحت لها أن تجثم على صدر الجماهير التي أولتها ثقتها، وتوهمت أنها ستقودها نحو التغيير. بل ربما وجد المواطن اللبناني أن من خلف أباه في كرسي القيادة، كان أسوأ أداءً من والده، وأقل شفافية منه.

وبذلك نصل إلى رابع تلك العوامل، وآخرها، وهو تردي الحالة المعيشية إلى مستوى لم يعد يطاق، بأي مقياس من مقاييس المجتمعات المعاصرة. فعلى مستوى الدولة، ارتفع الدين العام ليبلغ "نحو 85 مليار دولار، وأن معظم واردات الدولة تذهب لسداد فوائد ذلك الدين ما يحرم المواطنين من الخدمات وتوفير فرص العمل نظراً لغياب المشاريع المنتجة".

هذا يجعل لبنان كما تتحدث العديد من المصادر "يرزح تحت واحد من أعلى أعباء الدين في العالم، ويعاني من انخفاض النمو وتداعي البنية التحتية، كما يواجه ضغوطا في نظامه المالي جراء تباطؤ في التدفقات الرأسمالية. وأعلنت الحكومة حالة (طوارئ اقتصادية)".  يضاعف من هذه الأزمة على مستوى الدولة، ومن ثم الأداء الاقتصادي العام، تراجع "قيمة العملة اللبنانية، حيث تراجعت قبل الأزمة بأيام، مسجلة 1650 ليرة مقابل الدولار، في متاجر الصرافة، بعد أن ظلت ثابتة عند قيمة 1500 ليرة للدولار منذ عام 1997". وينقل أن سعرها تجاوز 1800 ليرة مقابل الدولار الأمريكي.

وجاء في دراسة غطت العام 2018، أعدتها قاعدة البيانات العالمية Numbeo "حول كلفة المعيشة إلى أن بيروت احتلّت المرتبة الـ 299 بين 540 مدينة عالميًا والمرتبة الثالثة بين 20 مدينة عربية شملتها الدراسة".

كما "صُنفت بيروت بالمدينة الأكثر غلاءً بين 104 مدينة في الدول ذات الدخل المتوسط إلى المرتفع المشمولة في المسح". ووفقا لنتائج الدراسة التي وردت في النشرة الأسبوعية لمجموعة بنك بيبلوس Lebanon This Week، فإن "كلفة السلع الاستهلاكية في بيروت أعلى من تلك في أبو ظبي، وتسالونيكي في اليونان". 

وجاءت بيروت في المركز العاشر "كأغلى مدينة في العالم حيال إيجارات السكن. فهي أكثر غلاء من سيدني وشنغهاي".

تتفاعل هذه العوامل، وتتضافر إفرازاتها، كي تضع الوضع اللبناني، ومعه المواطن اللبناني أمام جدار عال أصم. ومن ثم، ومهما تصاعدت المظاهرات اللبنانية، وازدادت حدتها، بل وتضاعف عدد الضحايا الذين، من غير المستبعد تساقطهم، في حال اشتداد حدة الصراع، لن يخرج كل ذلك لبنان من واقعه المأساوي، ولن يضع حدا لمشكلته المستعصية التي تقترب من نصف قرنها الثاني.

ومن هنا فما يحدث في لبنان، لن يعدو كونه زوبعة في فنجان، قد تزداد شدتها، وقد يطول أمدها، لكنها سترغم على المراوحة في مكانها، وأي تقدم تحرزه، لن يعدو كونه صوري، وهامشيا لن تلبث تأثيراته أن تذهب هباء منثورا.

 هذا لا يقلل من حجم التضحيات التي قدمها المواطن اللبناني، الذي ابتلي بقيادات سياسية أتى عليها الدهر وشرب.