النُّخب تنأى بنفسها عن "الشورى"

علي كفيتان

تابعت بعناية الدعاية الانتخابية على مواقع التواصل الاجتماعي، وحضرت بعض اللقاءات الانتخابية، وناقشت بعض المرشحين خلال الفترة الماضية، ولا أخفيكم أنني ما زلت مُتوجِّسا من الدوافع العظيمة للعملية الانتخابية في بلادنا، والبعض لا يُعير الاهتمام الكافي بتطوير تجربتنا الشورية، بل يعمل على قولبتها في أطر ضيقة يُفترض أننا قد خرجنا منها كمجتمع منذ زمن بعيد، ولا أخفيكم أننا نتحمَّس في بعض الأحيان ونصفِّق بحرارة لنظام القوالب، ومن ثم كل منا يجد نفسه أمام واقع مختلف.

ولعلَّه من اللافت أن النخب المثقفة تحاول النأي بنفسها عن نتائج التصويت، وفي ذات الوقت تجدهم فاعلين في الخفاء؛ فقد تجد الواحد يخطط مع المرشح الفلاني، لكنه لا يرغب في الظهور رغم أنه قد يكون ناشطا على مواقع التواصل ويتابعه آلاف الأشخاص، ولا تفسير غير أن تلك النخب ضعيفة وتخاف من مواجهة الخيار الأنسب الذي قد يضعها في مواجهة متابعين ذوي قناعات متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي تم اقتناصهم عبر رحلة صيد طويلة الأجل. والسؤال هنا: لماذا تقولون ما لا تفعلون؟ ولماذا توهمون الآخرين بدعمكم؟ في حين أنكم تفضلون الاحتفاظ بقواعدكم على منصات التواصل على حساب المصداقية في العملية الانتخابية وواقعيتها، وبهذا نجد أن من يسمون أنفسهم النخب المثقفة أو حتى المهنية يؤدون دوراً سلبيًّا كبيراً في تجربتنا الشورية.

برَّر لي أحدهم موقفه بأنَّ الخوف من النتيجة هو السبب؛ فقد يدعم مرشحا بكل طاقته، ومن ثم يخفق ذلك المرشح في بلوغ البرلمان، فيُنظر له من زاوية ضيقة على أنه دعم الشخص الخطأ، وبالتالي يسقط من عين متابعيه، بينما يظل الآخر المتربص يملك جميع الخيارات فهو يشجع جميع الفرقاء في الخفاء، وعند فوز أحدهم سيعتبر نفسه هو من خطط ودبر ولن يمانع في تلك المرحلة من منح المساحات الشاسعة للمرشح الفائز في صفحاته، وقد يبحث عن صورة قديمة تجمعهما أو يذهب للتهنئة ويقتنصها بهاتفه المحمول لكي يركب الموجة.

هذه المواقف الهزيلة لهذه النخب أسهمت -وبشكل كبير- في تراجع مستوى مخرجات المجلس، وبينت أن الرهان على النخب المهنية والمثقفة هو رهان خاسر؛ فهي لا تجتمع ولا تعلن دعمها لأي مرشح، بل تظل صامته كصمت القبور.

إذا كان المثقفون والمهنيون قد أخلوا الساحة؛ فمن الطبيعي أن يشغلها الآخرون الذين كانوا أكثر ثباتاً مع خياراتهم، ومن الطبيعي كذلك أن يكتسبوا قلوبَ السَّواد الأعظم من الناس، بينما تظل تلك النخب حبيسة جمعيات شبه مهجورة وصفحات على الفضاء الاجتماعي في الغالب وهمية. ونقول هنا ونحن على مسافة أسبوع من الانتخابات أيتها النخب ليس خطأ أن تدعموا مرشحا يمتلك برنامجا انتخابيا واعدا... وليس خطأ أن تدعموا فكرا شبابيا نيِّرا... وليس خطأ أن تدعموا المهنيين المدافعين عن حقوق الإنسان مهما كانت تبدو هيأتهم الشكلية أو مُعتقداتهم أو انتماءاتهم القبلية أو المذهبية؛ فهل تستطيعون التصالح مع ذواتكم والخروج للعلن عبر منصاتكم لدعم هؤلاء قبل الانتخابات؟

وختاماً نقول إنه إذا خاف التاجر على زبائنه، وإذا خاف الصحفي على قرائه، وإذا خاف الخبير الاقتصادي على متابعيه، والمحامي على موكليه، والطبيب على مرضاه، والمهندس على مصالحه التجارية، وراعي المنصب الرفيع على وجاهته... إلخ، فإننا نرى أنهم جميعا اتفقوا على تقديم مصالحهم الآنية على مصلحة الوطن التي لا تحققها إلا نخب مهنية واجتماعية مؤثرة، وهذا يعني أن الدولة لن تُوقظ تلك النخب السلبية لتختار الأفضل، وأن تكون فاعلا إيجابياً في تطوير المجتمع إذا ارتضت لنفسها هذه الدور المتواضع.

عُمان تستحقُّ منا الكثير وجلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- ينظر إلينا اليوم بعد مرور نصف قرن، أننا أصبحنا مجتمعا واعيا ومُدركا وقادرا على إحداث الفارق من خلال المشاركة الإيجابية في توجيه بوصلة البلاد والحفاظ على منجزاتها.