لبنان الجديد.. لبنان الذي يُريد

غسان الشهابي

بلدٌ إن تأته من مشرقه تعجب بتغرُّبه، وإن تأته من غربه تأسرك شرقيته.. بُقعة صغيرة في الوطن العربي، باريس الشرق، دُرة التاج المشرقي والعربي، بلد التناقضات الملهمة، بلد الثقافة والكتاب والتأنق في كل شيء، بلد الخوف والرعب والرصاص الذي يصرُّ على أسنانه في رغبة عبثية للانفلات والانطلاق على غير هدى.. بلد الهدوء النسبي المشوب بالقلق، بلد يُبالغ في اصطناع الفرح كخائف يمشي في زقاق مظلم ويصفر ليطمئن نفسه.. ولا طمأنينة.

بلدٌ عاثت به الرموز والأحزاب طويلاً، طولاً وعرضاً وأفرغوه من كونه بلداً، صيَّروه أصغر من قطع المرمر على حائط هذا العالم، علت الطوائف على البلاد.. يرددون "لبنان السيد"، وقد تناوبوا على رهن سيادته لأكثر من طرف، وقبضوا الرهن وتركوا البلد مرهوناً ورهينة ومسرحاً لصراعات أكبر منه، وأقذر من أن يتحملها.. ناء ظهره مرات بسبب المغامرات والاستعراضات والعنجهيات و..الخيانات! استقوى الكل على الكل، كشّر المسترزقون عن أنيابهم نيابة عن البارونات المترفين، تنمّر المتنمّرون، هدد المهددون، ولكنهم لم يصغوا لأصوات شعبهم.. ككل البلاد العربية، تصامّوا ولم يصغوا لأصوات شعبهم، لم يدركوا أن الماء في السدود وإن بدا هادئاً فإنه كفيل بتصدع السد، والويل كل الويل إن انهارت السدود، فهذا الشعب الجارف قد نزل ليكنس كل هذا الخراب والعبثية التي خلفتها المحاصصات، وجذرتها الفئوية الضيقة، وباركتها شهوة الزعامات.. شعب لا تنقصه الديمقراطية، ولا الحرية، ولكن ينقصه الشعور بالمواطنة الحقة، وركنها الأساسي المتمثل في العدل والمساواة والقدرة على الفعل.. شعب مكتنز بالوعي ولكن قمامة زعمائه تزكم الأنوف وصارت علامة فارقة في يومياته.. شعب يتسلل الوطن من بين أصابعه يومياً ليتقزّم أمام تغوّل زعمائهم الذين كنسهم صوت الناس اليوم.. بلد يخنقه اقتصاده المترنح، بل المنهار، ومن أوصلوه إلى هذه الحال في بحبوحة لا حدود لها!

هو لبنان.. لبنان الذي يدحر أعداءه الواحد تلو الآخر وإن طال الزمان، يخرجهم مجللين بالعار وبصفحات ملطخة بالرذائل البشرية، وهو والشعب الذي يُفترى عليه بأنه هالك ومتهالك ومنحل ومتهتك ومائع وضائع، ولكنه أثبت غير مرة، وأكد دائماً أنه موجود دائماً، على رجلين من صوّان يقف، على أعمدة بعلبك يقف، يرفع رأسه عالياً.. إنه العنقاء، ثاني المستحيلات، طائر الفينيق الذي يخرج من الرماد والدمار مصقولاً بالعزم، مغسولاً ببركات طوائفه التي تتوحد اليوم من أجل أن تشعّ جميعها وتلمع تحت وهج الشمس.

بلدٌ لم يعرف الربيع العربي في 2011، يهندس خريفه اللبناني في 2019، نسف أصنامه، أنزلهم منزلتهم الحقة، لم تعد عبارة "آخر همّي" صامدة وكفيلة بالخذلان، فلقد صار الجميع همّ الجميع.. ليعود لبنان المنفي إلى أرض الوطن!