جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ

 

أنيسة الهوتي

 

الذكريات تتلاشى مع التقدم في العمر وخَلق الخالق النسيان رحمة للإنسان، إلا أننا كبشر نتعلق بالذكريات الجميلة ونشعر بالحنين حين نسترجعها من خلال المذكرات والصور القديمة والروائح التي تبدأ بإنعاش مخزن الذكريات في الدماغ.

ومن الروائح التي تنعش ذاكرتي القديمة رائحة السمك الطازج، فجأة أرى نفسي تلك الطفلة الصغيرة في حوش ذلك البيت الصغير في حارتنا القديمة بمطرح واسمع صوت (ابوبكر ماهيجي) ينادي بين أزقة الحارة (سمك، سمك، سمك كنعد وسهوى وجيذر) والنساء يخرجن من بيوتهن كل واحدة منهن تشتري السمك الطازج لغداء ذلك اليوم من المصروف الذي أخرجه زوجها لها بالأمس ومن لم تمتلك فإنّها تسأل بائع السمك تأجيل الدفع؛ وكالعادة كان يوافق على الدفع المؤجل ويحفظه عن ظهر قلب. ولم تكن البيوت تكتظ بالمؤن الشهرية (الراشن) إنّما كان الرزق يؤتى كل يوم بيومه.

المهم أبوبكر هذا كان هندي الجنسية أحضره مواطن مسن وبدأ يشغله في مهنة بيع السمك وفي كل صباح من بعد صلاة الفجر يذهب أبوبكر مع "الأرباب" إلى سوق السمك لشراء السمك الطازج من الصيادين ويقطعه قطع نظيفة بدون عظم أو جلد أو حتى سواد، ويزن كل قطعة بوزن خُمس كيلو ويبيع كل واحدة بخمسمئة بيسة ويحوم في سبع حارات متصلة ببعضها إلى أن ينتهي في حارتنا (كهبون) ويكون قد أنهى بيع حصيلة يومه ذلك وأخرج رأس ماله بفائدة مضاعفة إلى الضعفين أو الثلاثة أو ربما أكثر.

والرجل المسن صاحب مشروع سمك الحارات قد أورث أبناءه من بعده - رحمه الله - ما يزيد عن سبع عمارات وعشرين بيتا وثلاثة عشر محلا في سوق مطرح وأراضي متوزعة في ربوع السلطنة، وكل ذلك من بيع السمك في الحواري بقيمة زهيدة وتوظيف موظف واحد وهو أبوبكر.

وكما قال حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: (تسعة أعشار الرزق في التجارة) - وإن كان حديثاً موضوعاً باتفاق أئمة الدين ولا نخرج عن اتفاقهم - إلا أن أغلب من ارتاد التجارة ربح منها من باب ما نرى، أمّا من لم يربح فلربما لم يخطط جيداً ولم يرَ أبعاد واحتياجات المجتمع للمشروع، أو تركها لشخص غير أمين دون متابعة أو لم يصبر عليها حتى تثمر فأنواع المشاريع كأنواع الأشجار بعضها يثمر سريعًا وبعضها يثمر بعد طول صبر وبعضها يثمر في مواسم مخصصة! ونوع الاهتمام والرعاية كذلك يختلف فبعضها يحتاج الكثير من السماد والماء والرعاية وبعضها يكفيها أن تسقيها في الأسبوع مرة! واختيار بيئة المشروع للمشروع هو كاختيار التربة والأرض النافعة لنوع معين من الأشجار. وعلى اختلاف الأشجار تختلف الثمار وفوائدها وقيمتها.

و"جنى الجنتين دانٍ" حتى في الدنيا فهناك الخير الكثير الموجود بيننا وحولنا، فقط علينا أن نتفكّر ونتدبّر ونخطط ثمّ نعمل ونجتهد ونصبرعلى هذا العمل ونتحمّل التعب والمشقة في سبيل نجاحه. وشد الهمة في البحث عن الرزق نقطة أساسية للتحرّك الإيجابي فالرزق أنواع وهناك نوع لا يأتيك إذا لم تسع له.

ومن الجانب الآخر، الجلوس في البيت وانتظار الوظيفة ضياع للوقت الثمين الذي رزقنا الله إياه للعبادة وللعمل، وهذين العملان هما منفع دنيانا وآخرتنا. ومن عجائب خيرات العمل أنّه عبادة تنفعنا في الدارين نكسب منه الأجر للآخرة ونكسب منه قوت الدنيا والوقت الضائع دون عمل خسارة كبيرة للفرد والمجتمع. لذا علينا استخدام الوقت لصالحنا من خلال فتح مشروع صغير على الأقل كبداية مع انتظار الوظيفة التي نتمناها ولربما حين تأتي الوظيفة بعد عمر طويل نكون قد استغنينا عنها! ولربما كبر المشروع الصغير ووفرنا نحن وظائف لغيرنا ممن كان يبحث عن عمل! فكما قال شيابنا: "اركب الهزيل تلحق السمين".

نعم لا نغض البصر عن المشاكل التي يواجهها الشباب في فتح المشاريع الصغيرة والتي أساس عثرتها هو توفير رأس المال، والعثرات الأخرى المتتبعة لها هي الرسوم والشروط التعجيزية في الجهات الحكومية لبدأ المشروع ونتمنى من هذه الجهات إرخاء الحبل قليلاً على شباب الوطن حتى لا يتسببوا بقطع أرزاقهم وخسارة مشاريعهم أو يتسببوا بعدم تشجيعهم على فتح المشاريع.

لكن إن واجهتنا هذه المشاكل والعراقيل فهذا لا يعني أن نتوقف مكانك سر، إنّما علينا أن نبدأ ولو بمشروع بسيط جدا لكسب قوت يومنا ونختار المشروع الذي يحتاجه المجتمع حولنا وتنفع البيئة المحيطة بنا كي نضمن نجاحه. وخزائن الله تعالى لا تنفذ أبدا فقط اسع ويبارك الله لك في سعيك. والخير كثير حولنا وعلينا أن نفكر ونتدبر.