الفرحة بالتقاعد السنوي للموظفين

 

د. عبدالله باحجاج

كشف التقرير الإحصائي السنوي لموظفي الخدمة المدنية لعام 2018 عن إحالة 2022 موظفا بالخدمة المدنية و594 خبيرا ومستشارا للتقاعد خلال العامين الماضيين، وكشف كذلك عن وجود 1349 من الموظفين بالخدمة المدنية في الفئة العمرية "50" سنة فأكثر، وهذا يعني قرب تقاعدهم، وقد انخفض عدد الموظفين العمانيين عن عام 2017 بمقدار 1198 موظفا، وهذا يعني أنّ عدد موظفي الخدمة المدنية ينخفضون بصورة ديناميكية متسارعة، وهم من قدامى من حمل هم وهاجس تأسيس النهضة العمانية المعاصرة.

ومن المؤكد أنّ هذه أنباء سارة لصانعي السياسة المالية في البلاد خاصة، وللكثير من المسؤولين والنخب الاقتصادية والمالية التي ترى في رواتب الموظفين حمولة وزنية ثقيلة على موازنة الدولة، ونصحوا إبّأن الأزمة النفطية عام 2014 خفض المرتبات، فكل همّهم الحسابات الرقمية للموازنة وفق نظرة أحادية تقليدية قديمة جدا لجأت إليها السياسة المالية للحكومة في عام 1986.

والتعامل مع الأرقام المجردة دون انعكاساتها الإيجابية على المجتمع لن يخدم مظلة الاستقرار والأمن في البلاد، وكما قلنا فإنّ أية سياسية مالية أو ضريبية أو رسوم إذا لم تراعِ ديمومة هذه المظلة فهي مرفوضة، من هنا نقول بصوت مرتفع، إنّ تلكم الأرقام تشكل لنا قلقا مرتفعا، وكل من يعرف الحالة الاجتماعية والمالية التي ستؤول إليها أوضاع هؤلاء المتقاعدين سينحاز إلى جانبنا تعاطفا؛ وربما استدراكا للأوضاع نفسها التي قد يجد كل واحد منا فيها نفسه عاجلا أم آجلا.

وكل من يفرح بالتقاعد هو يعيش في أبراج عالية من العيش الرغيد، وينظر للآخرين من معايير ثرواته وعقاراته وعماراته، وقد جادلنا فعلا في ذلك بعض المسؤولين والأكاديميين، وكان ردنا قاسيا لكنه ضمن سياق موضوعي؛ وسأختصره في التساؤل التالي: كيف يصبح المسؤول والأكاديمي غنيًا يملك العمارات والشقق والرصيد في البنوك وهو لا يملك إلا راتبه مثل هؤلاء الموظفين؟ نهدف من ذلك لجم هذه الأفواه لدواعي صمتها، وحتى تترك الأقلام تدافع عن مصالح المواطنين الذين لم يتمكنوا من الاقتراب من مانحي المنافع والمصالح والهبات مثل البعض، أو حالت ضمائرهم دون استغلال مناصبهم وعلاقاتهم؛ فظلوا قانعين بنصيبهم، آمنين على ما اؤتمنوا عليه؛ لكن ينبغي إنصافهم في مرحلة تقاعدهم، وهذا غير موجود الآن رغم التوجيهات السامية منذ عدة عقود.

هناك فعلا توجيهات سامية صريحة وواضحة منذ عام 2013، بتوحيد معاشات التقاعد للخدمة المدنية مع ديوان البلاط السلطاني، إدراكًا من لدن جلالته -حفظه الله- بعدم المساواة في مرتب التقاعد بين الوحدات المدنية، فاختار أعلى نموذج للمساواة رحمة بشعبه وتقديرا لظروفهم الصعبة، واعتدادا بمبادئ المساواة والعدل المنصوص عليهما في النظام الأساسي للدولة في المادتين "12 و17".

غير أنّ المجتمع تفاجأ بتعديلات على قانون معاشات ومكافآت ما بعد الخدمة لموظفي ديوان البلاط السلطاني العمانيين، فماذا عن تطبيق التوجيهات السامية؟ وهل تعديل تقاعد موظفي الديوان إلى الأفضل مؤشر على انسحابه على الخدمة المدنية في حالة تطبيق التوجيهات السامية بالمساواة وفق تقاعد الديوان؟ إذا قلنا أنّ ذلك فيه الاحتمال؛ لكن مسيرة التقاعد في وزارات الخدمة في تواصل، وبمرتبات تقاعدية متدنية، وغير متساوية مع ما وجه به عاهل البلاد- حفظه الله-.

وكل حالة من تلكم الحالات التي أحيلت للتقاعد كسابقتها، ستجد أوضاعها قد انقلبت حسب درجاتها المالية، الأغلبية منهم "70%" بسبب راتب التقاعد، فكيف نفرح بهكذا أوضاع؟ وكيف تترك السلطة التنفيذية المواطنين يصلون إلى هذه الأوضاع؟

تناولت في مقال سابق قصة شاب وجد مصيره أخيرا في سجن الأحداث بعد أن عجز والده عن دفع مصروفه اليومي الكافي، فكيف لمصروف "500" بيسة يوميا أن يغطي احتياجات شاب؟

هذه قضايا غير منظورة، والكثير منها يقع تحت السطح الاجتماعي، لكن تداعياتها ظاهرة، وكاشفة للعيان، لذلك لن نفرح بل نحزن لكل من يحال للتقاعد سنويا بنظام تقاعد الخدمة المدنية الحالي، ونُحمِّل الفاعلين الذين اؤتمنوا على خدمة المواطن مسؤولية التداعيات؛ لأنّهم لم ينفذوا حتى الآن التوجيهات السامية؛ ولو نفذوها فلن يكون هناك مكان للحزن.

لذلك، لدينا شعور وتفاعل مع معاناة كل متقاعد، فكيف لا نقلق بعد سماعنا تلكم الأعداد التي أحيلت وستحال قريبا إلى التقاعد، فموجة تقاعد الجيل الذي حمل هم وهاجس تأسيس نهضتنا الحديثة، يحالون سنويا إلى التقاعد.

فإلى متى سيتم تأجيل تطبيق التوجيهات السامية بتوحيد المعاشات في الخدمة المدنية؟ الرجاء عدم الفرحة بتلك الأعداد المُحالة للتقاعد، ففرحتكم قد تكون عدم تقدير لمعاناتهم.