مـلاك

 

عبير الشبلي | مسقط

                

دائما في آخر كل جملة على السطر لابد من نقطة تعلن انتهاء الحكاية.. إلا أنا لم تنفع معي هذه الخطة.. وقد صارت بداية لحكاياتي المكتومة في أعماق صدري المشحون بحمم وبراكين من الأحاسيس والآهات.

قررت الآن أن أنثرها مع  الريح أريدها أن تتطاير لربما تكون أحلاما لعابرين.. لكن كيف..؟! لا يصير.. لربما كانت الريح غاضبة فتهب وتطفئ ذاك السراج المنير المعلق بين أجنحتهم.. والأرواح هشة كالزجاج.. 

تأملت فنجان قهوتي.. كعادتي استنشقت رائحتها الزكية وتركتها تداعب خلايا رأسي.. وقد اختلطت فيه أحاسيسي.. تارة يسمو بي لأعانق السماء.. وتارة يأخذني إلى مشارف الجنون.. وبين هذا وذاك أتأكد من تأرجح أيامي.. أرتشف قهوتي بمرارها وحلوها وتسير الأيام نحو مستقبل مجهول..!!

أمسكت قلمي .. وكتبت على صفحة خد الدفتر أول حرف.. لم أكمل وسرعان ما مزقت الورقة ثم تلتها أخرى .. حاولت أن أفجر ينابيع فكري ولو بكلمة لكنها أبت إلا أن تبقى داخل السجن..!!  لماذا أشعر بهذا الكم الهائل من رعود مشاعري وأتلمس البرق في جسمي .. ولكني أعجز عن التفوه بشيء.. كما لو أنها مقيدة بالأغلال..!! ارتشفت رشفة أخرى.. شعرت بأني بخير.. كما لو أني من على شرفتي أطير من مكان لآخر.. لا تلوموني فإدماني بها من نوع آخر..!!

تناهى لي صوتٌ في الجانب الآخر من المنتزه.. كانت أسرة صغيرة.. أم وأب وطفلة في منتهى البراءة.. لا يشغلها تفكيرها سوى تلك الأرجوحة المعلقة.. وبضع ألعاب أخرى.. لكنها أصرت إلا أن تتأرجح أولا.. كان صوت ضحكاتها يتناهى في أرجاء المكان.. بدت كربيع الحياة وبراعمه المتفتحة التي تملأ والديها بروائح زكية عطرة. ولكنها مشاكسة أيضا عندما تجاهلت نداء والدتها لها للتهرب من موعد شرب الدواء.

لا أعلم ولكني وددت لو أقترب منها وأشاركها لعب وضحك الأطفال.. والركض خلف الفراشات.. فهم يعيشون اليوم بيومه؛ بل الساعة بساعتها ولا يأخذهم التفكير ولا التخطيط لغد ولا يفكرون كيف سيكون وماذا سيعملون.

صبا ..صبا.. صوت أمها تناديها.. وتفتح لها ذراعيها أن تعالي يا حبيبتي الصغيرة لنلعب معا.. ركضت مخلفة واراءها الألعاب وكل شيء.. لتهب في أحضان أمها.. والسعادة تملأها. رغما عني وأنا جالسة على هذا الكرسي الخشبي العتيق.. كنت أسترق النظر إليهما.. وبدوت كطفلة ترقب بشغف دميتها لتمارس معها كل طقوس الأم والابنة.. فكرت أن الأمومة أعظم هبة خصَّ الله بها النساء.!         

تعمدت أن ألفت نظرها لي بإشارة من يدي.. على الرغم من صغر سنها تبدو ذكية وشديدة الملاحظة.. ابتسمت لي ثم أخفت بيديها وجهها الجميل.. فرحت جدا.. وأشرت لها تعالي معي ..وبدت وكأنها تريد ولكن الخوف يمنعها.. لم أحب اجبارها.. تركتها تلعب وتركض وتصرخ فرحا كيفما تشاء.. فعالم الطفولة لا يفهمه إلا من عاشه.. آهٍ كم أحن إلى تلك الطفولة البريئة التي ما فارقت روحي يوما ..يوم كنا نحسب الأيام والسنين لنصبح كِبارا.. وعندما رشدنا تمنينا لو أصبحنا طيلة العمر أطفالا.

بدا المنتزه جميلا بوجودها.. قررت أن أطيل جلوسي على هذا الكرسي وأظل وقتا أطول في المنتزه.. حقيقة الأمر لم أرد مغادرة المكان إلا بعد مغادرة صبا ووالديها للمكان.                                                                                     شعرت بالملل.. فكرت أن أمشي اتجاهها.. حيث تلعب.. كنت أريد أن أجري معها حوارا بريئا ليس إلا.. اقتربت أكثر .. ومثلما يقال للأطفال أحاسيس بمختلف أعمارهم ولكنهم لا يعترفون بها.. فتكون بخواطرهم وتنعكس عن طريق نظراتهم البريئة.

يبدو واضحا أن كانت تحن للاقتراب واللعب معي.. سألتها: ما اسمك يا أميرة؟                                                                قالت وقد تضرجت خديها بحمرة الخجل والغضب: اسمي صبا ولست أميرة.. ثم وعلى عجالة ركضت اتجاه والديها.. أفضت لهما بشيء ما.. لا أعلم.. كانت تبدو فرحة بجنون الصغار..                                                                حزنت وانتابني شعور بالخذلان.. من حيث ادعاء الفرح حيث لا فرح في الحقيقة.. صبا ذهبت ولن تعود.. كنت على وشك الرجوع إلى مكاني وحيدة إلا من بقايا أوراق أبت أن يلامس بياضها الحبر.

ولكن صبا فاجأتني حينما عادت أدراجها إلي وبيدها قطعة حلوى.. مدتها لي برقة وخجل ثم عادث راكضة إلى والديها.. يبدو أنهم على وشك مغادرة المكان.. لوحت لي مودعة ببراءة وابتسامة تلون ثغرها الطاهر.                                           

كم فرحت.. وكم حزنت.. وكم وكم .. حتى أني تمنيت لو أنهم أطالوا الجلوس في المكان.

قررت أن لا شيء يستدعي بقائي وعلي المغادرة أيضا ..ربما أردت أختم نزهتي بصفاء الطفولة البريئة ونقاءها. جميعنا غادرنا المنتزه.. ولم يبقَ أحد إلا الحارس. السيارات مركونة في المواقف والمكان شبه خال من الحركة.. إلا من ضجيج صبا.. وضحكاتها التي تملأ المكان حينما أخذت تسابق والديها إلى السيارة.. كانت أمها تصرخ.. صبا.. صبا.. توقفي لكنها لم تستمع لنداءاتها.. حتى والدها ناداها غاضبا.. ولا فائدة..

شعرت بتوتر جسمي.. كنت بجانب سيارتي أتابع كل شيء.. وفجأة حدث أمرا لم يكن في الحسبان ..لا أعلم من أين ظهرت تلك السيارة الحمراء.. كانت مسرعة جدا في الوقت الذي كانت تركض صبا بفرح على الشارع.. أمها تصرخ: صبا لا.. وكأن صاعقة عصفت بي ولم أقوى على الحراك.. وقد اصطبغ الشارع بلون أحمر قانٍ.. وأشلاء ملاك صغير بلا روح..!

تعليق عبر الفيس بوك