هدية مكيافيلي

أحمد الرحبي

إبداء النُّصح في السياسة بالاعتماد على أنَّ هناك العديدَ من الرجال الذين يعرفون جيدًا كيف يتجنبون ارتكاب الأخطاء أكثر مما يعرفون كيف يُصحِّحونها، قد يكون موضوعَ هدية مُزجَاة إلى أمير لا تُعادلها هدية أخرى في القيمة، وكما قالت العرب: "النصيحة تساوي جمل".. هذه النصيحة التي تستهدف بالدرجة الأولى عقلًا يُدرك تمام الإدراك ما يفهمُه غيره، ويستفيد منه أفضل استفادة، وهو قرينُ عقل قد يُدرك الأشياء بنفسه، لكن لا يستغنِي عن النصيحة رغم ذلك، وهو نقيض عقل ثالث لا يعي الأمور لا بنفسه ولا بغيره؛ فيُعتبر بين هذه الطبقات الثلاثة لا جدوى منه، حينما يتَّصف العقل الأول بالجيد، والعقل الثالث بالممتاز، في تقسيم العقول إلى طبقات ثلاث لا رابع لها.

وبالنسبة للهدية التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي لم تجرِ العادة قبل ذلك بأنْ تُقدَّم بين يدي أمير في قالب من النصائح في مضمونها، وبأن تكُون في رسالتها: جَعْل الفهم والمعرفة هو محمولها الثمين المزجَى إلى الأمير؛ فبحسب العَادة المُتبعة تكون الهدية المقدَّمة إلى مقام رفيع، خاصَّة بالنسبة لأولئك الذين يطمحُون لاستدرار العطف بأن يضعوا بين يدي صاحب مقام رفيع أثمن ما لديهم، ويظنُّون أن إدخال السرور والرضا بالهدايا الثمينة الباذخة من صنوف الزينة الترفة التي تليق بعظمة شخص رفيع المستوى؛ فإذا كان النُّصح في العادة يجلب الامتعاض؛ فكيف به حين تكون هدية استطاعت أن تجلب لصاحبها الحظوة والشهرة والصيت.

مع كتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي المُهدَى إلى لورنزو دي ميديتشي حاكم فلورنسا الجديد، تختلف الهدية من مُجرَّد استرضاء مُتزلِّف بغرض التقرُّب النفعي المرتبط بالمادة ونيل الحظوة من لدن مقام رفيع؛ فهي تنسجمُ مع سموِّ غاية المؤلف في إيصال خبرته التي تحصل عليها عبر تجربة طويلة في الشؤون الحديثة، وقراءة متمعنة في تجارب الأزمنة القديمة، ووضعها بين يدي الأمير في قالب تعليمي منهجي، يُتيح للأمير الجديد في ظرف وجيز فَهْم خُلاصات تجربة طويلة في ممارسة السياسة وتأمُّل شؤونها.

لقد صبَّ مكيافيلي جلَّ خبرته التي جمعها طوال خمس عشرة سنة قضاها في خدمة جمهورية فلورنسا؛ فلقد خوَّلت له تجربته السياسية التعرُّف والاتصال بالرموز السياسية الإيطالية والدولية في عصره؛ فقد كان رجل المهمَّات الصعبة بلغة عصرنا الراهن؛ فقد أوفد في فترة ازدهار مدينة فلورنسا، في عدد كبير من البعثات الدبلوماسية والعسكرية داخل إيطاليا وخارجها، أظهر فيها حنكته السياسية ودرايته بشؤون الدولة وأحوالها.

ويأتي تأليف مكيافيلي لمؤلفه في فترة اعتزاله بعد حياة حافلة بالحركة والأحداث السياسية الكبرى، وهي عُزلة جاءت نتيجة إقصاء وإبعاد تعرَّض لها مكيافلي عن مسرح الفعل؛ بعد إقالته من منصبه ومنعه من مُغادرة مدينته؛ مُتعرِّضا أثناء ذلك للاعتقال والتعذيب وخيبة الأمل، ومعتصمًا بذاكرة الكتابة، أراد مكيافيلي بتأليفه كتاب الأمير الذي لم يستغرق في كتابته سوى عدة أشهر، المحاولة لاستعادة مكانته في قلب عالمه الأثير؛ عالم السياسة والدبلوماسية.

بَقِي القول إنَّه لم يتعرض كتاب كما تعرض كتاب الأمير لمكيافيللي للظلم والتجني طوال قرون منذ صدوره، ومصطلح المكيافيلة الشهير في السياسة والذي يعني "الغاية تبرر الوسيلة"، هو خير شاهد على شيطنة وأبلسة هذا الكتاب، الذي استطاع  مكيافيلي من خلال الأفكار التي طرحها فيه، أن يحقق  نقطة تحول مهمة في تاريخ الفكر السياسي، وأن يضيف إلى الفكر السياسي نهجا مهمًّا في التعامل السياسي، وهو ما بات يعرف بـ"الواقعية السياسية".