التحول الرقمي يتطلب تحولا ثقافيا أيضا!

عبيدلي العبيدلي

التحوُّل الرقمي.. عبارة بات العالم يسمعُها تتكرَّر في مُعظم المؤتمرات واللقاءات الدولية، بل وحتى في نشرات الأخبار الإذاعية؛ بما فيها تلك التي ليست ذات علاقة وثيقة بتقنية المعلومات. وتزخَر مواد التقرير "التحول الرقمي الذكي.. ما هي الخطوات المقبلة؟"، والمنشور في مجلة "أخبار الاتحاد"، التي يصدرها الاتحاد الدولي للاتصالات، بمعلومات قيِّمة حول مسألة "التحول الرقمي"، في مختلف مناحي الحياة، خاصة في قطاع الاتصالات، والعلاقة بين التحول الرقمي ونظيره الثقافي.

ويحملُ الكثيرُ مِنَّا مفهوما خاطئا، بل ربما مُضلِّلا لهذا التعبير عندما يحصره في الجوانب، أو الاستعدادات، التقنية، رغم أهمية الدور الرئيس الذي تضطلع به تلك الاستعدادات في رحلة الهجرة نحو المجتمع الرقمي، الذي ينبغي أن تسبقه رحلة معقدة، وأحيانا طويلة، تعرف باسم "التحول الثقافي".

وهناك الكثير من التعريفات التي حاولتْ أن تضع إطارا محددا لهذا التعبير، لربما يكون ما جاء في الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا"، الأقرب إلى ذهن القارئ العادي، الذي يحاول أن يبني مفهوما مبسطا يمكنه من فهم التعبير، ويزوده بالقدرة على التعامل مع الظواهر التي ولدتها ثورة "الرقمنة".

حسب تعريف الموسوعة الإلكترونية، فإن التحول الرقمي هو "التحول في الأساليب التقليدية المعهود بها إلى نظم الحفظ الإلكترونية، هذا التحول يستدعي التعرف على كل الطرق والأساليب القائمة واختيار ما يتناسب مع البيئة الطالبة لهذا التحول. والتحول إلى الرقمية ليس صيحة تموت بمرور الزمن، بل أصبح أمرا ضروريا لحل كثير من المشكلات المعاصرة؛ من أهمها: القضاء على الروتين الحكومي، وتعقد الإجراءات في ظل التوجه إلى الحكومات الإلكترونية، وكذلك القضاء على مشاكل التكدس وصعوبة الاسترجاع".

ومن القضايا المهمة التي يثيرها ذلك التعريف، هو وضع عملية التحول الرقمي في فئة "الأمور الضرورية لحل المشكلات..." التي لم يعد هناك مجال لتحاشي الاندماج في العلميات التي باتت تفرزها إستراتيجيات التحول الرقمي. الذي لم يعد ينتظر من يلتحق بركبه، فهو زاحف نحو الجميع، برضاهم أو برفضهم.

وهناك بعض الحقائق على أرض الواقع، التي تُؤكد صِدق هذه المقولة؛ فقد شهدنا شركات عملاقة مثل شركة كوداك الأمريكية، والتي كانت مستحوذة على 90% من السوق الأمريكية لصناعة الأفلام، تضمحل، وترغم على مغادرة تلك السوق، في حين تدهشنا تجربة شركة تأجير السيارات "أوبر" التي تخترق أسواق سيارات الإجرة، وتحظى بحصة لا بأس بها منها، رغم أنها لا تملك بحوزتها ولا سيارة واحدة من التي تقدم خدماتها. والسبب واضح وجلي، فبينما رفضت كوداك الاستجابة لنداءات التحول الرقمي، هرعت نحوه شركة أوبر.

وتصفُ قناة سكاي نيوز مثل هذا المشهد، لكن من زاوية أخر، قائلة: "على الصعيد العالمي، شهدنا بعض الشركات التي لم تعد مستمرة في السوق، بسبب عدم مواكبتِها للتحولات الرقمية الجديدة، بالمقابل، كان هناك بعض الشركات التي أدركت مدى أهمية هذه التحولات لبقائها، سارعت إلى الاستفادة منها، وكانت النتائج معبرة وتستحق عناء تلك الاستثمارات المالية والجهد الذي تم تخصيصه لذلك".

ولا يقتصر الأمر على البقاء في السوق أو الاضطرار إلى مغادرتها؛ فرحلة التحول نحو الرقمنة، تترك بصماتها على الكثير من المجتمعات المنضمة لها، أو الرافضة للانصياع لشروطها. هذا ما يشير إليه الأمين العام لاتحاد المصارف العربي، وسام فتوح، حين يتناول تأثيرات الذكاء الاصطناعي، وهو ركيزة مهمة من ركائز رحلة التحول تلك، على أسواق العمل الإيجابية. ذلك أن "نسبة الوظائف التي تتطلّب مهارات الذكاء الاصطناعي شهدت زيادة تقارب خمسة أضعاف على الصعيد العالمي منذ العام 2013، ويتوقّع -بحسب خبراء في الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات- أن تُدار العديد من الوظائف والخدمات فى منطقة الشرق الأوسط بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي، الذي سيعمل -وفقاً لشركة "غارتنر للأبحاث"- على إنشاء 2.3 مليون وظيفة، بينما سيقضى على 1.8 مليون فقط، وبحلول العام 2022 سيعتمد واحد من كل خمسة موظفين في الطلب على الذكاء الاصطناعي للقيام بعمله".

ولا يقتصر الأمر على سوق العمل، بل أصبح التحول نحو الرقمنة، يؤثر على أداء الاقتصاد الوطني، ويترك بصماته فوقه؛ مما تطلب قياس تلك التأثيرات من خلال وضع المؤثرات الكمية والكيفية، تحت مجهر فاحص يقيس "مؤشر أداء التحول الرقمي الوطني".

وتشير بعض المصادر إلى أنه "وفقًا لتقارير العام 2017، فإن الزيادة 1% فقط في وتيرة المعاملات الإلكترونية تسهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.04% وتخلق أكثر من عشرين ألف فرصة عمل".

لكن ورغم الزخم الذي اكتسبته خطط ومشروعات التحول الرقمي، تبقى هناك عوامل مضادة له، تضع العصي في دواليب تلك الخطط والمشاريع. يتصدر تلك العوامل المناهضة الثقافية لرحلة التحول الرقمي. هذا ما يشير له مدير مشروع تحويل مجموعة تليكوم في تليكوم إندونيسيا، سيف هداية، حين يصر على "إن أكثر ما يقاوم التغيير إلى أنه مهما كانت الصعوبة هو الثقافة".

والمقصود بالثقافة التي تقف في وجه ذلك التحول الرقمي، هي تلك الثقافة التي تقف في وجه الابتكار. هذا ما ينوه له الرئيس التنفيذي لمختبرات شركة (Orange) في طوكيو، اليابان جان ميشيل سير حين يشرح موضحا أهمية الاستعداد الثقافي لعملية التحول الرقمي قائلا" لقد أطلقنا أكثر من "500 شركة أخرى بحلول العام 2020،... الهدف هو تغيير الثقافة إلى ثقافة ابتكار. ويبدو أن معظم الناس يتفقون على أهمية تطوير ثقافة".

هذه الدعوة نحو زرع ثقافة جديدة تقوم على الابتكار، وتقاوم الثقافة السائدة المتمسكة بالركود الذي يبلغ الجمود في مراحل معينة، هو ما ينبغي الالتفات نحوه من لدن الجهة التي ستأخذ على عاتقها مهمة التحول الرقمي.

ولربما سيكشف من يقود عملية التحول الرقمي أن حجم الاستثمار في "التحول الثقافي"، سيفوق في حجمه، ومن ثم تأثيراته، ذلك المرصود للاستثمار في عمليات التحول في "التحول التكنولوجي"، دون أن يعني الاستخفاف بحجم هذا الأخير.