إلى أين نمضي؟

المستقبل يبدأ الآن (3)

د. صالح الفهدي

يُقال: "إنَّ السفينة التي لا تُحدِّد وجهتها، لن تستفيد من الرياح المواتية"، هذه حقيقة، وما لم تقلهُ الحكمة أنَّ السفينة إنْ مخرت دون تحديد وجهةٍ فسوف تتقاذفها الأمواج، أو تقفُ مشدوهةً في اللامكان، مسلِّمةً أمرها للرياحِ كي تُوجِّهها أينما تشاء، ينطبقُ عليها المثلُ القائل: "إنْ لم تعرف الطريق، فكل الطرق تصلحُ لك"!

هذا ما يحدثُ لكثيرٍ من الدولِ التي لم تحدِّد وجهتها نحو المستقبل، أو أنَّها تخطُّ رؤى مستقبلية ثم لا تجيد تنفيذها، أو أنَّها لا تستطيع أن تشق الطريق إليها، ثم تبقَى قابعةً مكانها، حائرةً لا تدري ماذا تفعل..! في الوقت الذي تظهرُ فيه القدرة على القيادة.

السُّؤال المُحتَّم هنا/الآن: هل يُمكن أن تضع الدول مُخططاً لعشرة أو عشرين أو ثلاثين عاماً؟ أعتقدُ شخصيًّا أن الأمرَ باتَ صعباً للغايةِ، إن لم يكن مستحيلاً، ولنأخذ الحالة الماليزية مثالاً، ففي العام 1991 أعلن عن رؤية ماليزيا 2020، والتي بموجبها ستهدف ماليزيا إلى أنْ تُصبح دولة متقدمة تمامًا خلال 30 عامًا. ثم ضربت الأزمة الاقتصادية العميقة الأثر نمور آسيا ومنها ماليزيا عام 1997م، وكان لها أثرها الهائل على تداعيات الاقتصاد رغم إدارة مهاتير للأزمة بحنكة ومراس، وفي العام 2003، خرج من رئاسة الوزراء ليترك ماليزيا ورؤية الثلاثين عاماً بين أيادٍ لم ترع تطبيق الطموحات المرسومة في رؤية 2020، وبلغ الفساد أوجَّه في رئاسة نجيب تون عبدالرزاق؛ مما حتَّم على مهاتير محمد -وهو في أعتاب التسعينيات من عمره- أن يعودَ لرئاسة الوزراء مرة أُخرى لإنقاذ تلك الرؤية، ولتصويب مسار ماليزيا العصرية التي بناها، فأصبح رئيساً للوزراء في منتصف العام 2018م.

إنَّ أيَّة رُؤية بعيدة المدى تواجهُ متغيراتٍ داخلية أو خارجية؛ فالمتغيرات الداخلية تنشأ لأسبابٍ متعددةٍ؛ منها الفساد الذي ينهبُ ثروات الدولة، وعدم الاستقرار السياسي، وعدم كفاءة القيادات المسؤولة عن تنفيذ الخطة، وعدم إعداد أجيال قادمة لتحمل مسؤولية الرؤية البعيدة المدى. أما المتغيرات الخارجية، فمنها الحروب، والأزمات الاقتصادية والنزاعات الدولية.

هذا لا يعنِي الاستغناء عن الرؤى المتوسطة والبعيدة المدى، ولكن يحتِّم عليها أن تكون متكيفة مع المتغيرات كما يقول رالف أمرسون: "نحن لا نستطيع أن نتحكَّم في مسار الرياح، لكننا نستطيع أن نكيِّف مسار الإبحار"، فالعالم مقبل على عملية تغيُّر هائلة خلال الأعوام القليلة المقبلة، بيد أن بعض الدول ما زالت لا تدركُ أين تتجه، ناهيك عن معرفتها اتجاه العالم..!

إنَّ سؤال: إلى أين نمضِي؟ هو السؤال الذي يجبُ أن نكرِّر التأكيد عليه، حتى تصبح الإجابة عنه مُقنعة، فالوصول إلى قناعة في إجابةٍ لسؤالٍ جوهري كهذا ليس أمراً يسيراً؛ فالإتجاهات التي يحفلُ بها المستقبل القريب تهدد بتغيرات في جميع مناحي الحياة العصرية، ولا شك في ذلك فالعالم في ظل الثورة الصناعية الرابعة ثورة الذكاء الاصطناعي يتوقع ما لا يتوقعه من الابتكارات التي ستجتاح أنماطَ الحياة فتغيِّرها.

الإشكالية في مدى تقديرنا للمتغيرات، في عام كتابه (The Road Ahead) الصادر عام 1996، يقول بيل جيتس: "نحن دائماً نبالغ في توقعاتنا نحو المتغيرات التي تحدث خلال العامين المقبلين، ونخفِّض التوقعات في المتغيرات خلال العشر سنوات المقبلة"، وهذا يأتي في صميم ما نقوله هنا أننا لا نقيِّمُ بصورة واضحة ماهية الصورة المستقبلية، والدليلُ على ذلك أننا نغيِّبُ الحديث عن المستقبل، ولا تحفل مقررات أبنائنا الدراسية بدراساتٍ عن المستقبل..! في حين أنه ليس من العسير التعرُّف على ملامح التغيير في المستقبل القريب، فالاطلاع على التقرير الذي وضعه جيم كارول Jim Carroll، وهو أحد كبار الخبراء والمتخصصين في علم المستقبليات، والذي استعانتْ بتحليلاته العديد من المؤسسات المهمة عالميًّا؛ مثل: وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، وبعض الشركات العملاقة مثل ديزني، بعنوان "25 اتجاها لعام 2025" يقدم صورة ما للمستقبل القريب خلال السنوات القريبة المقبلة.

الشاهدُ من ذلك.. أنَّ طرح سؤال: إلى أين نمضي؟ هو أمرٌ لا يجب أن نغفل عنه، لكن قبل ذلك علينا أن نكوِّن صورةً عن المتغيرات التي ستعم العالم من جراء الثورة الصناعية الرابعة؛ ثورة الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واعين، ومنطقيين في إجابتنا عن هذا السؤال المصيري الكبير.