من أدبيات الريف (1- 2)

 

علي بن سالم كفيتان

 

كنت أنظف زرائب المواشي سمعت جلبة من داخل الكوخ الصغير إنه بيتنا المصنوع من أغصان الأشجار والمغطى بأعشاب القش تهادى إلى مسامعي نحيب السيدات وصياح الصبية وهم يتكدسون في باب كوخنا لرؤية ما يحدث في الداخل وقفت ثم انصت لبرهة ذهبت إليهم أجر قدماي من الخوف وعندما اقتربت من الصبية افسحوا لي المجال للدخول وعندها شاهدت أمي مسجاة على الفراش بينما قامت سيدة من الحاضرات بجر أخي الرضيع من حضنها وسلمته لي وقالت: أمك ماتت!!

يا له من خطب عظيم أنا البنت الكبرى التي تخطت العاشرة قبل بضع أشهر وأمي تفارقنا فرغم مرضها العضال الذي أقعدها إلا أنها كانت توقد لنا النار وتكابد مرضها لتطبخ لنا ما جادت به راحلة أبي وكنت أنا أتولى المهام الجسام وهي رعاية المواشي والذهاب إلى عين الماء التي تبعد عدة كيلومترات لتوفير المياه للأسرة وللعجول الصغيرة فالقربة الجلدية هي نفسها التي كانت تحملها أمي عندما كانت مُعافاة لكنني لا أملؤها بل أذهب عدة مرات لكي أعوض نقص المياه ورغم التعب والإعياء كنت سعيدة لأنني أساعد أسرتي وأخفف وقع الألم على أمي وإخوتي الصغار، لكن فقدها كان زلزالا قطع قلبي إلى أشلاء ذهبت بأخي الرضيع بعيداً إلى رأس الرابية وتركت الجميع خلفي أجلسته في حجري الذي لايكاد يتسع له وجال نظري بعيدا مع الطيور التي باتت تعود إلى مخابئها في ذلك النهار الشتوي البارد بينما صوت الأشجار وحفيف الأعشاب تعزف لي انشودة الفراق وتحاول أن تعزيني بهذا الفقد الأليم.

عاد أبي في المساء وعلى راحلته كميات قليلة من الطحين وأشياء أخرى أناخها بعيدًا هذه المرة ورآني مع أخي لا زلنا على الرابية أتى إلينا وجلس ثم أخذ الصغير في حجره كان نائماً وقال لي: كنا نعلم أنَّها سترحل وقد بذلت جهدي لأحضر الأعشاب الطبية والأدوية من عيادة الإنجليز لكن الله أختارها يجب أن نسلم بالأمر يا بنيتي وأن نتصرف كريفيين أشداء لا تهزمهم الأقدار أنت منذ سنوات تقومين بمهام بيتنا وإخوتك سيكبرون وسوف تتحسن أوضاعنا ولن ننسى أمك أبداً فقد قررت أن أمنح أفضل بقرتين معنا تدران حليباً كصدقة خالصة لوجه الله على روحها وسوف أهبهما لأسرة فقيرة، ستكون أمك سعيدة بذلك فلطالما وصتني عليهم بل وكانت تقسم لهم من كل ما نأتي به مهما كان قليلاً، وفي تلك اللحظة حضنت أبي وبكيت على كتفه حتى أخرجت بعض ما تراكم على قلبي منذ ذلك الصباح الحزين تأكدت أن أبي رجل عظيم وأنه لن ينسى أمي فمنحني الأمل في الاستمرار وبين لي أنَّه قادر على تخطي هذه المرحلة الصعبة بثبات فأخذ أخي النائم على كتفه وأنا أسير خلفه عائدين إلى كوخنا حيث كانت أمي مسجاة في طرفه جثة هامدة وجنبها خالتي تبكي بحرقة دون إصدار صوت مجرد نحيب يقطع القلب فقال لها أبي: تعالي وخذي الطفل فأخذته فزاد همها وبكاؤها بينما عاد أخواني من اللعب مع الأطفال فهم لا يعون معنى الموت بعد.