الترف وما جنى على أمة لم تعرف الترف

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

لم يرد الترف في القرآن أبدا بمعنى محمود أو يدعو إلى الخير، إنما ورد في كل المواضع بصورة تستثير النفوس وتنفرها من ملازمته، وتخوفها من الركون إليه أو أن يكون هذا دأبها حتى لا تجري عليها سنة من كان قبلها من الأمم؛ فجاء الترف ملازما للفسق وموذنا بالدمار، وملازما للإجرام ، وللتكذيب والكبر والغرور" فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)" هود، .. " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)" الإسراء..  ، " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)" سبأ.. وهكذا لم يصاحب الترف محمودا، ولم يخلف محمودا.

 

ولم تعرف أمة العرب تاريخيا قبل الإسلام حياة الترف قبل أن من الله عليها بالإسلام (إلا قليلا منهم) ، ثم فتحت عليهم الدنيا.. وقد كانوا قبل الإسلام أمة لا تعرف إلا القحط والكلأ والرعي والتجارة (أحيانا)، ومن التجارة كان الغنى ولكنه لم يكن غنى السرف أو الترف الذي يملك أسباب الحياة ووسائلها، إنما كان غنى المال الذي لم يملكوا معه أن يفتحوا الدنيا أو يجعلوا لأنفسهم دولة ولا حكما ولا حضارة.

 

فلما جاء الإسلام، هدرت هذه القبائل من قلب الصحراء هدير السيول لا تعرف التوقف ولا التراجع، فإما أن تطوع من تلقاه من البلاد والعباد لأمر الله فيغدو عزيزا مكرما، وإما أن يعطي الجزية عن يد وهو صاغر .. وكان قد ألح النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حتى كادت تزهق نفسه ، فيقول "قولوا لا إله إلا الله تدين لكم بها العرب والعجم" ، فلما أسلموا واستسلموا وأذعنت نفوسهم لهذا الحق، دانت لهم الأرض مشارقها ومغاربها.. ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم بما يصيروا إليه من بعد هذا الملك ، فقال " والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ".

 

وقد قلنا سابقا أن العرب هم الأمة الوحيدة التي لم تجتهد فتنتج من صنيع عقولها حضارة ، أو ثقافة ، كما فعلت الأمم قلبها (فارس واليونان والرومان والهند) إذ أمعنوا نظر العقل والقلب فيما بين أيديهم واستنفروا أسباب الحياة بجد وجهد، فمنت عليهم كما شاء الله لها أن تمن على من يبذل لها ، فحصلوا العلم ووطدوا الحضارة وجمعوا الثقافة وأثروا البشرية بنتاجهم ــ بما له وما عليه ــــ أما العرب فهم الأمة التي قدمت لها الحضارة والثقافة والمجد من دينها.. لم يكن لها فيه فضل سوى أن آمنوا ، وهذا الإيمان أيضا كان منة من الله الخالق عليهم " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) آل عمران.

 

فلما فتحت عليهم الدنيا تباعا ودانت لهم حضارة الأمم ، وأعطتهم أسبابها، وقد كان القرآن قبلها ينزل بين أظهرهم محذرا من الركون إلى الدعة والترف، وينذرهم مصائر الأمم من قبلهم ، ويضرب لهم الأمثال .. وقد ذكر في تفسير قوله "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)"البقرة.

 

"رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ:" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ.. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ  مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ." (تفسير القرطبي).

 

فلما تركوا الجهاد ورضوا بالزرع وأخذوا بأذناب البقر، كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، ثم ركنوا إلى الدعة والقصور والجواري والغلمان والغزل والسفه والسرف، ولزموا ما زين لهم من النساء والبنين والخيل المسومة والأنعام والحرث ، سلط الله عليهم الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت) وقد كانوا يومئذ كثير كغثاء السيل ، فجاء من بدد ملكهم وشتت جمعهم كما فعل به التتار والمغول هذه القبائل الغليظة الطبع المسرفة في القتل فركلت الخليفة العباسي بالأقدام حتى الموت ، وقيل أنه وضع ملفوفا في دهن الضأن وترك في الصحراء حتى أكله الدود ، وجمعت أمواله وكنوزه وجواريه وحرمه فكان ذلك أشد نكاية وألما من الموت.. وأخبره هولاكو: أن لو أن  هذه الأموال قد أنفقها على جنده لمنعوه منه ، أي حالوا بينه وبين هولاكو، ولكنه قتل بكنوزه وترفه.

 

ثم جاء العرب يعيدون عجلة التاريخ، وكأنهم لم يقرأوه ، ففتحت الأرض بواطنها لهم عن كنوز لم يخل أحد أن الزمان يفنيها ، فعادت الكرة وعاد الترف والإفساد.. وعادت طوارق الزمان تؤذنهم واحدة بعد الأخرى ، ولم يلتفتوا إلى أي منها ، إلا أن يغرقوا في السفه والترف والبذخ الذين راحوا يستجلبونه من أوربا، ووسائل التجميل التي ساوت بين النساء والرجال في الملبس والملمس ، وراحت أطايب الطعام والفراش تستجلب من أوربا بالطائرات حتى صار الملل هو الرائد لهذه النفوس ، تقتني كل يوم جديدا فلا تقنع ولا تشبع حتى يعن لها جديدا آخر.

 

وانشغلت أوربا وأمريكا تشمر عن أياديها وعقولها، متفننة كيف تمني هذه النفوس المريضة كل يوم بجديد، وكيف تفتح أسواقها وبضائعها وبيوت الموضة لتكون جسرا لنقل أموال هؤلاء المترفين من بلادهم إلى بلادنا ، ومن جيوبهم إلى جيوبنا .. وضربت الجزية وإن كانت في صورة مقنعة تمثل صفقات السلاح المتوالية المنهالة على كل بلد وقطر تقتنى لا للحروب ولا الجيوش ولكنها (إتاوة) تدفع للحماية الأمريكية الأوربية، وليقتل العرب بعضهم بعضا وينفي بعضهم بعضا بأيديهم لا بأيدي عدوهم، وتحول الاحتلال من الأرض والحرب إلى العقول والأفكار والثقافة والتعليم.

 

إن تدارك صواعق القضاء لأمر مستحيل إذا كان الإنسان قد أمهل من الزمن ما كان يمكن أن يتدارك في أمره ، ويستدرك ما فاته إلا أن سنة الله لن تجد لها تبديلا ، " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " ،،  "وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)"إبراهيم.

الواقع القائم يعلن عن نفسه لكل ذي لب، أو من ألقى السمع وهو شهيد، لكن الواقع بهم هم الوحيدون الذين لا يرون ولا يعون، لقد سقطت الأندلس إمارة تلو أخرى كما يقول المثل العربي "إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض" ، حتى سقطت (غرناطة) أخر معاقل الإسلام بالأندلس فبكاها الخليفة مطرودا منها مع حرمه، حتى قالت له أمه "ابكِ كالنساء ملكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال"، ولكن .. إذا جاء وعد الله قضي بالحق، ولات ساعة مندم!!!!

تعليق عبر الفيس بوك