"مدينة الله" لـ"حسن حميد" سرد يشدّ الأرض إلى السّماء (4- 5)

...
...
...

أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

 

أمّا الشخصية التي كانت قريبة جداً من فلاديمير، ولصيقة جداً به، فهي شخصية الحوذي جو مكملان الذي رافق فلاديمير في زياراته المتوالية، وهو على الرغم من قربه المكاني، ومن توالي لقاءات الرجلين، فإنه لم يكن ذا تأثير يذكر في بلورة الوعي لدى الزائر الجديد، واكتفى بمهمة التعريف إلى الأماكن والأشخاص، وأوكل مسألة التوعية إلى المشاهدات البصرية، وهي مهمة على الرغم من أهميتها لا تعطي جو دوراً أكثر مما تعطيه لأي دليل آخر، باستثناءات قليلة، فتح فيها قلبه لفلاديمير. فقد كان جو "كاتباً في إحدى كنائس دبلن الكبيرة (...) وقد جاء إلى القدس كي يكتب تحقيقاً عن كنائس القدس وبيت لحم"، ص26. جاء من إيرلنده إلى القدس كي يقضي أسبوعاً أو أسبوعين، ويعود إلى دبلن، فقد ترك في وطنه عشيقة ووالدة وصديقاً، غير أنه لم يغادر القدس بعد ذلك:

  • "ما إن وصلت إلى هنا، إلى القدس، حتى أحسست أن أعمالي ومشاغلي صارت هنا، وأنّ عشيقتي التي حاولت ودّها سنوات وسنوات هي هنا، وأنّ صديقي النادر صار أصدقاء نادرين هنا، وأنّ أمي الحنون، اليد المباركة، الصوت الدافئ المطمئن هي هنا أيضاً"، ص21. 
  • "لا أدري حتى ساعتي هذه من أبقاني هنا، قلبي أو عقلي، وكيف قضيت عمري هنا أجول في المكان، فلا أشبع من رؤيته، وأخالط الناس، فلا أرتوي من محبتهم"، ص22. 

 

لقد أحب جو القدس وجمع عنها كثيراً من المعلومات، وقام بتنسيقها وتنقيحها، غير أنّه لم يرسل منها أي شيء للصحيفة التي يعمل بها؛ لأن ليلى التي تعرّف إليها، وسمّاها ليلى المقدسية "حالت دون ذلك، لقناعتها بأن ما كتبه جدير بكتاب، ولا تستحقه صحيفة يومية تموت عندما تولد في الصباح"، ص37. 

 

وكان قلبه ميّالاً إلى الاستماع لنصيحة ليلى التي "ساعدته كثيراً في إنجاز مادة الكتاب، فلولاها لما تهيّأت الصور الساخرة للأمكنة الساحرة التي زارها، ولولاها لما استطاع رود مكتبات قرأ في مراجعها القديمة ما أعانه على الانتهاء من مادة الكتاب التي كانت بحق غنية ومميزة"، ص37؛ لذلك قرر أن يطبع الكتاب، وأن "يهديه لليلى المقدسية؛ لأنها علة الكتاب، ولم يفكّر ولو للحظة واحدة أن يهديه لأمه أو لعشيقته"، ص37، ولأنها "سقته ما لم يدركه من سعادة ومحبة، وأعطته ما هو أكثر من الوجد، أكثر من الذوبان، فبات أشبه بكائن أثيري يعيش على خبز المحبة، ونداوة المودّة الصافية"، ص38. 

 

غير أنّ ليلى كانت سجّانة مثل سيلفا، فأخذته إلى السجن بسبب أفكاره، وعندما خرج بحث عنها ولم يجدها، أما كتابه فقد وجده مطبوعاً باسمها: "ما وجدته حقّاً هو كتابي الذي كنت أنوي إصداره، وجدته مطبوعاً ومنشوراً، وفي صدر غلافه نهض أمام ناظري اسمها فغصصتُ، وتاهت بي الأرض"، ص40.

 

ويمكن أن يلاحظ القارئ ببساطة أن شخصيات الرواية الثانوية شخصيات نموذجية، تنتمي للعام، ولا تشكّل، في الأغلب الأعمّ حكايتها الخاصة؛ لذلك قلّ أن تحمل تلك الشخصيات مفاجأة ما، لأنها تشبه نماذج عايشناها، وقرأنا عنها في روايات أخرى. ويمكن مثلاً أن نشير إلى شخصية أبو العبد، نادل مقهى قلنديا، الذي يحمل شهادة بكالوريوس في الرياضيات بدرجة امتياز، إذ يرحّب من خلال نمطيته بالضيوف، ويفضح، من خلال نمطيته أيضاً، ممارسات الاحتلال: "خواجة، هنا، في هذه البلاد، وبوجود هؤلاء (وأشار إلى نفر من الجنود يعتلون بغالهم، ويواقفون الحواجز الحديدية)، هنا... عليك أن تتعلّم ألف مهنة كي تعمل في مهنة واحدة"، ص43. 

 

وتشبه شخصيته إلى حد بعيد شخصيات الأدلاء، وتنطلق من منطلقها الفكري ذاته، كما تشبه عارف الياسين في موقفه من زواج الأميركيّين، وهي تشبه مواقف القراء أيضاً من قضايا عامة، وهذا يحرم الشخصيات خصوصيتها. ويمكن لنا أيضاً أن نمثّل لهذه النمطية بشخصيات نسائية، تتشابه في منطلقاتها، وإن كانت تختلف بتفاصيل أفعالها:

  • "مررنا بامرأة تخبز، وقد عبقت رائحة الخبز، فملأت الأجواء، كانت تواقف تنورها، وتلوّح بأرغفة العجين، بين يديها كالأقمار، وحين ترضى عن استدارتها تلصقها في باطن التنور، عندما صرنا قربها تماماً رفعت يدها ملوّحة، ونادتنا كي نقترب منها أكثر، فاقتربنا. ناولتنا رغيفين من الخبز المقمّر الساخن"، ص161.
  •  "المرأة تتقدم نحونا، وبين يديها طبق من القش عليه رغيف من الخبز، تدنيه منا أكثر، وابتسامتها مشقوقة مثل كتاب"، ص110.
  • "قال الحوذي، وهو يأخذني من يدي: تعال، هذه أم العز. أحسن من صنع مناقيش الزعتر في القدس. وتقدّمنا نحوها، امرأة لا يخلو وجهها من حسن، موشومة الخدّين والذقن. ما إن رأتنا حتى رفعت يدها ترحيباً بنا، وتقدّم نحونا شاب نحيل طويل ورحّي بنا أيضاً، قال جو إنه ابنها، وأشار إلى كرسيين غير مشغولين كي نجلس عليهما"، ص131.

 

حتى إن الشخصية حين تتم تسميتها، من  مثل أم العزّ، لا تخرج عن تلك النمطية، أقصد الإطار العام للسلوك الفلسطيني، ويمكن لنا أن نشير إلى نموذج آخر هو زوجة بودنسكي التي تمثّل الذاكرة الفلسطينية التي لا تعرف النسيان، وتقوم بواجبها في نقل ذاكرتها إلى الآخرين. يقول بودنسكي لجو: "كم أتذكّر زوجتي رشيدة الآن، يا صديقي. سوف أزور مدينتها عكا إن ساعدتني ظروفي هنا، كي أرى بيتها، أكاد احفظ الطريق إليه غيباً لكثرة ما حدّثتني عنه.. يا لذاكرة الفلسطينيين يا صديقي"، ص178.

 

وربما كانت حكاية العم فتحي استثناء، لا في فكرتها العامة، بل في تفاصيلها، ففكرة العودة الذليلة غير الناجزة التي يقوم بها أشخاص مكسورون مهيضو الجناح إلى بيوتهم في فلسطين متداولة (ومن أشهر أمثلتها رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني)، غير أن حكاية العم فتحي على الرغم من فضائها السردي الطباعي المحدود تبدو مميزة ومدهشة؛ فقد حمل الحوذي جو العمَّ فتحي في تلك الرحلة؛ ليزور بيته في قرية شعَب قرب عكا، وكان يحمل مفتاح ذلك البيت الذي طُرد منه قبل عقود، مستنداً إلى اعتقاده أن "من يمتلك المفتاح يمتلك البيت"،ص414، لتأخذنا الحكايةُ من ثمّ إلى ذروة من ذرى السرد التي لا تنسى: "صدقني يا فلاديمير أن الرجل العجوز وقع ميتاً حين فتح باب بيته، وقد كان سكانه من اليهود، وقد فوجئوا مفاجأة عظيمة، بأنّ الباب يُفتح عليهم، فتعالى صراخهم، لكنّ العجوز لم يسمع إلا جزءاً بسيطا من الصراخ، لأنه ما إن انشق الباب كي يفتح إلى آخره حتى وقع العجوز أرضاً"، ص416.

 

ومن الطبيعي أن يكون النموذج الجمعي أقرب إلى التنميط من النموذج الفردي، وثمة أمثلة كثيرة لمجموعات فلسطينية في المدن والقرى والشوارع والساحات، تتشابه في أفعالها، أو تعبّر أفعالها عن شخصيات تتشابه في صفاتها العامة من مثل الكرم والترحيب بالضيوف والسعي إلى نقل المعاناة الفلسطينية إلى الأذهان، خلافاً لما تدعيه آلة الإعلام الصهيونية،. يسأل فلاديمير الحوذي جو عن استقبالهم في قرية الرامة : "ما هذا يا سيدي، ما الذي حدث، ومن نحن حتى نقابل بكل هذه المودة، وبكل هذا الترحاب؟ فيقول: هي ذي عادة أهل القرية كلّما مرّ بها الغرباء، أقول وأنا ألتفت نحو البيوت التي نأت: هذه ليست قرية؛ إنّها كتاب"، ص33. 

 

وأما النساء قرب نبعة سلوان فإنّ "وجوههن أشبه بهالات الضوء التي مسّتها الحمر القانية، وثيابهنّ المحتشدة بالتطريز أشبه بالحقول التي زينتها الألوان الآسرة"، ص17، وهي صفات كما يلاحظ القارئ تشبه النساء الفلسطينيات ذات الوجوه الصبوحة المضيئة التي تملأ صفحات الرواية، كما أن النساء في بيت ساحور يشبهن نساء بيت أُمَّر وسعير وحلحلول وغيرها: "نرى النساء وقد خرجن إلى فناءات البيوت، يغسلن، ويخبزن، يلبسن الثياب الطويلة المطرّزة، وعلى رؤوسهنّ مناديل سود، وتحتها تتدلى الليرات الذهبية المصفوفة مجاورة فوق الجبين"، ص160.

 

ولعلّ حسن حميد أراد من خلال الإصرار على هذه النماذج ترسيخ ما هو موجود أصلاً، لتبقى الشخصية الفلسطينية نبراساً في تعاملها مع الآخر، وفي محافظتها على أصالتها، وفي قدرتها على نقل معاناتها إلى الآخرين.

 

رابعاً ـ على جناح الكلمة:

عندما تقرأ هذه الرواية، وعندما تقرأ لحسن حميد بشكل عام، تلاحظ في معظم كتاباته الإبداعية ترجّحاً بين لغتين: لغة قريبة من الواقعية، ذات حمولة اجتماعية كثيفة، ولغة شعرية تفيد من إنجازات المجاز كافة، فإذا أردنا التفصيل في لغة هذه الرواية أمكننا أن نشير إلى أبعاد أسطورية وفولكلورية وشعبية ودينية تتمازج فيما بينها، لتشكّل صورة عامة للوجدان الجمعي الفلسطيني، فالأسطورة التي تشكّل جزءاً من الهوية الوطنية، وتقترح حلولاً غيبية للموجودات المادية، تحضر في الرواية من خلال تسويغ تسمية نبعة سلوان؛ إذ يحكي الحوذي جو لفلاديمير ما وقر في الوجدان الشعبي الفلسطيني حول ذلك، ففي زمن سحيق انحسر الماء في النبعة فانتدب الناسُ سلوانَ، أجمل فتيات القدس، لتبيت قرب النبع، وترجو السماء أن تملأها. وفي ليلة مقمرة تعالى الماء وابتلّ ثوب سلوان وجسدها، "فأرادت أن تشكر السماء.. فدخلت الحوضة، وأسلمت جسدها للماء. وما إن طلع الصبح حتى ابتهج الناس، وقد رأوا السواقي ملأى، والطيور تحوم تحويمات الجذل، والعتبات مغسولة لامعة.. ولم تكن غصة سوى افتقاد سلوان"، ص ص18ـ19.

 

وفي الفكر الديني يظهر الرّضا في لغة كثير من الشخصيات، تجاه قضية الموت وغيرها، كما تظهر العادات الاجتماعية المرتبطة بالمناسبات الدينية من مثل ما تسرده الرواية عن

نذور المرأة المقدسية التي تَنذر إن رزقها الله ولداً أو بنتاً أو فكّ أسر زوجها أو شفا مريضها أن تخبز يوماً كاملاً أمام بيت المقدس، "فتأتي إلى هنا أمام بيت المقدس مع أولادها وطحينها وصاجها وزعترها وجبنها وقريشها، فتخبز طول النهار، وأولادها يوزعون ما تخبزه على المارين"، ص13. 

 

وفي أريحا يسأل فلاديمير الحوذيَّ عن عِدلَيْ تين وزبيب، فيخبره الحوذي أنّ أهل أريحا جاؤوا بهما "حين علموا بوجودنا هنا، ولفت نظري إلى غربال وسيع فيه قمح مسلوق، وقال: وهذا أيضاً جاءت به امرأة من اريحا عرجاء، وضعته هنا تقدمة لسيدنا، فعادت سليمة لا عرج في رجلها"، ص142، وفي الكنيسة الأرثوذوكسية في الخليل يستعرض السرد مشهد دق العنب، فنقرأ: "رأينا رجالاً يعتلون المنصات الخشبية وراحوا يدقون العنب هرساً بمدقاتهم الخشبية، وإلى جوارهم رأينا آخرين يغسلون عناقيد العنب، ثم يقذفونها إلى الأجران، وبعضهم الآخر يوزع الطاسات والأكواب الملأى بعصير العنب على الأيدي المرفوعة نحوهم"، ص171.

ومن ذلك أيضاً ما يقدّمه السرد حول الاحتفال بليلة النصف من شعبان في ساحة مسجد قبة الصخرة؛ حيث نجد صلواتٍ وأدعيةً وأذكاراً، ورجاءً، وأناشيدَ وتكبيراتٍ وتسبيحاتٍ وابتهالاتٍ وشباناً "يدورون حول أنفسهم وقد اتّسعت يابهم البيض وانتفخت على شكل مراوح قماشية"، ص348.

 

وإذا كان السارد يسرد في تلك الليلة صلاة استسقاء فيها كثير من التضرّع للخالق الأجلّ، فإنه يضعه في مقابل مشهد لاحقٍ للاستسقاء في المستوطنات الإسرائيلية، يكشف فيه الذهنية التي يتميّز بها سكان تلك المستوطنات، حين يترنمون بترنيمات الاستسقاء في مستوطنة جفعات شاؤول التي تنتهي إحداها، وهم يهددون السماء بغضبهم، بدلاً من أن يسترحموها، وكيف يفعلون، وهم "شعب الله المختار" الذي يجب أن تخضع له الأرض والسماء:

"هيا اغسلي وجهك.. وانظرينا

كي ترتوي الأرض..

ومدّي يديك.. نحونا

كي تجري الأنهار والسواقي

أيتها الزرقاء النائمة

أفيقي، أفيقي

قبل أن نغضب عليك"، ص ص431ـ432.

(يتبع...)

تعليق عبر الفيس بوك