شعرية الأشياء فى قصائد ريم الخش

 

رضا حمودة | ناقد

   يرى أدونيس "أن كتابة الشعر هي قراءة للعالم وأشيائه..هى قراءة لأشياء مشحونة بالكلام ،والكلام مشحون بالأشياء ،وسرُّ الشعرية هو أن تظل دائمًا كلامًا ضد الكلام، لكى تقدر أن تسمى العالم وأشياءه أسماء جديدة"(1)

    فشعرية الأشياء عند شاعرتنا الدكتورة ريم الخش متجددة ومتنوعة وثائرة، تبوح عما يدور بخلدها، فى قصائد شعرية متعددة، تكمن فى شعرية الهوية، وشعرية التجديد، وشعرية الرفض، وشعرية الجسد الثائر، وشعرية الحزن، وشعرية الغربة والحنين إلى الوطن.

    ثم تأتي علاقة الشاعرية بالحداثة، وكيف أثر كل من الدين والسياسة فى مشروعها الحضاري يقول أدونيس:"كانت السلطة تعبير آخر تسمّى جميع الذين لا يفكرون وفقا لثقافة الخلافة (بأهل الإحداث) نافية عنهم بذلك انتمائهم الإسلامي..فالحديث الشعري بدا للمؤسسة السائدة كمثل الخروج السياسي أو الفكري"(2)

   فنجدُ فى ديوان "الراحمون ملاذ آخر شهقه" شعرية الأشياء لدى الشاعرة متعددة ومتنوعة تصوغها فى أبيات لغرض شعري تخدم النص الشعري، فنرى فى قصيدة "عبثية الأشياء":

عبثيـةُ الأشيـــاءِ فيـك تجلـت

كى أقضمَ التفاحَ منك بشهوة

//

كى يحرقَ الفنجانُ لحظة دلْقه

وتلذّ فى شربِ التّرائبِ قهوتي (3)

     فاستخدمت الشاعرة بعض الأشياء المستخدمة فى الأمور الحياتية مثل: التفاح، الفنجان، القهوة، وكذلك تأثرها بالقرآن الكريم بقوله تعالى: "ويخرج من الصلب والترائب" (4)

وتقول فى أبهى صور التضاد:

كم تقلبتُ بين علــم وجهـــل

ألبسُ النــور ليله الوهميا (5)

 

     فالتضاد يجانس شعرية الأشياء، وكيف أنها تقلبت بين العلم والجهل، وبين النور والليل الوهمي،وكأنها تائه على دروب الحياة. وتعود  قائلة:   

وخيالي مقصمص الجنح يهوى

كلما طار عاد أرضا إليّا (6)

    فاستخدمت الشاعرة "الجناح، الأرض" دليل على حبها الأبدي للوطن، ثم تستخدم لفظة "القمح" وهو غذاء عامة الناس:

جائعُ القلب قمحُ روحى معنىّ

 صام دهرًا وما يزالُ بليّا (7)

   وتشعر فى نهاية الحديث أو الحوار، انها ممزقة الخُطى؛ حتى تعب نعلها من كثرة الخطى وخضعت زمنًا طويلاً.

بيدَ أني ممــزقُ الخطـو أمشي

تعب النعلُ ،واستكنتُ مليّا(8)

 فالشاعرة هنا متأثرة بالقرآن الكريم ،فى قولة تعالى:"واهجرني مليّا"(9)

    فنجد قمة الشعرية عند استخدامها ألفاظًا مثل: البئر، الليل، الخفافيش؛ لتدل على شاعريتها الفياضة، قائلة :

جفّ بئري ،وظلمةُ الليل طالت

وخفافيشُ الظلم ،حطت عليّا (10)

     إن الكتابة الإبداعية هى نتاجُ شخصية المبدع وتحمل طابعه الذاتي من مشاعر وعواطف "ولا معنى النظر فى الذات هو الإنكبابُ على النفس، بل إن الذات هنا تصبح محوراً أو بؤرة لصورة الكون وأشيائه، ويمتحنُ الإنسانُ من خلال النظر فى ذات علاقته بهذه الأشياء"(11).

     فهذا ما حدث ويحدث فى شعرية الأشياء لدى الشاعرة، فهى دعوة للعودة إلى الذات لأن " الإنسان هو وعى الكون ، والكون ما هو إلا قوة عمياء، أو جسم عملاقي  فائر، والإنسان هو وعيه، وعقله ، وعظمه، ذلك العقل أنه يستطيع أن يعقل ذاته" (12)، وتعبر عن ذلك قائلة :

لست مثلي بل كنت ربّا عظيمًا

فاطرُ الكون نوره الأزليّا

//

مبدع الحب أنت حب فؤادي

كن رحيمًا وغافرًا ما لديّا(13)

      فقد نوّعت الشاعرة فى استخدام شعريتها الفياضة للأشياء ، فمثلا نجد في قصيدة " كفيه ريح" استخدمت ألفاظا مثل: " الريح – اليم – النهد – الناى – الدم – الشمس – المراجيح – المفاتيح ".

يا ريحُ، يا ريحٌ، ما للناى مبحوحُ؟

كفيه عن شجني كُفيه يا ريحُ!!

//

يكفى اجتراح هوى فى اليم يتركنا

يكفى انهمار أسى طوفانه نوح

وتقول أيضا:

هو الحزينُ وفى أشجانه وطنى

هو الشريدُ وأضلاعي المفاتيحُ (14) 

   ونجد الاستدعاء الديني فى قولها : "يكفى انهمار أسى طوفانه نوح"، فقد قامت باستدعاء سفينة سيدنا نوح "عليه السلام" وغرق ابنه مع الطوفان.

    لغة الشاعر ليست مفروضة على الأشياء " لكنها تنبثق منها، وكأن الأشياء هى التى تختار الكلمات المناسبة لها ، ذلك أن الشاعر يبدو واعيا للمأزق الذي يمكن أن تنزلق إليه اللغة "(15).

    فالشاعرةُ تحنُّ إلى الماضي (ماضى الذكريات)، مع العائلة والجيران وهي تحرك أصابعها فى العجين حتى يصير خبزا، فتقول فى ديوان "سأزرع الأرض آلافا من القبل" ومن قصيدة " وما أحلى الرجوع إلى الطحين"(16)

لقد ترك الأصابع فى العجين

وغادرني إلى أقصى – أنيني!

    فنجد فى القصيدة قمة الشعرية باستخدمها الأشياء المتنوعة في حياتنا اليومية ، مثل :" الملح – الخبز – الشمس – الزيت – القمح – الأصابع – المسمار– العين - الشفاه ". قائلة (17)

سأطهو من عيون الشّعر خُبزًا

مع الوجدِ المُعتقِ فى المَتُون

//

أغمســهُ بزيـــتٍ مـــن مجـــازٍ

ليأكلـــه بكِلتَـــا الإِصْبَعَيـْــن

//

ويخبزُ من شفاهِ الشّمسِ قرصًا

من القمـحِ المُحَـلَى بالجنـــون

    وفى نهاية الرحلة تعود إلى حيث تريد ، فلا بعد يدوم ، وما أحلى الرجوع إلى أيام العجين والطحين:

لا بعــــدٌ يـــدومُ مع اشتيـــاقٍ

 لمســـمارٍ بلا شــكٍ مَصُــــون

//

لقد نسي الأنامــل َ يومَ صومٍ

وما أحلى الرجوع إلى الطحين(18)

     والمتأملُ في الديوان يجد شعرية الأشياء منتشرة ومتنوعة فى مختلف قصائد الديوان، حتى تعبر لنا عن موهبة خلاقة تعبر عما فى جوفها من مفرادات وأشياء من فكرها الشعري ، وترسم لنا خيوطا من نسيجها الشعري الفياض ، مثل : " بورصة الأحزان – بصرة الحب – وعشقك السيل لا حد ولا وسط – مقتاح باب الخلد أحجبني – فى ذمة الحب – وما زالت الأحياءُ بالسّوط  تقمعُ – لقد شطب اليمانى الإمامة – طاهر القلب آثمٌ وذنوبي "..

      يقول مكسيم رودنسون: "ما أسوأ اللغة التى لا فعل لها سوى فعل التوابل حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فسادًا".(19)

      ويقول جان كوهين : "فالشعريةُ مُحايِثة للشعر. وهى كاللسانيات تهتم باللغة وحدها،ويكمن الفرق الوحيد بينهما فى أن الشعرية لا تتحد اللغة عامة موضوعا لها، بل تقتصر على شكل من أشكالها الخاصة. والشاعر بقوله لا بتفكيره وإحساسه، إنه خالق كلمات ،وليس خالق أفكار، وترجع عبقريته كلها إلى الإبداع اللغوي".(20)

     ويقول أيضًا : " والذي ينبغى قوله هو أن الأشياء ليست شعرية إلا بالقوة ، ولا تصبح شعرية بالفعل إلا بفضل اللغة ، فبمجرد ما يتحول الواقع إلى كلام ، يضع مصيره الجمالى بين يدى اللغة ، فيكون شعريًّا إن كانت شعرًا ، ونثرًا إن كانت نثرًا".(21)

     والحقُّ أن شغوفها وحبّها الشديد للكتابة والشعر والعلوم والرياضيات يدوم وتتمنى (لو) أن تكون جلدًا للكتاب ومتنه، ويحيطها بعناية واهتمام ، وتدخل فى أحشائه ، وتغوص وتنهل فى بحر من العلوم المختلفة :

لو أنّنى جلــدَ الكتــــابِ ومتنـــهِ

ويُحيطــــني بعنايــــــةٍ ويُلخـّـصُ

//

لو أن ّفى حقلِ العلومِ تخصّصًا

يقْضِي– إلى تحقيقِ (لوْ)أتَخَصّصُ (22)

............................................

الهوامش:

1ـ أدونيس : الشعرية العربية، ص78، دار الآداب ، بيروت ،ط1 1985، ط2 1989.

2- أدونيس : الشعرية العربية ص80

3- ديوان "الراحمون ملاذ آخر شهقة" ص52،ط1، دار السكرية 1440هـ – 2019م.

4- القرآن الكريم ،سورة الطارق، آية 7.

5-  الديوان نفسه ص26.

6- الديوان نفسه ص26.

7- الديوان نفسه ص26

8- الديوان نفسه ص27

9- القرآن الكريم ، سورة مريم ،آية 46.

10- الديوان نفسه ص28

11- صلاح عبد الصبور، حياتى فى الشعر،دار العودة، بيروت،ط2، 1977،ص7

12- صلاح عبد الصبور،حياتى فى الشعر ص6.

13- الديوان نفسه ص28.

14- الديوان نفسه ص92.

15- شعرية الأشياء فى شعر مريد البرغوثي (بحث مرجعي) د.أحمد عبد الحى، كلية الاداب ،ج طنطا 2002م ، ص89.

16- ديوان " سأزرع من الأرض آلافا من القبل" دار السكرية ، ط1 ، 2018م ، ص31.

17- الديوان نفسه ص31.

 18- الديوان نفسه ص32.

19- مكسيم رود نسون ، فى بيت الشعر ، مجلة القاهرة ، ع142 سبتمبر1994، ص42.

20 – جان كوهن : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة : محمد الولى ومحمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط1 ، 1986 ص40.

21 – السابق ص37.

22- الديوان نفسه ص41.

 

المراجع:

 

  1. القرآن الكريم .
  2. أدونيس : الشعرية العربية ،دار الآداب بيروت، ط الأولى 1985، ط الثانية 1989 م.
  3. أحمد عبد الحي : شعرية الأشياء في شعر مريد البرغوثي (بحث مرجعى) كلية الآداب ، ج طنطا 2002م.
  4. جان كوهن : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة : محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، المغرب ،ط الأولى ، 1986م.
  5. صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر ، دار العودة ، بيروت ، ط الثانية ، 1977م.
  6. ريم سليمان الخش : ديوان " الراحمون ملاذ اخر شهقة " دار السكرية ، القاهرة ، ط الاولى 2019م.
  7. ريم سليمان الخش : ديوان "سأزرع الأرض آلافا من القبل" دار السكرية ، القاهرة ، ط الأولى 2018م.
  8. مكسيم رودنسون: في بيت الشعر ، مجلة القاهرة ، العدد 142سبتمبر، 1944م.

 

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك