"مدينة الله" لـ"حسن حميد" سرد يشدّ الأرض إلى السّماء(1-5)

...
...
...

 

أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

 

أولاً ـ تمهيد:

تسرد رواية (مدينة الله) للكاتب الفلسطيني حسن حميد حكاية زيارة، كان من المفترض أن تنتهي بسلام، قام بها الأستاذ الجامعي الروسي فلاديمير بودنكسي إلى فلسطين، بناء على نصيحة أستاذه جورجي إيفان بأن يقضي إجازته في القدس بلد السيد المسيح عليه السلام، وأن يكتب كلّ ما يراه، وما يسمعه، وما يشعر به، إضافة إلى الرغبة الشخصية لبودنسكي في زيارة عكّا التي تنتمي إليها زوجته قبل العودة إلى بطرسبوغ.

غير أن المسار الحكائي يأخذ منحى مختلفاً لا يفضي إلى العودة؛ إذ يرتبط بودانسكي الذي يتّخذ من الحوذي جو مكملان رفيقاً لزياراته، ارتباطاً عاطفياً شديداً بالأماكن التي زارها؛ فالذي يرى الأماكن المقدسة لا يستطيع الخروج من أسرها، مثلما يقول جو، كما أنّ خطته بزيارة عكّا لا تنتهي على خير؛ لأن السلطات الإسرائيلية تعتقله، وتضعه في السجن، ربما بدسيسة من مؤجرة بيته، كي لا يكون شاهداً على عذابات الفلسطينيين واضطهادهم.

وإذا أمكن تلخيص الحكاية، بهذا الشكل، أو بشكل يقترحه آخرون، أمراً يسيراً، فإن ملاحقة مكر البنية ودهائها يبدو أمراً أكثر صعوبة، إذ ينهض أمام قارئ هذه الرواية سؤال يتعلّق بتصنيفها؛ فهي تنتمي من جهة إلى رواية الرسائل، ومن جهة ثانية تحيل على أدب الرحلة، وتنشغل من جهة ثالثة بالمكان انشغالاً بنيوياً، وتمدّ جذورها من جهة رابعة في أرض الواقع، دون أن تحرمَ القارئ من ظلالها الرومانسية.

تتكوّن الرواية من خمس وثلاثين رسالة أرسلها الأستاذ الجامعي الروسي فلاديمير بودنسكي إلى أستاذه جرجي إيفان، منها تسع وعشرون رسالة طويلة تصوّر مشاهداته في القدس وما حولها، وستٌ تم إرسالها من السجن بعد أن تمّ اعتقاله من قبل السلطات الإسرائيلية.

ويوضّح السارد الخارجي في العتبة الاستهلالية للرواية أنّ هذه الرسائل وصلته من صديقة قديمة تدعى وديعة عميخاي، بعد أن احتجزتها، في أثناء عملها في البريد المركزي، بسبب إعجابها بالأسلوب الأدبي للمرسل (!!)، على الرغم مما فيها من (أكاذيب)؛ وإذ يسألها السارد الخارجي عن سبب إفراجها عن الرسائل مؤخراً، على الرغم من أنّها تعرّي إسرائيل، تخبرها بأنها مصابة بالسرطان، وتريد أن تذهب إلى الجنة. وإذ يحاول السارد إيصال تلك الرسائل إلى صاحبها يخفق في ذلك، إذ لا يجد خيطاً يقوده إلى فلاديمير أو أستاذه، ولا إلى عشيقته، ولا إلى المرأة التي كانت تؤجره بيتها؛ لذلك يقرّر نشرها كما هي، وهنا ينتقل السرد من سارد خارجي إلى سارد داخلي يتحمل عبأه حتى نهاية الرواية.

وإذا كان بعض الروائيين منذ إمبرتو إيكو، وربما قبله، قد درجوا على أن يبدؤوا بسارد خارجي يجد رسائل أو مخطوطات أو لفائف أو غير ذلك، يسلم السرد إلى سارد داخلي يسرد محتوى اللقيات، فإن حسن حميد أفاد من تقنية اللقيات، وتغيير السارد، والرسائل، وأضاف إليها فكرة أن تكون الرسائل من طرف واحد هو بودنسكي، على الرغم من كثرتها، وهو الأمر الذي فرض عليه اللجوء إلى تسويغات بنائية، تستأخر ردود الطرف الثاني/ إيفان، وتدعوه إلى الإسراع في الكتابة، بأساليب غير متشابهة، حتى لا يشعر القارئ بملل التكرار، ويمكن لنا أن نعرض سياقين يستأخر فيهما بودنسكي ردود صديقه:

  • "ما عدتُ قادراً على انتظار بريدك الذي لا يأتي، لعلك على سفر، أو أن متاعب العمل قد تكاثرت عليك، أو لعلّ مرضاً ألمّ بك لا سمح الله"، ص16. 
  • "دخلت مكتب البريد، وفتحتُ العلبة فلم أجد فيها شيئاً، إنها خاوية كما عهدتها، لا رسالة فيها، ولا تحيّة، فأحسستُ كمن رُشق بماء بارد"، ص127.

كما يمكن أن نشير إلى سياقات أخرى غير متشابهة، يستحث فيها بودانسكي صديقه إيفان على الكتابة، ويبتدع الكاتب فيها أساليب تُنجيه من إملال تكرار الحافز السردي ذاته، على نحو ما نجد في السياقات التالية:

  • "اكتب إليّ أو هاتفني كي تزداد الروح صفاء"، ص16. 
  • "أرهقني الحوذيُّ بحزنه، فسامحني إذا ما تسرّب شيء من الحزن إليك. بانتظار رسائلك، اكتب إليّ.. أرجوك"، ص41. 
  • "أرسل إليك صورة لـ سيلفا وأخرى للحوذي جو وثالثة لي، راجياً منك أن تقرأ وجوهنا، فتكتب إليّ عمّا شعرت به"، ص388.

ولعلّ من الطريف أن تأتي الرسالة الأخيرة التي يكتبها بودنسكي لصديقه من السجن مخالفةً كلّ الرسائل التي قبلها؛ إذ يبني الكاتب مفارقة ناجحة تقوم على طلب بودنكسي من صديقه ألا يكتب له بعد الآن، ويغلق بذلك باب التراسل من جهته، دون أن يدرك أن الباب كان مغلقاً منذ الرسالة الأولى، بفعل الرقابة الإسرائيلية. يقول بودنسكي في رسالته الأخيرة إلى إيفان، وقد كتبها بعد أن عانى، مثل صديقه الفلسطيني عارف ياسين، عذابات السجن الإسرائيلي مع الكلاب والقطط وأسلاك الكهرباء:

"سأنتظر كي أرى عارف الياسين، لأقول له إنني في المكان الذي عرفه طويلاً.

أرجوك.. لا تكتب إليّ.. فعناوين السجن ليست بعناوين"، ص514.

 

ثانياً ـ التأطير الروائي:

يشكّل هذا البناء الرسائلي إطاراً عاماً لبنية سردية يمكن تتبع عناصرها من خلال اشتغال الكاتب على عناصر السرد المختلفة، زماناً ومكاناً وأحداثاً وشخصياتٍ ولغة روائية، فقد اهتمّ المؤلف بالتأطير الروائي اهتماماً بالغاً، وإذا كان إبراز ملامح المكان الفلسطيني شغلاً شاغلاً له، فإنّ الزمان، ونقصد هنا الزمان بصفته التصويرية، لا المعيارية، كان له حضوره أيضاً. ولعلنا نشير بداية إلى سحر الفجر الذي ينتقل الإحساس بجماله من بودنسكي إلى القارئ، من خلال السياق التالي الذي يرصد انبلاج فجر مقدسي:

"ها هي ذي أضواء الفجر تنبلج.

أراها صبية خجولاً، وهي تقتحم بابي وبلّور نافذتي، أفتح الباب، وأخرج كي أحييها. يا لهذا الهدوء، ويا لجمال هذا الضوء المنبعث بقوة من خلف التلال القريبة المغطاة بأشجار الزيتون"، ص93.

أمّا إشراقة الشمس التي تتلو ذلك الفجر، فيحار المرء أمام تصوير زمنها: أهو سحر الجمال أم سحر اللغة. ها هو ذا فلاديمير يصف تلك الإشراقة في إحدى رسائله لصديقه، فيقول:

"وظللتُ أراقب الفجر النامي حتى بزغت الشمس، يا لإطلالتها المدهشة، قرص من العسل المشع، غربال وسيع من النور المشتهى، أكاد آخذه بين ذراعيّ"، ص93.

أمّا المساء فلا يقلّ جمالاً، ولا فتنة، وكأنّ هذا الزمن الفيزيائي، خلق أساساً؛ لينعم به عشاق الطبيعة، والباحثون عن الهدأة والسكينة، وفي مقدمتهم فلاديمير وصديقه الحوذي جو. يقول فلاديمير:

"لم أر أحداً في حياتي سواي مفتوناً بالمساءات مثل الحوذي جو، ولكم حدّثني عنها وأطال؛ فالمساءات عنده كائنات شفيفة مثل ورق الورد، فعلاً، المساءات هي الضوء، أوقات للطمأنينة، والهدأة، والسكينة، ومجالسة الذات، والتأمل، والتشوّف. أوقات رخيّة يجول المرء فيها كيفما يشاء، فهي مرآة أكثر صفاء من أية مرآة أخرى"، ص84. 

أمّا التأطير المكاني فهو لعبة الرواية برمّتها، بدءاً من عنوانها الذي يحيل إلى فضاء لا نهائي مفتوح يربط الأرض بالسماء، وانتهاء بعبارتها الأخيرة التي تحيل إلى فضاء السجن المغلق، ليس على فلاديمير فقط، بل على ألامه وآماله وأحلامه، وعلى الحقيقة التي عرفها عمّن يحتلّون فلسطين، ويستعبدون شعبها.

لقد بنى حسن حميد مكاناً بهيّاً مقنعاً لمكان لم يعايشه، ولم ينتفس هواءه إلا في أحلامه، وكان هذا اختباره الحقيقي: أن يكتب، وأن يقنع القارئ أنه يخلق من الحروف كنائسَ ومساجدَ وأسواقاً ومخيماتٍ ومقابرَ وسجوناً، ولا نشكّ في أنّ الكاتب أنفق من وقته شهوراً عدة في القراءة والبحث والتنقيب، حتى ترسخ فضاؤه الروائي في ذهنه، بشكل مقبول إلى حدٍّ بعيد، وكان عليه أن يستكمل نواقص هذا المكان بشعرية اللغة التي نجحت في أكثر الأحيان بملء الفراغات المكانية، وتجاوزت الحدّ في أحيان قليلة، ليطغى الإنشاء على الوصف السّردي.

ويلاحظ القارئ اهتماماً بارزاً بالأماكن المسيحية المقدسة، واهتماماً أقلّ قليلاً بالأماكن الإسلامية المقدسة، وهذا الحضور المسيحي الأبرز يناسب الشخصية الرئيسية في الرواية، وهو أمر مفهوم في ظلّ جوّ روائي فلسطيني يآخي بين الأديان، ويآزر تعاضدها وانصهارها في بوتقه الإنسانية.

 من كنيسة القيامة نبدأ، إذ يصف السارد الداخلي في رسائله لصديقه وأستاذه إيفان الكنيسة وسقفها وجدرانها وقبر المسيح وهيكل مريم، ومن ذلك حديثه عن الفوانيس الزجاجية الضخمة التي "تتدلى فوقنا فتغمرنا بنورها، ولولا أنها مشدودة إلى السلاسل النحاسية والحبال لطافت مثلنا مشياً في المكان"، ص77، كما يصف حجر المغتسل الذي يتألف من "جرنين واسعين أحدهما من رخام، وثانيهما من خشب، وإلى جوارهما مصطبة رخامية عالية تكاد تضيء"، ص77، ومغارة الصليب التي تم فيها إخفاء سيدنا المسيح "لأن صالبيه أرادوا حرقه من أجل إخفاء جريمتهم"، ص79، كما يصف السارد في رسائله درب الآلام الذي سار فيه السيد المسيح من خلال ساقات متعددة:

  • "ويستدير بنا الدرب، يفضي إلى ساحة صغيرة، فيقول الحوذي جو: هذه الساحة التي اجتمعت فيها النساء المقدسيات في أثناء مرور سيدنا، وقد تعالى بكاؤهن، ونشيجهنّ متألمات. هنا مسحن عرقه، وهنا شرب جرعة ماء.. لكن لم يحفل بهنّ أحد. هنا. هنا، بالضبط، حيث هذا هو القبر، ماتت إحداهن، حين ركع سيدنا وتدحرج، فنزّ الدم من وجهه، ويديه، وقدميه، وركبتيه، وصدره"، ص71. 
  • "هنا رَكعة أخرى لسيدنا، وقد نظر خلالها إلى السماء، حتى كادت عيناه تخرجان من رأسه، وقد لمع نور أضاء المنطقة كلّها"، ص72. 
  • "هذا هو دم سيّدنا حين ضربه الحرّاس برأس الحربة في جنبه، فاندفع الدم، وها هي ذي الحربة، وهذا هو رمح الخشب الطويل الذي رفعت على طرفه الأعلى قطعة القماش لكي يبلل سيدنا شفتيه بالماء، حين صرخ: عطشان"، ص100.

وحين يودّع فلاديمير وجو الكنيسة عند عتبة الخلاص، وقرب الدرجات الحجرية تبدو بهم على النحو التالي: "بدت لنا كنيسة القيامة بحيطانها النوارنية، ومدخلها الوسيع، وأشجارها، وحدائقها، وساحاتها وقبابها، وصلبانها النحاسية.. ورأينا الناس وهم في زهوهم والوانهم وحبورهم.. لكأنهم هنا.. كائنات من ضوء ونور، لا يدري الناظر إليهم من هم الداخلون إلى الكنيسة، ومن هم الخارجون"، ص75.

(يتبع...)

...............

الهوامش: 

  1. حسن حميد: مدينة الله، دار دلمون الجديدة، دمشق، ط2018. (ط1، 2009).

تعليق عبر الفيس بوك