هيروشي أمانو.. ظل الساموراي

حاتم الطائي

 

هيروشي أمانو يتحلى بمبادئ الساموراي مدعوما بقيم البوشيدو

اليابانيون أدركوا أن العقل البشري هو أهم مورد على سطح الأرض

قادرون على مواكبة الأمم المتقدمة شريطة الالتزام بقيم العمل ومبادئ الإخلاص

 

 

 

قبل أيام قليلة حالفني الحظُ في أن أتابع مُباشرة المُحاضرة الفريدة من نوعها لعالم الفيزياء الياباني الحاصل على جائزة نوبل هيروشي أمانو؛ حيث أسهب الرجل في حديثه عن تجربته الثرية التي كان من بين نتائجها الحصول على أرفع جائزة عالمية في مجال الفيزياء عام 2014.. أمانو خلال هذه المُحاضرة القيمة أثبت أنَّه ظل الساموراي في وقتنا الراهن، فهذا العالِم قرَّر أن يتحلى بمبادئ وقيم الساموراي ومن قبلها قيم البوشيدو لكي يُنجز ما أنجزه وساهم في نهضة بلاده.

وقضايا النهضة والتنمية والتطوير دائمًا ما تعتلي سلم أولويات الأمم ذات الإرادة الحقيقية في التغير نحو الأفضل؛ إذ إنَّ هرم التطور في أي بلد من البلدان يقوم على أعمدة ثلاثة: المعرفة ورأس المال البشري والبحث العلمي، وهذا الأخير بات الآن محور اهتمام الأُمم، فبدون البحث العلمي لن يتحقق التقدم، وفي ظل غياب البحث العلمي أيضاً تتخلف الدول عن ركب الحضارة..

وعندما أتأمل في واقع الأمم التي حققت نهضة يمكن وصفها بـ"الطفرة" وخاصة في مجالات العلوم والطبيعة، يتضح لي أنَّ البحث العلمي والتطوير المستمر للعلوم من أبرز العناصر التي ساهمت في تلك النهضة وساعدت على إحداث التنمية الشاملة المرجوة. ولنا في اليابان أنموذج، فهي الدولة التي استطاعت في غضون عقود لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أن تنتقل من النقيض إلى النقيض؛ فالدولة التي مزقتها الحرب العالمية الثانية وتبعاتها بعد الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي، استفاقت من هذه الكبوة وحطمت قيود مرحلة ما بعد الحرب، وعقدت العزم على إعادة البناء، وأن تكون اليابان واحدة من أقوى دول العالم، وقد تحقق لها ذلك.

لكن لم يتحقق ذلك بكبسة زر على جهاز تحكم عن بعد "ريموت كنترول"، بل بجد واجتهاد كل مواطن ياباني، الجميع سخَّر نفسه وطاقاته من أجل نهضة وطنه، كل ياباني في تخصصه وفي مجال عمله كان بمثابة الترس في عجلة الإنتاج الضخمة الدائرة في اليابان. استطاع الشعب الياباني أن يُحقق نهضته عبر ثلاثية: الرؤية والإرادة وثقافة العمل، وهو ما أثمر في نهاية المطاف عن اليابان التي نعرفها اليوم؛ دولة حديثة ورائدة في العديد من المجالات، على الرغم من افتقارها للكثير من الموارد الطبيعية التي تنعم بها دول أخرى لكنها لم تستطع أن تُحقق ولو نصف ما حققته اليابان من تقدم وتطور. إلا أنَّ اليابان تمتلك موردا طبيعيا آخر بالغ الأهمية، وهو المورد البشري، الذي لا ينضب، فالعالِم يورث علمه لتلاميذه، الذين بدورهم ينقلونه إلى أجيال مُتعاقبة من الشباب والفتيات العازمين بكل طاقتهم على خدمة وطنهم والإسهام في بنائه..

لقد أدرك الشعب الياباني حقيقة أنَّ العقل البشري هو أهم مورد على سطح الأرض، فلا النفط ولا الغاز ولا حتى الأنهار العذبة أو الأراضي الصالحة للزراعة، هي الموارد الرئيسية التي يُمكن للإنسان أن يُوظفها من أجل نهضته ونهضة أمته، بل إنَّ عقله وتفكيره وإرادته الحرة هي التي ستدعم رغبته في النهوض. فالعقل مصدر التفكير وبوتقة الإلهام وشعلة النشاط الذهني التي لا تنطفئ، وهذا العقل عندما وظفه اليابانيون استطاعوا أن ينجحوا في مجالات العمل المختلفة، فالعقول هي الثروة الحقيقية للأمم، ولذا يجب التركيز على تنمية العقول.

والعقل الياباني يقوم تفكيره على أسس خالدة، وضعها أسلافه من الحكماء ومحاربي الساموراي وفلاسفة اليابان الكبار. وأحد أبرز هؤلاء الكاتب والمُفكر الياباني الرائد إينازو نيتوبي، الذي ألّف في عام 1899م أهم كتاب للتعريف باليابان واليابانيين من وجهة نظري، وهو كتاب "بوشيدو.. روح اليابان"، والبوشيدو هي كلمة يابانية تحمل 3 مفردات في داخلها، وتعني "طرائق الفارس المحارب"، أو قيم ومبادئ الفرسان، وهي مجموعة من الأخلاقيات والسلوكيات التي تحلى بها المحاربون النبلاء في اليابان، وظلت تمثل لهم تقاليد ترسخت في وجدان الشعب الياباني على مر العصور والحقب. ورغم أنَّ الحضارات القديمة بشكل عام ازدهرت بفضل مجموعة من القيم والمبادئ المُعلنة مثل شريعة حمورابي البابلية، وأيضًا ما سجلته جدران وبرديات الفراعنة من وصايا وحكم ومواعظ، إلا أنَّ مبادئ البوشيدو تختلف في أنها ليست نصًا تمَّ إعداده، ولا دستورا صيغ على أيدي حكماء، بل إنها مبادئ توارثها اليابانيون عبر الأزمنة، وهي مبادئ تمزج بين قيم العدل والخير والجمال، لكن بصورة أعمق، وبرؤية حكيمة تظهر ذكاء الإنسان الياباني وفطنته للعالم من حوله.

والبوشيدو أيضاً هي أعمدة الحكمة، التي استفادت من التنوع الثقافي في اليابان على مر العصور وشكلت أنساقًا أخلاقية ارتكزت على الموروث الديني لليابان سواء البوذية بمبادئها الهادئة أو الزِن أو الكونفوشية، إلى جانب تقاليد الشينتو.  

وعندما أنظر إلى هذه التقاليد أجدُ أنَّها قيمٌ ومبادئ مثلى يمكن لأي مجتمع أن يلتزم بها وإذا التزم بها تحققت له نهضته، فالبوشيدو تدور في فلك التفاني في أداء الواجب بكل شجاعة، وترتكز على العدل، وتؤمن بالجسارة والتحمل، وأيضًا الرحمة والتعاطف بين الناس، واللطف والتهذيب، والصدق والإخلاص في العمل بأقصى قدر يستطيع المرء القيام به. ومن القيم أيضًا الشرف وضبط النفس.

ولذلك يُمكن أن ننظر إلى ما ذكره هيروشي أمانو خلال المحاضرة التي سبق وأشرت إليها، على أنَّه انعكاس لقيم البوشيدو، ومن تلك القيم التي ذكر منها أمانو "الإخلاص والتفاني في العمل"، وأنقل حرفيًا ما ذكره ذلك العالم حيث قال: "كنت أعمل أكثر من 15 ساعة يوميًا من أجل أن أصل إلى نتيجة حقيقية، قضيت سنوات طويلة أعكف على إجراء تجارب علمية لم تفضِ إلى نتائج مهمة في معظم الأحيان، فأعود إلى البيت محبطاً وحزيناً وأنام وأنا مكسور الخاطر يفترسني اليأس والشعور باللاجدوى من كل شيء حولي، لكن ما إن يأتي الصباح حتى استيقظ مبكرًا يملؤني الأمل والأفكار الجديدة، فأعود للمختبر بكامل حيويتي ونشاطي وتفاؤلي بالبحث عن الجديد، حتى توصلت إلى نتائج ناجحة ومبهرة تخدم الإنسانية بعد سنوات من المثابرة والعمل المستمر دون كلل".

هذه هي قيم الفارس المُحارب التي تمثل انعكاسا لمرآة الساموراي؛ أعظم المحاربين، وهي دعوة إلهام لكل الشباب حول العالم ألا ييأسوا، وأن يتخلصوا من كل المشاعر السلبية التي قد ترافقهم في مسيرتهم العملية، فالمثابرة وحدها هي التي تحقق لنا النجاح بنهاية المطاف.

زيارة الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء إلى عُمان هي الثانية من نوعها، وخلال هاتين المرتين استطاع هذا العالم أن يُقدم المثل والإلهام للشباب الذين توافدوا على قاعة المحاضرات للاستماع إلى تجربته العلمية والإنسانية على حد سواء. وهنا يجب أن تكون هذه الشخصيات العبقرية مصدر إلهام لشبابنا من الباحثين في مجالات العلوم وغيرها من المجالات، كي يمنحوا أبناءنا الطاقة والقدرة على تحمل الضغوط مهما كانت، ليس عليهم سوى الالتزام بالعمل والمُثابرة فيه، من أجل تحقيق النهضة الشاملة التي نأملها جميعا.

وتجربة العالم هيروشي أمانو تبرهن على أنَّ التقنية هي التي تقود النهضة، ولن نحصل على التقنية دون ابتكار، وما نراه حولنا من جهود حثيثة من قبل الحكومة الرشيدة وعدد من مؤسسات القطاع الخاص لدعم وتنمية الابتكار، يمنحنا مزيدا من التفاؤل بأننا قادرون على مواكبة الأمم المتقدمة، لكن يلزمنا أولاً أن نغرس قيم العمل ومبادئ الإخلاص في كل ما نقوم به، أن نتفانى في خدمة الوطن، فما يمر به العالم الآن من متغيرات وتحديات، يفرض علينا أن نضاعف من إنتاجيتنا وأن نواصل العمل دون توقف، وألا نفقد الأمل بأن الغد القادم سيكون أفضل، عندها لن تتمكن أي قوة على الأرض من الحد من تقدمنا ولا النيل من عزيمتنا.

فلنُشمِّر جميعنا سواعد العمل بكل إخلاص وتفانٍ، فنتحلى بقيم البوشيدو ومبادئها فإنها ليست مستحيلة!