صورة البطل في الرواية الفلسطينية

 

أمين دراوشة | ناقد وأديب فلسطيني

 

تعتبر الشخصية في العمل الروائي عنصرا أساسيا، وإذا كانت تمثل البطل الروائي فإن أهميتها تزداد وحضورها يكون طاغيا على مجمل أحداث الرواية. ظاهريا البطل في الرواية شخصية مركزية "تدور حولها شخصيات ثانوية، تضيئها وتُستضاء بها، وتنتج معاً فعلاً روائياً، يعيد تعريف الشخصيات جميعاً". (1)

ولكن البطل بهذا الشكل يبدو شخصية مرتبة، كما يقول دراج: يقرر عن ذاته وغيره، وكأنه أب يتحكم بالكلام ويمنع غيره منه. هذا التعريف يخلط بين الرواية والحكاية، ويتناسى عن أمرين أولهما: "الفعل الكتابي الذي يستدعي النثر الروائي، الذي تأخذ منه الرواية خصوصيتها ويعيّن اللغة الروائية، تالياً، مدخلاً واسعاً إلى الفضاء الروائي". (2)

فاللغة لها نصيبها من البطولة كونها أداة الاتصال، وموقع إنتاج المعنى، وجزءا من البطولة يذهب إلى "منظور العالم" الذي يخلق البطل سواء الإيجابي أو السلبي، فمعنى البطل لا ينفصل عن منظور العالم ولا يوجد إلا به. فالمنظور يضيء "دلالة البطل في طبقاته المختلفة، منفتحاً على أسئلة لاحقة، لأن «المنظور» لا وجود له بصيغة الفرد، فهو موزّع على «خيارات فكرية متنوعة»، إن صح القول، وعلى حقب اجتماعية متعارضة، تسقط «بطلاً» وتعلي من مقام بطل آخر، فملامح البطل من ملامح زمانه، ولا يوجد «مستقراً» إلا إذا كان بطلاً فارغاً". (3)

ويرى الدكتور حسين المناصرة، أن الروايات التقليدية هي التي تمرّكز العمل الروائي على شخصية واحدة، هي شخصية البطل التي تحيل على الحكايات الشعبية، ولكن مع تحولات دور البطل في الروايات، "تغيرت المفاهيم نحو الشخصيات، فغدت البطولة قيمة جمالية مستبعدة كثيرًا، ليحلَّ مكانها الشخصية أو الشخصيات الرئيسة، وأحياناً لا تكون هناك شخصيات رئيسة ، بقدر وجود شخصيات أو علامات تؤدي أدواراً معينة في بنية السرد، يمكن أن نسميها أدواراً فاعلة بحسب حجمها أودورها". (4)


ولهذا يرى المناصرة أنه كثيرا ما تكون البنية اللفظية للشخصية محدودة، ولكنها تكون المحرك الأساسي للبنية السردية في الرواية.

كل هذا لا يمنع من وجود روايات، برع فيها الكاتب في تصوير البطل، وأثار دهشة القارىء، وجعله يتعاطف معه، وكلما كان البطل إشكاليا كما يقول جورج لوكاش كان تأثيره على القارئ تأثيراً عميقا  "الذي ينجرّ بدوره وراء البطل، فيتعاطف معه، ينتصر له، يتعلم منه، يقتدي به، وقد يختلف معه في وجهات نظره". (5)

والبطل في الرواية يكون على الأغلب متمردا وثائرا ومقاوما، ويعبر بكلامه وتصرفاته عن نفسية المؤلف، و" يلعب في المساحة البيضاء كيفما تأتى له، وفي الوقت الذي يشاء. فيهدم ويبني، يعيد صياغة الواقع معرياً وكاشفاً الثغرات والعثرات فيه". (6)

والرواية ليست مهمتها نقل الواقع كما هو، بل الثورة عليه وإيجاد الحلول الإبداعية لمشاكله ومصاعبه، والغوص في عالم الفقراء والطبقات المهمشة والفساد والظلم والاستبداد.

تناولت في دراستي البطل في الرواية الفلسطينية، وأوضحت صفاته وخصائصه وآحلامه. إن الشخصيات الروائية ولا شك تنبع أفكارها واتجاهاتها وآمالها من الأرض التي تعيش عليها، أو التي تطمح بالعيش فيها. تتناول الدراسة البطل بكونه الشخصية المركزية في العمل الروائي، ولقد اخترت ثلاث روايات الأولى للكاتب جبرا وهي "البحث عن وليد مسعود" والتي صدرت في عام 1978م، أي قبل انفتاح العالم العربي على اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني وفتح قنوات اتصال معه بشكل موسع من أغلب الدول العربية، والثانية رواية بطعم الجمر والصادرة في القدس عام 2014م، ورواية مشهور البطران "السماء قريبة جداً" والصادرة في عام 2015م أي إن الروايتين كتبتا بعد مرور وقت طويل على توقيع اتفاقيات أوسلو المشؤومة. وذلك للوقوف على خصائص البطل، وهل حدث تغيّر جوهري عند الروائيين الفلسطينيين "الملتزمين وطنيا" قبل وبعد أوسلو.

هل أبطال الروايات بعد أوسلو يعيشون في بحبوحة وسلام نفسي، ومتعايشين مع الاحتلال، أم أن صورة البطل اختلفت. وخصوصا أن سنوات الثمانينيات وأوائل التسعينيات كانت المقاومة هي من تتربع على عرش قلوب الشعب الفلسطيني.

هل تمرد البطل ما بعد أوسلو على أتفاقيات مخرومة، ولم يستكن للواقع المأساوي؟

سنناقش هذا الأمر في الصفحات المقبلة.

البطل الفلسطيني الفريد في رواية "البحث وليد مسعود"                                

تتناول الرواية، مسألة اختفاء بطلها الفلسطيني وليد مسعود، حيث ترك في داخل مسجل سيارته شريط، يحكي فيه عن حياته، وعلاقاته.

وتتنوع الأصوات في الرواية، لكن في كل فصل يظهر التأثير الكبير الذي خلفه البطل وليد مسعود في الشخصيات المختلفة الموجودة في الرواية.

فالرواية تسير بحركة دائرية، بحيث تبدأ من حيث تنتهي، فالأسئلة المهمة، تشرع في الظهور عند انتهاء الرواية. فشخصية وليد إشكالية، فهو الفلسطيني الذي يحيا في بغداد وينخرط في مجتمع أصحاب المال والمثقفون ويحقق ما عجز الجميع عن تحقيقه، سواء على مستوى العمل أم سعة الثقافة والشهرة، وحتى في مقدرته الجنسية العظيمة، وهو القادر على اجتذاب الناس إليه، بسعة علمه ومعرفته، وحبه الكبير للناس. كما قادر على شدّ النساء الجميلات إليه لما فيه من صفات نادرة لا تستطيع أي امرأة مقاومتها.

يعيش بطلنا وسط مجتمع بغداد الراقي منذ بداية الخمسينيات، ولكنه يترك كل نجاحاته على مستوى المهنة والثقافة خلفه، ويختفي تاركا أصدقائه ومعارفه في حيرة وارباك يحاولون اكتشاف سره، ولكنهم في سعيهم الدءوب لاكتشاف شخصية وليد العجيبة والغرائبية يكتشفون أنفسهم من جديد.

يختفي وليد، ولا أحد يعرف ماذا جرى له. فمنهم من يعتقد أنه قتل من قبل أعدائه، وآخر يظن أنه اختفى ليعود بعد فترة، ولكن وصال صديقته التي تحبه وتعشقه لا تستكين للأمر، وتبقى في بحث دءوب عن حبيبها وليد، حيث تلتحق في أحد فصائل المقاومة في لبنان، من أجل دخول فلسطين، فهي على إيمان ويقين أن وليد عاد للأرض المحتلة، الأرض المقدسة التي عشقها ولا يطيق الابتعاد عنها، من أجل مقاومة المحتل الغاصب والانتقام لأبنه الشهيد مروان.

ترى هل سنعثر على وليد مسعود، وسنلتقي به يوما؟ أومن بذلك!

 

وليد مسعود صفات جسدية وفكرية خارقة

نقرأ ما كتبة أحد معارفه، الدكتور طارق رؤوف، إذ يقول: "كان وليد رجلا قويا، له عضلات لم تهن حتى عندما أدرك الخمسين" (7) كما أن وليد من أهل الجبال في فلسطين، لذلك هو من الفلاحين الأقوياء، الذين "يقارعون الأرض، فتمدهم الأرض بصلابتها ومقاومتها" (ص 139).

أما مريم الصفار، إحدى صديقاته، وقد عرفته عن قرب، فتقول: "رجل متميّز بصوته، بضحكته... عيناه كعيني النسر في اتّقاده، وفمه العريض يوحي بالعناد والقوة والإغراء" (ص 222).

كل شيء في وليد يثير إعجاب المرأة: الثقافة، والقوة، وحتى إغراء صوته وفمه العريض المثير. وتضيف مريم: "بدا لي طويلا، عملاقا، وعيناه لا تملآن وجهه فحسب، بل الغرفة كلها، الدنيا كلها" (ص 244).

وعندما يعرف الدكتور طارق بعلاقة أخته وصال بوليد، يحاول أن يبعدها عنه بأي طريقة، ويحذرها قائلا: "كل امرأة، اتصل بها، أصيبت بالجنون، أو الهستيريا" (291).

ووليد قادر على تجاوز أي مصيبة تحيق به، فهو يسمو ويرتقي فوق كل الكراهية والحقد، وهو على استعداد للتخلي عن كل شيء من أجل هدفه الأسمى والأجمل فلسطين.

ويقول إبراهيم الحاج نوفل حول ذلك: "ما حلّت مصيبة برجل مثله، إلا وخرج منها أقوى وأصلب. فالصعيد الذي يمّم وجهه شطره يومئذ كان في أعلى القمة" (323).

وهو إنسان مثالي، وعنيد لا يتنازل عن مثاليته حتى في أشد لحظاته بؤسا، وكان يحلم بمجتمع راقي، عقلاني، تسوده الحرية وينطلق فيه الخلق والإبداع، من قبل إنسانه الذي يملك ناصية العلم.

وكان يصر حسب قول الدكتور جواد حسني على وجوب استخدام التكنولوجيا، "ولكن كيف لها أن تفلح في أداء مهمتها ما دام يقاومها موقف أساسي غير عقلاني من الأفكار، من الأشياء؟" (44).

ودائم التساؤل عن كيفية إخراج المجتمع العربي من جهله وغيبيته، ويقول: كيف نخلق الموقف العقلاني في مجتمع يغرق بالغيبية صباحا ومساء؟

وهو "مع تحقيق انطلاق الخيال الإنساني نحو كل ما يجعل من الحياة مغامرة وتفجرا وعشقا..."(44).

ولكن لا يمكن أن تنبع الحلول لهذه المصاعب إلا من الداخل، من داخل الإنسان العربي، ويبدو أن هذا ما يحدث حاليا في وطننا العربي الكبير من ثورات شعبية على أنظمة محنطة فقدت الحلم والخيال والعلم، وجرّت الشعوب العربية إلى هاوية سحيقة، ولكن الشباب العربي، أخذ يستعيد زمام المبادرة، ويفاجئنا ويسحرنا. وما أسعد جبرا! ويا لفخر وليد مسعود بذلك!.

فهذا البطل مصنوع من معدن نفيس ونادر وفريد، ولن يهدأ له بال حتى يستعيد الحلم الفلسطيني العربي، ولا تعنيه المادة أو الشهرة أو أي شيء آخر، عندما يناديه الوطن المقدس.

يظهر لنا صوت وليد مسعود، وهو يكتب الصفحات الأولى من سيرته الذاتية، فيعبر عن إعجابه بالكبرياء والأنفة اللتين يتمتم بها الفلاح الفلسطيني. فيقول: "ألم يكن لله أن يجعل جنة السماء يومئذ ملكا للأرّض... لهؤلاء الذين يبيعون العنب والبندروة وفيهم أنفة الأمراء وكبرياء الملوك؟" (180).

ويتحدث عن جمال الناس في فلسطين، واحتمالهم قسوة وتآمر العالم عليهم، وهم وكأن الأمر لا يعنيهم يقاومون، يثورون ولا يطأطئون الرأس أبدا. فيقول: "كنت أرى الناس جميلين، ...، وهم يقاومون على مهل، ولا يرضخون" (183).

وحتى في أحلامه وخيالاته وهو غرّ، لا يريد أن يترك فتية البلدة، فيأخذهم معه إلى عوالم جميلة وأخاذة، ويقفون في وجه الدنيا حتى تعيد الحق لأصحابه. ويتمنى حالما"لو أستطيع أن أركب الحصان وانطلق به في عوالم رائعة... ومعي صبية البلدة كلهم، وقد أصبحوا فجأة رجالا يتلثمون بالحطة ويلبسون العقال، ويشهرون السيوف في وجه الدنيا" (184).

لكن الأوان لم يأت بعد، فقبل ذلك يجب "أن التقط كتابي ودفتري ومقلمتّي، وأقحمها بسرعة في كيسي المدرسي، وانطلق به راكضا إلى المدرسة" (184).

فإذا أراد الإنسان الفلسطيني الظفر في صراعه مع العالم، عليه أولا أن يشرب من نبع العلم، فلا ارتقاء دون معرفة.

وعند اعتقاله يفكر والمطر ينهمر، ويتسأل عن الناس في فلسطين: "من هم هؤلاء الذين حولك يضحكون، يضحكون في وجه الموت" (242).

وفي غرفة التحقيق، ادخلوا معه محمود كاملة، وقابلوه به وجه لوجه، ووجه محمود "كوجه من قام من القبر، وراح يمشي تائها ويداه مغلولتان خلفه" (247). وخضه الجندي القاسي: أتعرفه؟  ويجيب محمود:  لا! لا!

وجها لوجه والجلاد ينتظر الانهيار بشوق، ولكن محمود كان رائعا "عيناه تقدحان في محجريهما العميقين، رغم شحوبه المريع، لم يرفّ له رمش عند رؤيتي. فمه دام من الضرب)" (247).

ووليد يتعلم من زملائه، فإذا كان محمود، يصمد ويتحدى، فماذا عني؟ "يا الله! يجب ألا انهار! ومحمود أهم من اتصل به في المنطقة صلب كحد السكين، ولمّا يبلغ الثلاثين" (247).

آمن جبرا بالإنسان الفلسطيني، وعلى نجاحه وامتلاكه ناصية العلم وسعة خياله وإبداعه وصلابته التي أهدته إياها الأرض المقدسة، وأن الحلول للمشاكل المستعصية التي تعصف بالفلسطيني يجب أن تنبع من الداخل، من الإرادات التي تمثل بمجموعها هوية الأمة.

كل شيء يلين بيد وليد حتى المطر، الذي عشقه، فيقول كاظم عن تجربته القاسية معه، حين اصعده إلى سيارته، وسار فيه تحت المطر، والجو شديد البرودة، ثم ألقاه على قارعة الطريق المهجور، قبل أن يعود وليد ويلتقطه من جديد.

وجدتني بغتة في قبضة رجل أضاع رشده. كان يسوق كالمجانين، ولا أظنه كان مخمورا. وكالمجانين في ظروف استثنائية، تمكن من سيطرة مدهشة على كل شيء: عليّ أنا، على السيارة، على الطريق. حتى خيّل إليّ أن المطر نفسه كان من تدبيره، إي والله!.

ورغم كل هذه الصفات الرائعة والمميزة إلا أن وليد يعاني داخليا، فهو حسب رأي سميرة "مقتلع،... وهو يحاول أن يجد الأرض يعيد فيها غرس جذوره، وإلا فأنه لن يستطيع أن يفكر، أن يكتب، أن يحقق شيئا" (68).

ولهذا هو منذ سنوات سابق في تفكيره غيره، حتى أنه كان يدعو منذ زمن بعيد قبل انطلاق الثورة الفلسطينية إلى تشكيل خلايا فدائية سرية، ويقول إبراهيم الحاج نوفل عن ذلك لجواد: "أتعلم أنه كان منذ خمس وعشرين سنة يدعو إلى تأليف جماعات سرية، كجبهات الفدائيين اليوم، ولا يصغي إليه أحد في تلك الأيام؟" (83).

وتركض وصال المفتونة بوليد إلى الدكتور جواد، شارحة نظريتها حول اختفائه، أنه لم يمت، وهو حي يرزق، وتؤكد على ذلك، وعندما يسألها جواد إن كانت رأته، تقول له:" طبعا لا. إنه في الأرض المحتلة باسم آخر، ربما بشكل آخر، ولا أظن أحدا يعرف أين هو بالضبط" (373).

وهي ترغب بالتوحد مع وليد، وتريد من أجل ذلك اللحاق به قائلة: وليد يريد أن يقاتل، على طريقته، لا بد أن أكون بجانبه.

لقد اتصلت وصال بكل معارفه في النضال في عمان ولبنان وأجمعوا على استنتاج واحد لا غير "وليد اختفى عن قصد ليضلل ملاحقيه، لكي يستطيع أن يتحدث بحرية خلف خطوط العدو" (375).

ويسعى للانتقام لاستشهاد ولده مروان. وسيعود، وتكرر وصال سيعود، وسترى يا جواد، فأنا أحدس بأنه قهر الموت، أنا لست مجنونة أو ساذجة أنا أحدس الآن بأنه حيّ.

هنا ينفعل الدكتور جواد قائلا، مستذكرا صديقه الغرائبي: "فلتمطر السماء ماءا، فلتمطر السماء نارا: أنها لن ترهب رجلا عبر الماء ولم يغرق، عبر النار ولم يحترق، أو أنه ما عاد يرهبه أن يغرق أو يحترق. لم يعد كائنا حقيقيا، ربما حتى لنفسه: أما لوصال، أما لشهد، ؟أما لعابرة الفرات على صهوة خيالها الفاجع، فإنه الحقيقة الوحيدة المؤمنة عبر المسافات، المنادية عبر الفلوات والوديان والجبال. وعلى صهوة خيالها الفاجع حملتني معها لحظات مذهلة. قلت: "كل شيء ممكن بخصوص هذا الرجل. كل شيء ممكن" (376).

والتحقت وصال بجبهة فدائية في لبنان، فقد ارتبطت مع وليد بوشائج لا يمكن لها الانفكاك عنها.

فمن هو وليد مسعود؟ يقول جواد حسني في النهاية:  كان وليد حاصل حياته وحياة المحيطين به، حاصل زمانه الخاص وزماننا العام، في آن، وأي زمان كان كلاهما، زمانه وزماننا!

يختفي البطل الفلسطيني وليد مسعود، ويترك شخصيات الرواية "تكابد في التعرف على زمنها هي من خلال البحث عنه وعن زمنه "الفلسطيني" وقبل أن يختفي، يحدد لهم زمنه وماضيه الذي يحمله على كاهله ويثقل عليه" (8)

تأخذ الذكريات وليد، وهو في طريقه إلى الزنزانة بعد الاعتقال الوحشي، إلى ابنه الفدائي مروان، ورفاقه في النضال وإلى الآم أمته ويقول: "كلما سقطت الأمطار ذكرتك، وذكرت كل من أحب، ذكرت طهبوب وبشير ومحمود، وامتلأت كبرا وخيلاء، وكلما سقطت الأمطار ذكرت هموم أمتي، ذكرت تخبطاتها وأوجاعها وامتلأت حزنا وفجيعة" (249).

يتشابك ويتداخل الزمن الفلسطيني مع الزمن العربي، والألم الفلسطيني مع الآلام العربية، لأن وجع وفجيعة فلسطين هما وجع وفجيعة الأمة العربية جمعاء.

ووليد مسعود يضع يده على الوجع ويحدده " ويختفي تاركا الآخرين ليلهثوا في قراءة الحواشي لاكتشاف المتن، المتن الفلسطيني الذي ببحثهم عنه يكتشفون أنفسهم" (9) وتتضمن الرواية وعي عميق بالزمن، ففيها تحقق " التحام الزمن الفلسطيني- من خلال استرجاع وليد مسعود لماضيه، وتلاشيه الذهني...باحثا عن هويته...بالزمن العربي، من خلال بحث الشخصيات العربية الأخرى عن ماضيها بتفتيشها في ماضي وليد مسعود نفسه، لتكتشف نفسها به" (10)

فالرواية أكدت أن لا انفصال بين الزمنين.

ويختم صوت الدكتور جواد الرواية بعد أن يعدنا بالمزيد عن أخبار وليد مسعود، بقوله: "بعد أن يقول الأشخاص ما يقولونه، بعد أن يبرزوا عن تصميم أو غير تصميم ما يبرزونه، ويخفون عن تصميم أو غير تصميم ما يخفونه، يبقى لنا أن نتساءل: عمّن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم، أم عن أنفسهم، عن أوهامهم واحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطل من أعماقها، أم هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها؟" (363).

 

مروان وليد مسعود الفرحان                               

الولد سر أبيه                                             

الرواية هي رواية الجذر الفلسطيني الذي يغور عميقا بالأرض، فالجد الذي يكافح صعوبات الحياة، ويفقد أحد أولاده في انفجار في القدس قامت به العصابات الصهيونية، إلى الأب وليد مسعود الذي رغم نجاحه في الحياة وتهافت الجميع عليه إلا أنه لم  يهدأ له بال، فظلت فلسطين بمدنها  القدس، بيت لحم...وترابها وصخورها وأشجارها وطيورها وحتى لسعات القراص، تطن في أذنه، حتى تخلى عن كل شيء وعاد مقاتلا إلى فلسطين.

وحال لسانه يقول للفلسطيني: عليك أن تنتصر في الغربة، حتى تستطيع أن تنتصر لفلسطين من خلال عودتك الظافرة.

هذا العائلة كان لابد لها أن تنجب طفلا لا يعرف إلا فلسطين، ولا يرتضي لها بديلا.

مروان الفتى الفلسطيني الذي التحق بأحد فصائل الثورة في لبنان، ولم يبلغ الرابعة عشر بعد.

فما هي صفات مروان الفتى الفلسطيني المقاتل، تقول مريم الصفار صديقه والده بعد أن زارته في مدرسته الصيفية، عن انطباعها الأولي عنه: " يتتبع الأخبار السياسية بنهم، وهو لم يكمل الرابعة عشرة بعد. فلسطيني حتى جذور شعره. طويل بالنسبة إلى سنّه، ضامر الوجه كأي مراهق ذكر، وعيناه في تألق دائم" (230).

إذن هو الفتى المثقف المتسلح بالوعي، والقوي. والصلب، المنتمي إلى أرض الرجال وصاحب عينين متلألئتين. هل ورث عينيه عن والده؟ هل هو نسخه عن أبيه وليد؟

تتحدث وصال عن زيارته إلي لبنان ورؤيتها مروان في مخيم صبرا. وعن الفتى الذي لا يكون إلا ذاته، و"عيناه الجميلتان، كانتا عيني أبيه ولكن مع بريق أشد، وقسوة لم تعرفها عينا وليد. أردت أن أتخيل إنني أري وليد في ذلك الخاكي المرقش وتحت تلك الحطة الفدائية، وهو يحمل الكلاشنكوف، ولكنني لم أر لا مروان نفسه، طويلا، غير مبتسم، رافضا إلا عشيرته الجديدة في تلك  المدينة المخيّم التي أحسست أنها تعود بي إلى جوهر الأشياء المنسيّ" (279).

رأت فيه ملامح وليد، ولكن عيناه أشد لمعانا وتألقا، وأكثر قسوة، يضج عنفوانا واندفاعا نحو المستقبل، ففي حين عاش وليد سنوات طويلة من حياته وسط مجموعة من الأصحاب المثقفين من الكتاب والصحفيين والرسامين والمدّعين وأقام علاقات واسعة ومتشعبة مع الكثير من الجميلات والحسناوات، ولم تكن وصال إلا واحدة منهن. ولكن أثبتت الأيام أنها تكن حب عظيما له، وأنها اختارته وقبلت بخيارته، ونراها لا تقنع بموته وتشعر أنه اختفى ليعود إلى فلسطين التي أحب مقاتلا. وتصمم على الالتحاق بة، وتلتحق بفصائل المقاومة أملا بالعودة إلى فلسطين لتلتقي حبيبها التي لا حياة دونه على الأرض المقدسة وهي الفتاة العراقية التي تمتلئ رقة وجمالا، حبا وحنانا. بينما مروان لم يعرف ولم يحيا إلا وسط عشيرته المولودة حديثا في المخيم، الذي سيشكل القلب النابض ويخرج أجيالا من المقاتلين لتولد الثورة وتستمر الثورة.

وعندما تغريه وصال، وتطلب منة القدوم للعيش في بغداد، عند والدك الذي يحبك كثير يقول مروان: "لا حاجة بي للذهاب إلى بغداد وحياتي هنا في المخيم. عندنا مهام كثيرة " (280).

وحاولت أن تعطيه القليل من المال، لكنه رفضها رفضا قاطعا، فغضبت قائلة: (أنك عينيا أبوك! عنيد...كلكم عنيدون، أنتم الفلسطينيين!" (281).

ورغم القسوة الظاهرة على مروان، نراه الفتى الذي يهيم حبا في أبية، ويخاف عليه، فيطالب وصال، أن تقنعه  بالتوقف عن النضال إذا كانت تحبه، فتستغرب وتجيبه، ترفض أن يستمر أبوك بالنضال ولكن أليس هذا خيارك أيضا؟

فقال ووجهه يتّقد: "لأن دوري يختلف عن دوره. المرحلة تختلف. رجل في الخمسين لا يفيدنا في شيء وهو يحمل الآر. بي . جي.  أنه يفيدنا في التنظيم، في التمويل، في إيجاد العلاقات الضرورية كخلفيّة للقتال. ألا يكفيه ذلك ؟ ثم إنه كافح طويلا.." (282).

هنا يتجلى الخوف الإنساني المشروع، فوالده قد ناضل كثيرا وكبر وتعب وآن له أن يستريح ويساعد كخلفية، ولكن آنّى لوليد مسعود الراحة! وهو القائل إذا كان لي الحق أن أحب فتاة كوصال وأنا في الخمسين، فلا يكون لي الحق أن أقاتل من أجل فلسطين حتى لو بلغت التسعين.

وتحاول وصال جرّ الحديث إلى مكان آخر، فتسأل مروان عن صديقاته، فيجيب هناك فتيات كثيرات ولكني مشغول بأمور أهمّ.

وبعد لحظه صمت، يضيف "عندنا تدريب قاص، عنيف، أنا ومجموعتي. لا أصدّق متى سنعبر الحدود" (285).

فلسطين أخذت كل عقله وقلبه ووجدانه فلا يرى سواها، ولا ينتظر بشوق إلا عبور الحدود والتقاء بها.

وإثناء تناولهما الغذاء عبرت وصال عن سعادتها بالسمك الطازج والفاخر، قال لها مروان أنه يعد وعد "أن أطعمك، يوما من الأيام، سمكا من بحيرة طبريّا، وأنا وأنت وأبي جالسون على ضفتها. ولو بعد خمس سنوات. أو عشر سنوات. موافقة؟" (285).

وهنا يعبر مروان عن إيمانه العميق باستحالة الهزيمة، وأن لا بديل للفلسطينيين عن الظفر والنصر.

لذلك هو يقتحم قرية أم العين الفلسطينية الحدودية، مصدقا لقوله بالفعل، فالطريق إلى فلسطين لا تكون بغير البندقية، ويقول: "أشعر بارتياح داخلي... لست أشعر بخوف أو توتر-غريب!" (298).

ضميره نقي، يقينه أنه يفعل الصواب، ويسير في الدرب الصحيح، يعينه على ما أقدم عليه، يقول: "أنظر إلى نفسي, متئدا، هادئا. وكأنني لست مستلقيا بحيطة وتصميم بين أشجار الزيتون. قناعتي بما أفعل تملأني" (298).

ويتراقص لمروان الحلم، ويحس باقترابه، وأنه يلامسه بيديه، وليل فلسطين هادئ وساكن، وفيه قرصه برد، "ووراء الزيتون أرى النوّار أرى النوّار مكومّا على أشجار التفاح وهو يلتمع فضيا أخضر بضوء القمر. رائحة التراب النديّ أتلذذ بها، والسماء صافيه لا يخفي القمر المتناقص كل نجومها. أسندت رأسي على سلاحي بطمأنينة" (299).

لا يشعر بالاطمئنان إلا وهو يضم سلاحه، لا يحس بالثقة وقوه الإرادة إلا وهو مع رفاقه ووحدته العسكرية، التي يقودها أبو الرائد وهو "إنسان جرئ، صلب، مندفع بحب هائل للرجال الذين يأتمرون بكلمته، وشديد العصبية معهم عند وقوع أي خطأ" (301).

وينتابه شعور بالفخر والكبرياء، لأنه يدخل فلسطين محاربا.

ذهنه صاف، ويفكر بأبيه وحتى وصال، فيقول: سأروى التفاصيل لأبي. حالما أصل إلى القاعدة، سأرسل إليه خبرا في بغداد، وأطلب إليه أن يقول لوصال: هذا أول الوفاء بالوعد ستفهم .

وأحس مروان بالتعب والإرهاق من كثيرة السير منحنيا، وهو في طريق العودة لقاعدته بعد أن انهي مهمته، فقرر أن يرفع رأسه لكي يستنشق الهواء الفلسطيني الرطب ملء رئتيه ويقول "وسرت للحظتين منتصبا بطول قامتي، غير مهتم بصفير الرصاص، ساخرا من احتمال إصابتي، كأنني بعد تلك التجربة حظيت بحصانة سحرية ضدّ رصاص الأعداء جمعيا" (302).

وكما سيهزم والده الموت، سيصنع مروان من موته حياة.

يصرخ قائده أبو الرائد به، مروان انبطح، الدنيا كلها تراك، والرصاص يستقر في جسده ويصعد شهيدا مرددا أبي ..أبي.

ولكن سيبقي الفلسطيني يقض مضجع اليهودي محتل أرضه ومشردة ومعذبة. ولن ينفع اليهودي التحريف والتدجيل والتبديل، وسيقتحم مروان وليد مسعود الفرحان قرية أم العين الفلسطينية ليقول لوصال: هذا أول الوفاء بالوعد. وستفهم ما يعني ذلك القول والفعل.

سيبقي الأدب الفلسطيني يصور، معاناة الفلسطيني أينما وجد، بصورة صادقة ومعبرة وجميلة.

وسيملأها الحنين والشوق الذي لا مثال له إلى هذه الأرض المقدسة، التي ولد فيها المسيح ووطأ ثراها والتي عرج منها الرسول الأمين محمد (ص) إلى السماوات العلا.

وستبقي هذه الأرض "المعشوقة المنتهكة في المطر، وفي الليل، المنتهكة في الضحى وفي الظهيرة، في الصحو والغيم والعاصفة والسكون" (243). 

تنتظر المطر ليدقّ الأبواب والنوافذ، ليخترق "البيوت والمغلقات والأعماق، يريد أن يجري أنهرا في الحنايا والخفايا، مهددا بالموت، ومنقذا من الموت من أحب، من سوف ألد...مؤذنا بحياة تضطرم وتصطخب وتتناسل سرا وعلانية ..." (243).

فأقبل أيها المطر فقد طال انتظارك.

 

 

 

 

 

جذوة الحق لا تنطفىء...في وطن مقطّع

في رواية "بطعم الجمر"

يتناول الكاتب في روايته، عودة شخصيته الرئيسية "زيد" إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، ورحلته الطويلة من بغداد إلى غزة مروراً بعمان والقاهرة. وعلى الرغم من زمن الرواية القصير إلا أن الكاتب وعبر تقنية الفلاش بالك، وتداعي الأفكار أخذنا في رحلة تمتد لأكثر من خمسة وعشرين عاماً. فعند وصوله إلى المعبر ورؤيته للازدحام، وعذابات الأطفال، يتابع طفلاً يبكي بحرقة ويصرخ بأعلى صوته، ويقلب نظره فيمن حوله، ينظر إلى جنود الاحتلال المدججين بالسلاح ويدهم على الزناد، يشهرونه في وجوه المواطنين المتدافعين أمام البوابة "ويتضاحكون بشكل هستيري مريض، كأنما يتلذذون بعذابات الناس، وذلهم.. حدّق في جنود الاحتلال.. لم يتغيروا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما..". (11)

زيد بطل الرواية، فلسطيني أبعد إلى خارج وطنه من قبل الاحتلال وبعد اتفاقيات أوسلو سمح له بالعودة، وكان قضى بضعة سنوات في المنفى، وترك خلفه زوجته "رباب" وطفله "سالم" كبر ولم يتمتع في رؤيته ينمو ويشتد عوده، وهذا حال الكثير من الشعب الفلسطيني.

 

مرارة العودة إلى الوطن

شخصية زيد تبدو في الرواية تعاني من الإحباط وحالة اغتراب مكاني، بعد عودته إلى أرض الوطن، فهو كان يعتقد إنه لن يرى جنود الاحتلال أثناء دخوله وتجواله في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد توقيع اتفاقيات السلام إلا أنه وجد نفسه لا يستطيع الحركة مسافة قصيرة وإلا ويجد حاجز عسكري احتلالي يذيق المواطنيين الأصلانيين المرارة والذل. في إحدى نقاشاته مع والدته عن السلام في ظل الاحتلال، تقول له: هل أنت نادم على عودتك؟

ويجيبها: "أبدا، لكن العيش في هذا الوطن، يحتاج لكثير من الشجاعة ونكران الذات". (ص134)

فحلمه الكبير لم يكن أكثر من بيت صغير يعيش فيه مع المرأة التي أحبها، في رام الله مدنيته الحبيبة التي ما زالت تئن من الألم، و"يغمرها بحر الظلمات الذي لا يزال يحتلها ويغمرها منذ عشرات السنيين، حاملا إليها الموت والدمار والحقد الذي يحمله جنود الاحتلال". (ص 65)

البؤرة الأولى في الرواية هي التواجد على المعبر من الجانب المصري لبضعة أيام في انتظار سماح حواجز الاحتلال للمواطنين بالدخول إلى فلسطين. قضاها زيد برفقة صديقه القديم رمزي في النوم في بيت قديم حوله صاحبه إلى نزل صغير ومتواضع، والجلوس في المقاهي. فهناك ضغط كبير على المعبر، والإسرائيليون  يضّيقون على الناس كعادتهم.

يعتمد الكاتب في روايته على العودة إلى الماضي وذكريات البطل، أو ما يسمى الاسترجاع الخارجي، والذي يعني العودة إلى الماضي، "وأهميته أنّ يسد الثغرات التي قد يخلّفها السرد للقصة التي يجب أن تكون قد حدثت وانتهت في الماضي". (12) فمن خلال الاسترجاع "نتعرّف على جوانب كانت مجهولة في هذه الشخصية أو تلك، وأن نطلّع على تفصيلات صغيرة قد يكون السرد أهملها". (13) فالزمن متحرك إلى الخلف وإلى الأمام، وعبر هذه الذكريات التي يحكيها الراوي العالم بكل شيء عن شخصياته. يتذكر زيد الاحتلال الذي أفقده حبه رباب، فجنود الاحتلال أذاقوه الألم، ولاحقوه في لقمة عيشه، وحرموه من حب حياته "نعم الاحتلال طارد حبه، ومنعه من ممارسة حقه في الحب والحياة.. وهو ما دفعه إلى الانخراط في المقاومة حتى يتمكن من ممارسة حقه هذا، والدفاع عن حبه". (ص44)

وأثناء إبعاده حاول عدة مرات العودة دون نجاح. في النهاية وصل عبر الحافلة إلى المعبر، وكانت غزة على بعد أمتار منه. وكما جرت العادة عند قوات الاحتلال، كان لا بد للقادمين من الدخول على غرف المخابرات...

دخل زيد إلى ممر أحدى الغرف يرافقه جندي وآخر من المخابرات، وقبيل الوصول إلى الغرفة المقصودة سمع صوتاً يعرفه جيداً يقول له تفضل. إنه صوت الكابتن "روني" الذي لازمه سنوات طويلة، وانطبع في ذاكرته. يحدث بينهما نقاش عن ماضي زيد، ويحتد زيد عليه، قائلاً له: إن هذه فلسطين المحتلة وأنا عائد إليها وليس إلى إسرائيل. يفترقان ويظهر أن الكابتن لن يترك زيد ليعيش حياته كباقي البشر.

يلتقي زيد بصديقه رمزي على شاطىء غزة بعد أن أضاعه على المعبر، ومن حديثهما يستشف أن زيد يشعر بالضيق، وأن الأشياء في الوطن تغيرت ولم تعد كما كانت، وحتى هو قد تغير، يقول لصديقه: "ولا أدري إن كنت زيداً الذي كان هنا ذات يوم، السجن، الإبعاد، المنفى، تبدّل الأصدقاء... كونت أهلاً آخرين ثم أخيراً العودة على هذا النحو". (ص56) فالبطل زيد يعاني من حالة اغتراب مركب مؤلمة، فهو يشعر بالاغتراب الذاتي والاغتراب الاجتماعي فبعد سنين الغربة يحس بالاغتراب عن الأهل والأقارب والأصدقاء والمجتمع، ولكنه إنسان يعي اغترابه، وفروم عالج هذه القضية بالقول: إن"الوعي بالاغتراب يؤدي إلى التغلب عليه". (14) والمقصود بالوعي رؤية الواقع كما هو، والتحرر من الأوهام، والانطلاق لتغيير الواقع.

ويستمر زيد في الحديث لصديقه عن صعوبة التوازن في ظل ما مر به، فالعمر قصير، ولكن السنوات الماضية مرت كأنها دهر، "كل ذلك وما تخلله، يدفعني إلى الجنون". (ص56)

يجلسان في عريشة "أبو علي" لتناول السمك الطازج، يتقدم منه أبو علي ويخبرهم إن قارب خفر السواحل الاحتلالي موجود في البحر ولا بد من الانتظار حتى يذهب ناحية الجنوب لمدة ساعة، لكي أنزل إلى البحر لعلي أصطاد ما يكفيكم من السمك. نزل مجموعة من الصيادين إلى البحر، ولكنهم تأخروا بالعودة، لذا تفاجأوا بقارب الدورية الذي لم يحذرهم بل شرع بإطلاق النار مما أدى إلى استشهاد أحدهم وإصابة العديد من الصيادين ومن بينهم "أبو علي".

في المستشفى يتعرف زيد على آراء الشباب الفلسطيني في السلام مع الإسرائيليين، فهذا علي بعد إصابة والده يقول: "يحاصروننا حتى من البحر.. إياك أن تصدقهم، إنهم كذابون مخادعون.. لا يريدون السلام.. يريدوننا أن نموت.. أنا أكرههم.. أكرههم". (ص61)

وأثناء تجواله في شوارع غزة، سمع إطلاق نار، وشاهد جيبات الاحتلال العسكرية، فأدرك إنهم لم يغادروا، وتوقف ليسمع تعليقات المارة على الحادثة، فقال أحدهم:

- أي سلام هذا؟!

- إنه سلام القوي يا عزيزي...

- يا سلام سلّم...  

في اليوم التالي، يركب زيد السيارة العمومية، وينطلق إلى رام الله، بعد أن تم التنسيق له للعبور، ويستمع إلى أحاديث الركاب حول السلام، ويتأكد أن الاحتلال لم يغادر بل هو باق ويتحكم بكل مفاصل المدن الفلسطينية، وفي حياة الشعب الفلسطيني، ويفهم عامة الشعب هذا الأمر، لذا يرد السائق على أحد الركاب الذي يتحدث عن ضرورة الالتزام بالاتفاقيات، قائلاً: "الطيّبون والسذّج فقط هم الذين يلتزمون بتوقيعهم أما هؤلاء فلا عهود لهم، وهم ليسوا طيبين وليسوا سذّجاً". (ص87)

ويشرع زيد في مرحلة جديدة في تعامله مع مسببات اغترابه، بعد أن عرف الحالة التي وصل إليها من ضياع وقلق وزيف. ويعود التوازن لشخصية زيد بسبب قدرته على الحب، "والشعور بالهوية الذي يقوم على أساس إدراك المرء لذاته باعتباره موضوعا يمثل قواه الخاصة، وكذلك بالاستحواذ على الحقيقة داخل وخارج أنفسنا". (15)

 

 

من شابه أباه ما ظلم

الابن سر أبيه

 

يصل زيد إلى بيته، يستقبله الجميع، ويغرق في عناق ابنه سالم،  ويتذكر رسالة رباب له وحديثها عنه: سالم لم يعد ذاك الطفل الصغير يا زيد "ابنك أصبح شابا، يدرس في جامعة بيرزيت، أعرف أنك لم تره منذ خمس سنوات، والصورة التي تحملها له في محفظتك، تعود إلى الأيام الأولى من الانتفاضة". (ص 27) ابنه الوحيد كبر وهو في الغربة القسرية، وأصبح رجلا، تقول رباب في رسالتها: "وهو يشبهك كثيرا، حتى في طباعه، كبر سالم قبل أوانه، وقد كان رجل البيت أثناء غيابك". (ص 27)، ثم يتساءل: أين رباب؟ يخبره أخاه زياد إنها في مستشفى "هداسا"، لأنها أصيبت بالسرطان، الذي انتشر بكامل جسدها. يوبخ الجميع على إخفاء الأمر عليه، ويصمم على زيارتها في الصباح، وهنا يتدخل الأخ ليقول له أن الأمر يحتاج تصريحا، وأن الوضع أصعب من السابق.

فالطريق إلى القدس لم تعد "سالكه كما كانت قبل إبعاده، لكنه يعرف تفاصيلها أكثر من جنود الاحتلال، ويعرف كيف يصل إلى هدفه، بعيداً عن عيون دوريات حرس الحدود". (ص96)

فهو ابن البلد، ولد وعاش أغلب سنين حياته، قبل أن يأتي الاحتلال ليطرده من بيته، لذا هو يعرف الأرض أكثر، والأرض تشعر بدفء خطواته، وثقل أقدام الاحتلال.

الكابتن روني يتبع زيد إلى أي مكان يذهب إليه، وفي المستشفى يظهر نفسه لزيد ليقول له أنا أراك.

وكان اللقاء برباب وهي على سرير المرض المميت، بدت قوية ومتماسكة، وتعرف إلى أين يقودها مرضها...

يخبره الطبيب أنها أنهت علاجها هنا، وبإمكانه إعطائها العلاج الكيماوي في مستشفى المطلع في القدس الشرقية. يرتاح زيد لهذا الأمر، ويقفل راجعاً مع رباب إلى رام الله، ويتخلل الطريق اشتباكات بين شباب مخيم قلنديا وقوات الاحتلال، وعندما يصلون إلى البيت، يجلس زيد مع فنجان قهوته ليرتاح، ويحدث نفسه عن الحياة الظالمة والقاسية التي عاشها، ورغم كل شيء بقي الوطن يجذبه بقوة للبحث عن أشياء ضائعة، ويقول مخاطباً رباب النائمة: "كل شيء تغير...الكل تغير، أنا، أنت، النّاس، المكان، الحقيقة الوحيدة الباقية ولم تتغير، الاحتلال، الاحتلال يا رباب، الكابتن روني وحده لم يتغير، لا يزال كلب الحراسة - الذي عرفته- يلاحقنا أينما ذهبنا وحيثما حللنا". (ص 121)

إن المكان في العمل الروائي إحدى أعمدة الرواية، الذي يوحد عناصر العمل الأخرى، فالمكان لا أهمية له إن لم يتوحد ويتصل مع عنصر الشخصية، فالمكان الذي تعيش فيه الشخوص، وتجري فيه الأحداث، هو من يساهم في تشكل الأحداث وبلورة الشخصية التي تتأثر بالحيز المكاني ويؤثر فيها، والشخصيّة تكون أكثر "منطقيّة وقبولا من حيث ارتباطها أو انفصالها عن المكان باعتباره أحد العوامل التي يرتكز الكاتب عليها لتحديد هويّة أحداثه وفكرته". (17) ص 323. وكما يقول الناقد حسن بحراوي فالمكان لا يكون منفصلا عن عناصر العمل الروائي، بل يدخل ويمتزج في علاقات مع المكونات الحكائيّة الأخرى للسرد. فالمكان يتشكل من خلال تفاعل الشخصيات ونمو الأحداث "فالمكان لا يتشكّل إلّا باختراق الأبطال له، وليس هناك أيّ مكان محدّد مسبقا وإنّما تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي تقوم بها الشخصيات". (18) فلا يوجد دراما حقيقية دون التقاء الشخصيات في الحيز المكاني وتفاعلها مع بعضها البعض.

في الصباح ينطلق بصحبة رباب إلى مستشفى المطلع، وعند بوابة المستشفى، يهبط الكابتن روني من سيارته، قائلا بسخرية: أما زلت تذكرني يا زيد؟

يطارده الكابتن روني في كل مكان، دلالة على أن الشعب الفلسطيني كله تحت المراقبة من قبل الاحتلال الذي يقتل ويعتقل دون رادع رغم اتفاقيات السلام المزعومة.

في الليل يجلس سالم مع أبيه، ويحدثه عن صعوبة الحياة، وعن الموت دون مقابل، وعن الأحلام... وفي الأثناء تقتحم دورية احتلالية بقيادة روني البيت، ولكن سالم يكون قد هرب عبر الوادي.

تعليق عبر الفيس بوك

جميع الحقوق محفوظة لموقع الرؤية © 2024