نظرية المؤامرة وعمى الألوان!

 

عبد الله العليان

لا يتوقَّف الحديثُ في الوطن العربي بين مشكلة وأخرى عن قضية المؤامرة التي تُحاك ضد هذه الأمة ووحدتها واستقرارها، وكيف أنها -المؤامرة- عملتْ قيوداً وسياجات على حركة الأمة في نهوضها وتقدمها، وزرع التوترات والصراعات والحروب بينها، وتستكينُ الأمة وشعوبها لهذا الأمر، وتتروّض لهذا الوباء الذي ليس له علاج! والإشكالية الكبيرة هي أن هذا التآمر لم يُبقِ ناجحاً إلا في أمتنا، أما الأمم الأخرى، فلم نجد أثرًا بعد عين منذ استقلال هذه الدول، أو أنه وجد من الحواجز ما يجعله بعيداً عنها، واستعاض عنها بغيرها! والحقيقة أنَّنا نتهرَّب من الأخطاء والسلبيات، ونلجأ إلى مقولة المؤامرة، حتى يكون الأمر عاديًّا وطبيعيًّا، ورفع العتب، أو على الأصح، للهروب من المحاسبة والمراجعة، كنتيجة لهذه الأخطاء.

وحتى الجن أيضًا يُسهم في هذه المؤامرات ضدها أيضاً، ويذكر الشيخ المرحوم محمد الغزالي في أحد مؤلفاته، "أن امرأة جاءته لمنزله لإخراج الجن من ابنتها، فقال لها مُستنكراً: لماذا لا يدخل الجن في اليابانيين، أو الأوروبيين؟ لماذا نحن المستهدفون من عالم الجن؟ فالجن حق، لكنه من المخلوقات في هذا الكون، لكننا نتهرب من العلاج القويم للأمراض النفسية، فنرمي على مؤامرات الجن". وهذا أيضا ينطبق على الجوانب الأخرى من السلبيات التي تقع لهذه الأمة منذ الاستقلال، وهي تُعَاني الكثير من التراكمات التي أدَّت للتوترات.. وحتى الثورات التي حدثت في دول عديدة في بداية هذا العقد، وبدلاً من المراجعات التي تضع الحلول، فإنها تراجعتْ عن المراجعات، وكل ما يَجري من إخفاقات، تتلبَّس بالمؤامرات التي لا تريد لنا خيراً، والغريب أنَّ الأنظمة التي تولت الحكم لم تَجرِ فيها مؤامرة، مع أنَّها كانتْ في عداء مع الغرب، إلا عِندما تراكمتْ المشكلات الداخلية؛ فنظام الرئيس الراحل معمر القذافي، عندما تولَّى الحكم في العام 1969 كان مُعَادياً للغرب منذ بداية حكمه، وطرد القواعد العسكرية الغربية من بلاده، ودخل معهم في توترات كبيرة، إلى حد أنه كان يدعم حركات التحرُّر في أمريكا اللاتينية، وفي غيرها، لكن لم تقع مؤامرة ضده بالصورة التي تقارن بذلك العداء الكبير معهم، وبقي هذا النظام في الحكم منذ ما يقرب من اثنين وأربعين عاماً، وعندما زُرت ليبيا في أكتوبر 2009، مع بعض الزملاء لحضور مؤتمر اتحاد الكتاب العرب، لاحظت امتعاضاً -من بعض النخب الفكرية وجيل الشباب- من سياسات النظام، وغياب النهضة التي يفترض أن تتحقق مع وجود الثروة الكبيرة في هذا البلد، وهذا ما عجَّل بأزمة الربيع العربي مع التراكم السلبي، هنا تحركت المؤامرات، ومدت خيوطها؛ لأنَّ الأجواء أُتِيحت للمصالح والمغانم في هذا البلد العربي أن تتحرك وتتداخل.

إذن؛ كيف تأتي المؤامرة؟ المسألة أننا نُخطِئ، ونُمارس الأخطاء تلو الأخطاء، دون أن نجري المراجعة، وفي غياب المحاسبة وغياب الشفافية، وعدم النَّظرة الواعية لكل المتغيرات الداخلية والخارجية، وهذا ينطبقُ على دول كثيرة في وطننا العربي، وقعت في نفس المنحَى السلبي من الأخطاء الجسيمة، لكنها رَمت كل ما جرى على المؤامرة! والإشكالية أنَّ ما يجري في هذه الأمة أصبح وكأنه ثقافة مغروسة في أبناء أمتنا، حتى إنَّ بعضَ الكتاب والباحثين العرب الكبار، قالوا إنَّ ما جرى هو مؤامرة، والكاتب الراحل محمد حسنين قال في إحدى المقابلات: "أن ما جرى في 2011، كان مُرتَّباً من الناتو"! مع أنه قال قبل ذلك في كتابه "حسني مبارك من المنصة إلى الميدان": "كيف استطاع هذا الرجل -ويقصد الرئيس المخلوع حسني مبارك- أن يجلس على رئاسة مصر ثلاثين سنة؟!! ثم كيف استطاع شعب مصر أن يصبر ثلاثين سنة؟!! -فيقول هيكل شارحا- بالنسبة لـ"كيف" الأولى فالجواب عن سؤالها: أنه حظه طالما استطاع البقاء!! وأما "كيف" الثانية فجواب سؤالها: إنها مسؤولية الشعب المصري كله لأنه هو الآخر استطاع بالصبر والصمت -وإظهار السأم والملل أحيانا- حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011، وعندما لم يعُد الصبر قادرا، ولا الصمت ممكنا، ولا الملل كافيا!!" (صفحة:17و18).

فالكلام عن المؤامرات أصبح ممجُوجاً، وهروباً من استحقاق الوعي بما يجري -كما أشرت آنفاً عن مراجعة الذات- فالكثير من دول العالم التي كانتْ قبل عدة عقود في مؤخرة الركب في النهضة الاقتصادية والتكنولوجية والأزمات السياسية، الآن أصبحت من الدول الصاعدة، كالهند مثلاً، وهناك دول كثيرة كانت تعاني من المشكلات والصراعات السياسية كإثيوبيا، الآن أصبحت ناهضة ومستقرة، وتسعى لوقف التوترات والصراعات في دول كانت هي المستقرة قبلها! ما السبب في ذلك؟ المراجعات، والنظرة الفكرية القويمة لما يجري غائبة أو مغيّبة، من أجل انتشالها مِمَّا هي فيه من أزمات وتردٍّ سياسي واقتصادي، والأغرب أنَّ دول مجلس التعاون كانت من الدول المستقرة، وكانت الآمال معقودة أن تُحقق تعاوناً مهمًّا في هذه المنطقة، وتملك الثروات الكبيرة لهذا النجاح، وتبعد نفسها عن المزالق والتوترات، لكن للأسف سعت هذه الدول بين بعضها البعض لجلب الصراعات والمشكلات، وكأنهم يستدعون المؤامرات وليست هي التي تأتي بذاتها! لخلق الانقسام وزيادة الفرقة، ورُبما ستأتي لهم بما لا يتوقعونه من مخططات الأعداء؛ لأن الأمر مرهون بما نحن فيه، فإذا زاد الانقسام، تزداد الخيوط في حياكة ما يخدم مصالح دول أخرى، وكلٌّ أدرى بما ينويه ذلك الآخر، والحديث الشريف هو أفضل طريق للخلاص مما قد يجري في هذه المنطقة: فـ"الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها".. ولله الأمر من قبل ومن بعد.