هل آن الأوان للشورى المُلزِمة؟

د. عبدالله باحجاج

العنوان.. كان موضوعَ تساؤل ومداخلة لنا في الحلقة النقاشية حول الشورى عُقِدت على هامش مهرجان صلالة السياحي 2019، وقد حَضَرها رئيسُ مجلس الشورى وبعض أعضاء مجلسيْ الدولة والشورى، وعدد قليل جدًّا من الحضور، وقد حَرصنا كل الحرص على أن تكون النقاشات جادة، وتنصبُّ حول تجربة الفترة الثامنة، ومستقبل الفترة التاسعة. ولأهمية التساؤل والمداخلة، ارتأينا أن يكون موضوعَ مقالنا اليوم، خاصَّة وبلادنا الآن على أعتاب انتخابات الفترة التاسعة.

وقبل طَرْح التساؤل مهَّدنا له بمقدمة مختصرة، كأرضية لا غنى عنها، وقد دارت حول مفاعيل تفعيل صلاحيات مجلس الشورى وتطورها، هل ننتظرها سياسيًّا أم ينبغي الرِّهان أولا على الممارسة الواعية والملتزمة للإصلاحيات؟ وقد أكَّدنا على قناعتنا في هذه المسألة، وهى أنَّ أحداث التطورات لها مصدران؛ الأول: سياسي، وفق مرئيات ورغبات السلطة السياسية أو المشرع الدستوري. والثاني: مهني، ويكمُن في الممارسة المهنية والأخلاقية لأداء الأعضاء؛ وذلك من خلال استنفاد آليات ومكانيزمات العمل البنيوي للشورى بصلاحية الثنائية: التشريعية، والرقابية.

ومن هذه المقدمة، طرحنا التساؤل التالي: إلى أي مدى يمكننا الآن الرِّهان على أداء الأعضاء خلال الفترة الثامنة في إحداث التطورات المأمولة خلال الفترة التاسعة؟ بمعنى آخر: هل هناك من ممارسة مهنية وأخلاقية يمكن الرهان عليها الآن في تطوير وتفعيل صلاحيات المجلسين؟ وكذلك الحال ينسحب على المجالس البلدية؟ وقد وجَّهنا هذا التساؤل لسعادة محمد أبوبكر الغساني نائب رئيس مجلس الشورى، ومحمد بن سعيد كشوب عضو المجلس البلدي بظفار، اللذين كانا يتصدَّران الحوار والنقاشات والرد عليها، وماهية الردود على تساؤلنا قد جعلتنا نُبادر للأخذ بزمام التعقيب المطول قليلا، تفنيدا وتوضيحا لطروحات انتظار التطوير والتفعيل من قبل السلطة السياسية.

والانتظار، وهو هاجس الكثير من النخب -إن لم نقل معظمها- هو طموح العامة، لكننا نؤمن -وهذا ما قلناه في التعقيب- بأنَّ الممارسة الفاعلة والملتزمة والنزيهة والمتجردة من أية منافع شخصية، قد تُنتِج التطوُّر والتفعيل المطلوبيْن "مرحليًّا" وقد تُعجِّل بهما، خاصة في سياق تجربتنا مع الشورى التي تمضِي قُدُما وفق نهج التدرُّج لدواعي ترسخ التجربة المتطورة كثقافة وكممارسة نخبوية واجتماعية. من هُنا، حاولنا إعادة تصويب النقاشات حول دور الممارسة المهنية والأخلاقية للأدوات الرقابية والتشريعية وإنضاجها حتى يُمكِنها أن تُهيِّئ الظروفَ المواتية للخطوة السياسية المأمولة والتعجيل بها.

فمِن خِلَال استيعابنا لفلسفة التدرج في بلادنا، فإن الصلاحية التشريعية والأدوات البرلمانية "الثمانية" قد خَضَعت بدورها لفلسفة التدرج؛ ففيها من القيود ما كان ينبغي للفترة الثامنة المنتهية حاليا، أن تكشف عن عيوبها، وتلح بضرورة تجاوزها، لكن: هل مارست الفترة الثامنة الأداء المهني والأخلاقي حتى تتوصل إلى هذه القناعة أو النتيجة؟

لن يختلف معنا كلُّ مُطَّلع على تجربة الأداء خلال الفترة الثامنة من أنَّ هناك إشكاليات كبرى سلبية في هذا الصدد قد تُسهم في تأخير التطور؛ حيث غابتْ الممارسات المهنية، ولم تختبر الأدوات الرقابية كما يجب حتى يُمكن أن تدفع بالسلطة السياسية نحو فك القيود المقيدة لها، وهنا تقصير تاريخي، لأنه يُفترض أن تبعث هذه الفترة برسالة عاجلة تُفيد بحتمية رفع القيود عن الأدوات البرلمانية.

كما أنَّ هناك بعضَ الأدوات البرلمانية كـ"الاستجواب" لم تُمَارَس طوال سنوات الفترة الثامنة بسبب القيود نفسها؛ فكيف تعاملت الفترة الثامنة مع مثل هذه المعضلة؟ فقد استكان الأداء ورضخ لهذه القيود؛ انتظارا وترقُّبا لانفراجات السياسة، فلم يدافع عن حتميات الاعتداد بحق الاستجواب، خاصة وأنَّ هناك الكثيرَ من القضايا التي كانت تُستوجب استُخدِم فيها الاستجواب لكن بشروط مُكبِّلة له -كشرط إثبات التجاوزات والخطأ الواضح لصلاحيات الوزير- وهذا تعجيز لهذه الأداة، فكيف لعضو أن يتمكن من الحصول على أدلة الإدانة، إلا إذا كان معه جهاز تحقيقات مهني ومتخصص؟

وكذلك كشرط توقيع 15 عضوًا على عريضة الاستجواب، وانسحاب واحد منهم في أي وقت يلغي الحق، وهذا أيضا فيه مرونة لإمكانية إبطال إعمال حق الاستجواب؛ فمثل هذا الشرط يُعطِي للشريك الحكومي الإمكانية في إغراء وجذب أي عضو من الخمسة عشر للانسحاب حتى يُلغى الاستجواب، ورغم ما توصَّلت إليه الفترة الثامنة من قناعات بحتمية الحكمة الدستورية، إلا أنها لم تُظهرها بصوت مرتفع إلا مؤخرا، وعلى استحياء، رغم أهمية هذا التطور الذي طال انتظاره لحسم الخلافات في تنازع السلطات والسلطويين.

فلم تنتصرُ الممارسة والأداء طوال سنوات الفترة الثامنة لتلكم الأدوات الرقابية، بل وحتى الأدوات الرقابية الأخرى التي خففت شروط وإجراءات استعمالها، تعاني من إشكالية تحقيق النتائج؛ فالنتائج ليست ملزمة وإنما اختيارية، بدليل: لم نشهد أية تحولات في مسارات القضايا التي أثارتها الفترة الثامنة، كقضية الباحثين عن عمل ورفع الدعم عن الوقود.

علمًا بأنَّ سنوات الفترة الثامنة، كان يفترض أن تنضج فيها كل الصلاحيات التي مُنحت لمجلس الشورى عام 2011، وتظهر فيها الحتميات اللازمة للمرحلة المقبلة، فسبع سنوات أو أكثر فترة زمنية كافية للانتقال الآن لمرحلة الشراكة الحقيقية مع الحكومة؛ سواء في اتخاذ القرار أو في سن التشريعات؛ لأنَّ عملية اتخاذ القرار لم تعد حكومية خالصة، وإنما مشتركة؛ ففرض الضرائب أو الرسوم أو زيادتها، ينبغي أن تخضع لمبدأ الشراكة بعد أن أصبحت -أي الضرائب والرسوم- مصادر دخل لموازنة الدولة.

وهذا التحليلُ أيَّدينا فيه الكثيرُ من كبار شخصيات مجلس الشورى الحاضرين في المناقشات، بل وسارعوا إلى البوح به لنا عقب مداخلتنا مباشرة، وهذا يعني أن الفترة التاسعة للمجلس إذا لم تشهد بقرار سياسي مرحلة الشراكة الحقيقية مع الحكومة، فإنَّ مشهدنا الوطني سيظل مُلَازِما لعقلية الاستفراد بالقرار رغم انتهاء مرحلة صلاحيته الزمنية والمكانية، وسيظل كذلك موسمًا بعقليات من الزمن القديم إذا لم يحدث بقرار سياسي تغيير يَتَناسب مع المرحلة الجديدة، وكُلنا نعلم تحديات هذه المرحلة، وماهية وحجم الآمال الوطنية المعقودة عليها.

إنَّها مرحلة تسيير بلادنا بدون عوائد نفطية وغازية، ومرحلة مصاف الدول المتقدمة كما هو مُستهدف في "رؤية 2040"، إنَّها مرحلة الباحثين عن عمل، وضغوطاتهم القوية، ومرحلة الضرائب والرسوم ومآلاتها الاجتماعية...إلخ؛ لذلك فهذه المرحلة تحتِّم بالضرورة نُخبًا وزارية ونخبًا عمومية في صناعة القرار أو تنفيذه، على قدرٍ عالٍ من الكفاءة والمهنية والنزاهة، وكذلك الشراكة الوطنية المُلزِمة التي تعمل بروح الوطن الآمن في يومه وغده (تنفيذا ورقابة).. فهل ذلك يتحقَّق الآن في المرحلة الراهنة، أو سيتحقَّق خلال المرحلة المقبلة؟ الحتميات تجعلُ بلادنا الآن أمام ضرورة إعادة النظر في كل شيء للتأكُّد من مدى صلاحية كل شيء لتلكم المرحلة غير المسبوقة في تاريخ بلادنا الحديث.