حزامة حبايب في "مخمل" تنتصر بالخيال على قسوة الواقع (4 - 4)

 

أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

 

أما عايد/ الأخ الذي عانى من التبول الليلي حتى بعد زواجه، فقد كان يفتقد إلى الإحساس بالخجل من مجتمعه الصغير، فكان يرفض الذهاب للطبيب من أجل علاجه، وكان يرفض أن يمتنع عن شرب الماء والعصير بعد الثامنة مساءً، وعلى الرغم من أنه زوجته أسما كان تلمّح أمام الآخرين إلى أنه "شخّاخ"، وترفض العناية بنايفة المريضة العاجزة، تحت ذريعة "مش ناقصنا شخّاخين"؛ فإنّ حوّا التي رعت الجدة والأم، لم تكن تعيّر أخاها، بل كانت تحتضنه بذراعيها حين ترتجف أضلاعه من البرد:

"يجلس عايد على مقعد الحمام الخشبي الواطئ محتضناً كيانه الراجف بذراعيه. تضع حوا الدلو على أرضية الحمام الباردة. بردان.. يقول لها عايد، فتأخذه بين ذراعيها"، ص27.

لقد كبر عايد، وترك المدرسة خلافاً لرغبة حوّا، واشتغل في أعمال مختلفة، فقد اشتغل كونترولاً في إحدى الحافلات، وجمع الدنانير للسائق، واختلس منها، وتحرّش بالراكبات، وحكّ بروزاتهن، وجس صدورهن، وكثرت عليه الشكاوي إلى أن حمله طالب جامعي، ذات مرة، كفأرٍ، ورماه من الحافلة، فتكسّر، وبقي ثلاثة أشهر طريح الفراش، وطارت أحلامه بالدنانير، فانتقل إلى تكنيس محال الخُضَر في المخيم، وعمل بائع خُضَرٍ متجولاً، ولكن "أبو عصام" صاحب البيك أب أنزله في الطريق بعد أقل من عام، حين فاقت تجاوزاته مع النساء كل حد. ثم ذهب مع لطفي؛ ليتعلم ميكانيك السيارات فلم يفلح، وانتقل للعمل مع ابي عبيدة، العائد من أفغانستان، حيث تعلّم مزيداً من ولدنة الحرام. والمشكلة أنّ "عايد" جذب إليه "قيس" ابن حوّا الذي تعلق بابنته هند، فقام عايد بتسميم أفكار قيس التي قادته أخيراً إلى قتل حوّا.

أمّا نظمي زوج حوّا الذي تزوجته رغم أنفها، فقد كانت تعرف أنه "سرسري"، وقد تعرفت إلى مزيد من خصاله السيئة كالبخل والضرب وسلاطة اللسان، بالإضافة إلى ما كانت تعرفه من وحشية لا تخلو منها ملامحه وافعاله:

"كان نظمي يعمل في ملحمة العجوري في سوق المخيم، كان يكبر حوا بثماني سنوات، وكان قد شاهدها مرات كثيرة أثناء مرورها في السوق، لكنّ حوا كانت تقرف منه (...) ومن منظره وهو يغرس أبدان الخرفان والعجول التي سُلخت جلودها في الخطافات الحديدية، ويضرب بيديه اللحوم العارية المدماة، أو وهو يصف رؤوس العجول التي قطفت من أجسادها فوق مصطبة خشبية كبيرة"، ص73. وعلى الرغم من قوة سطوته وبأسه، فقد تحدّته حوّا، إلى أن طلقها، وتزوج امرأة أخرى، بينما لم تستطع أن تتحدى أخاها؛ لأن صلة الإخوة ـ بخلاف الزواج ـ لا يمكن أن تنفصم عراها.

ويكاد لطفي أن يكون الاستثناء الإيجابي الوحيد في مجتمع الرجال، إذا نحّينا جانباً شخصيات فرعية مثل الحاج فيصل وفارس ومنير، مع ملاحظة أن مواقفه الإيجابية لم تكن ناجزة تماماً؛ فقد كان حذراً ومتحرّزاً، وعاش "صبياً شبه مكتف (في حاله)، وشاباً طموحاً شبه مقتدر (وفي حاله أيضاً). بدأ صبياً ميكانيكياً في ورشة "أبو اكرم"، ثم معلّماً في الورشة، ثم مشرفاً عليها، وكان يعطي دون كرم، ويحب دون ارتماء، ويعتقد أن النقود تحلّ أكبر المشكلات، "وهو اعتقاد برهن صحته في معظم الحالات: فـ "بعد وفاة والده صار يخصص مصروفاً شهرياً لوالدته. وحين لجأت إليه رابعة يوم أرادت أن تزوج عايد، كي تنتزعه من حضن جنكيةٍ كان يلفي إليها، أعطاها ألف دينار مهراً لأسما، واشترى للعروسين غرفة نوم، كما وضع في جيب عايد خمسمائة دينار لزوم تجهيزات العرس، ثم قصدته فوزية، زوجة عمه خليل كي يجد (تصريفة) لجدته نايفة، فتدخّل بقوة الفلوس"، ص  ص217ـ218. وحين حين أصيبت الجدة نايفة بالزهايمر حاول أن يقنع عايد برعايتها، وأن يتكفل هو بمصاريفها، ولكنّ زوجته أسما رفضت، وحين أخذتها حوّا شعر لطفي بالخزي: فكما "كان متوقعاً كانت نايفة من نصيب حوا، لم يبذل لطفي أي جهد في إقناعها، فحوا لم تستطع أن تمنع نفسها من الإشفاق على جدتها، حدّ البكاء الحارق، وهو ما أثار دهشة لطفي ونبش خزياً قديماً موءوداً في ذاكرته، يوم كان يظلّ في الحمام مستبطئاً الخروج، يخزّ أذنيه صوت شبشب نايفة يصلي لحم حوا الطري"، ص19.

أما الشخصيات الأنثوية القريبة من حوّا، فقد تشابهت صفاتها النفسية تشابهاً كبيراً، فعفاف التي تزوجت في السابعة عشرة، وكانت في عزاء الأب حاملاً في الشهر الثامن بطفلها الثالث، عملت في محل لفساتين العرائس، وسمحت لأبو لؤي صاحب المحل أن يحك جسدها بجسدها (من فوق لفوق)، بينما سمحت لابنه بأكثر من ذلك، وهي لم تكن تزور بيت أهلها إلى في الملمات والمصائب، ولم تكن تشعر إزاء ذلك بتقصير أو بوخز ضمير، وهي تشبه في هذا الانكفاء عن بيت الأهل أختها ساجدة التي تزوجت في السابعة عشرة أيضاً، وكانت في عزاء أبيها ترضع طفلها الثاني، وكانت قد عملت في صالون تجميل، وسمحت لرائف في السوبر ماركت المجاور أن يصطدم بأحد ثدييها أو يقرصه، وأن يحك ركبته بين فخذيها، في لحظات سعادة مسروقة. ولولا أن الحمى أخذت ضحى، الأخت الصغرى، إلى الموت مبكرة، فإنها كانت مرشحة أن تكون مثل أختيها، في ظلّ تربية أب تحدّثنا عن صفاته، وأمّ مستسلمة لقدرها، ولزوجها الذي يصادر المال الذي تأخذه من ابنهما لطفي:

"ـ إمبارح أعطيت أمي خمس ليرات.

تزيح رابعة ياقة جلابيتها جانباً، مستسلمة لنظرته الآمرة، تغرس يدها في صدرها، وتنتزع الورقة المطوية التي لم تتشبع كفاية برطوبة إحدى حشيتها العامرتين"، ص26.

لقد قامت رابعة المقهورة بدور القاهرة حين ربّت بناتها، وحين نصحتهنّ، ففي الطريق إلى بيت الست قمر في صويلح عندما كان عمر حوّا ثلاث عشرة  سنة، حيث ذهبت معها أمها مرتين، نصحتها أمها: "تتكلميش مع حد، تتطَّلعيش في وجه حد، تضحكيش"، ص ص41ـ42.هنا تقف رابعة كما هي دائماً ضد ابنتها، وضد ابنة جنسها، فالمراة تختار في أحيان كثيرة أن تنحاز ضدّ نفسها وضدّ قناعاتها، فحين "توجهت [ست قمر] لحوّا بالسؤال ثانية:

ـ وليش تركتِ المدرسة يا حوا؟

تدخلت رابعة كأنها تدافع عن قرارها:

ـ البنت آخرتها للزواج"، ص49.

لقد سلب الأب موسى، بتواطؤ مع صمت رابعة وعجزها، وبدفاع عن موقفه لاحقاً، من حوّا حقها في التعليم؛ لذلك "لشهور بعد أن تركت مدرستها، وحيّزها الضيق في الفصل، ظلّت تصحو في وقت الصحو المدرسي، تتفقد مريولها الباهت في الخزانة، وتأسى وهي ترى بنات الحارة يشلن حقائبهنّ على ظهورهن الصغيرة، مسرعات كي لا يفوتهن طابور الصباح"، ص185.

إنه الخضوع المطلق لموسى، وللأفكار التي يمثّلها، مستنداً إلى المجتمع، على الرغم من أنها كانت تكرهه، وكانت تتمنى لو داهمه الموت قبل أوانه؛ إذ "لم تبك رابعة عندما مات موسى، لم تشهق بالعبرات المحبوسات في روحها. ظنت نسوة المخيم أن جفاف عينيها له علاقة بالصدمة المؤلمة. قالوا إنها ستبكي بعد حين، حين ينفض الناس من حولها. لكنّ رابعة تأخرت كثيراً قبل أن تنفرط عيناها اللتان طويتا قهراً مجلجلاً فذرفتا دمعاً سيالاً على الموت الي تأخر كثيراً"، ص238.

أما الجدة نايفة الضخمة التي كان طولها يصل إلى متر وثمانين سنتيمتراً وعرضها متر؛ فقد كانت ذات قوة بدنية كبيرة، وقد رآها كثيرون من أهالي قرية بيت محسير بالقرب من القدس، وهي في الثانية عشرة، تساعد أباها ذا الساق الواحدة في بناء بيتهم في القرية، ص118، وكانت قبل أن تنزح للأردن نزحت إلى مخيم الفارعة في نابلس، حيث تعلّمت "صنع الجبنة النابلسية، وحملت معها صنعتها إلى البقعة، فكانت تبيعها بالتنكات تواصي للمغتربين الفلسطينيين..."، ص119.

لقد مثّلت نايفة جبروت المرأة المتسلطة على ابنها وزوجته وعلى حفيدتها حوّا حين زوجتها رغم أنفها من نظمي، وضربتها حتى فرضت رأيها، كما يوضّح المقطعان التاليان:

  • "ـ أم نظمي مَرْتْ الحاج حسين أبو جبريل، طلبت حوّا لابنها نظمي.

وتابعت وهي تنفض منديلها في الهواء، ثم تعقده حول رأسها:

ـ الجمعة الجاي كتب الكتاب، والعرس بعد شهر.

نهض موسى محتجاً، فيما ظلّت رابعة جالسة على الأرض، تقرّش حزّ  تفاح ببطء:

ـ كيف بتعطي البنت بدون ما تشاوريني؟

سلطت نايفة نار عينيها عليه، قائلة وهي تشبك يديها معاً فوق صدرها:

 ـ عندك اعتراظ يا إبن نايفة؟"، ص71.

  • "تدخلت حوّا معلنة بجزع أنها لا تريد أن تتزوج. ليس الآن. ثم ليس نظمي، فهو "سرسري"، كما وصفته. هجمت جدتها عليها وجذبتها من جديلتها الثخينة المربوطة جانبياً، وأوقعتها أرضاً. دفعتها نحو الحائط، مسددة صفعات متلاحقة على وجهها، حتى نزفت من أنفها. ثم تناولت فردة شبشب الوضوء وانهالت عليها"، ص72.

غير أنّ حزامة حبايب أرادت أن تفسّر قسوة نايفة تفسيراً رمزياً حين أشارت إلى أنّ نفسها انكسرت في مخيم الفارعة، "ثم انسحقت تماماً في مخيم البقعة، فعاشت ما تبقّى من عمرها امرأة ناقمة، غاضبة، وشرسة"، ص ص124، وكأنها أرادت أن تقول: إن فقدان نايفة هويتها ووضعها الاجتماعي السابق في بيت محسير، وتشرّدها، وفقدان كرامتها: كل هذه الأشياء حوّلتها امرأة ناقمة غاضبة، وقد استمرت على هذا النحو حتى أصيبت بالزهايمر، ثم ماتت.

خامساً ـ في لغة الرواية:

استخدمت حزامة في روايتها لغة سلسة، لصيقة بالواقع الذي تمثله شخصياتها، ورسمت من خلال تلك اللغة لوحات أخاذة للمطر واللباس والشوارع والأطعمة؛ ولعلنا نستذكر هنا السياقين التاليين اللذين يدلّان على براعتها في تحويل الواقعي إلى جمالي يفتح الذكرة الفلسطينية على مصراعيها:

  • "تكسر شقيقتها الكبرى عفاف أربع بيضات في المقلاة الألومنيوم مسودة القاع، فتقبض حماوة زيت الزيتون على القوام اللزج للبيض؛ لتلمع أربع شموس في قلب محيط أبيض مزبد"، ص18.
  • "تضع عفاف المقلاة فوق منتصف الطبلية، ثم تلحقها حوا بصينية عليها إبريق الشاي، وقد لُفّت ذراعه بخرقة مدعوكة من بقايا فانيلة مهترئة، وكؤوس زجاجية مضلّعة، وصحن جبنة نابلسية، وصحن زيتون أخضر، وصحن فيه حبتا بندورة مشرحتان إلى حزوز، وصحنا زيت وزعتر، توزعها على الطبلية"، ص19.

كما استعانت الروائية بالحوار العامي والمسكوكات اللغوية الشعبية لتقريب الشخصيات من واقع الرواية، ومن واقع القارئ الذي يفهم اللهجة الفلسطينيةز ومن الحوارت العامية الحوار التالي الذي  يجري بين "أبو حمزة" و"أم قيس":

"ـ سلامات يا أم قيس! من زمان ما شفناك. وين اختفتِ؟

يتابع مازحاً:

ـ وَلْ! كل هاظ عشان شوية مطر؟!

ـ يعني وين بدي أروح يا أبو حمزة!

تهزّ رأسها كما لو أنها توصلت إلى خلاصة فلسفية:

ـ بييجي المطر وبروح المطر وإحنا مطرح ما إحنا"، ص105.

ولعلّ العبارة التي تقولها أم قيس/ حوّا في نهاية هذا الاقتباس تلخص رؤية الرواية برمتها، بل تلخّص رؤية تشاؤمية لمجتمع فلسطيني بائس ما زال مشغولاً بمقاتلة الحب بدلاً من مقاتلة الأعداء.

ويتسرّب المسكوك اللغوي الشعبي من بين الأصوات والحوارات والمناجيات التي تجري في دواخل الشخصيات، فنقرأ في وصف المطر الغاضب "كبّ من عند الربّ"، ص8، ونستذكر مع حوا مقولة والدها البعيدة "برد بقصّ المسمار"، بينما تحكم إغلاق الزر العلوي من المعطف، ص16، كما نستذكر مقولة الأب موسى مخاطباً فردة الحذاء التي دخلت تحت السرير: "يِفْضَحْ عَرضك على هالصبح"، ص17.

بقي أن نهمس في أذن حزامة: إنّ بعض الكلمات الفجة (مثلاً ص62 وص122 وص150) تجرح براءة لغتك الجميلة، على الرغم من انتمائها لواقع مجتمع الرواية، وقد كان بالإمكان الاستغناء عنها، دون أن يؤثر ذلك على بساطة اللغة وجماليتها وواقعيتها؛ إنها قطع حجارة صغيرة جداً، نخشى أن تكبر في المستقبل، وتكسر زجاج لغة شعرية راقية تجسّدها صفحات الرواية.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

حزامة حبايب: مخمل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2016.

تعليق عبر الفيس بوك