قراءة في كتاب: "مذكرات الشيخ بهلول"

...
...
...


أحمد عباس آل سنان

يا ترى كم من بهلول يعيش بيننا..؟!.. في يوم ما استمعت إلى خطيب، ولأول مرةٍ أسمعه يذكر إسم بهلول في حديثة، فشدّني الأسم؛ مما جعلني أُصغي إلى قصته - يومها كنت صغيرا - فهذا البهلول كان يعيش في زمن الخليفة الأموي هارون الرشيد وقد ارتبط اسمه بالبلاهة والجنون إلى جانب الحكمة والموعظة.
وقبل أيام أعارني قريب لي كتابا صغيرا في حجمه وكبيرا في مضمونه، عبارة عن مذكرات لسيرة ذاتية لأحد العلماء المجاهدين، وبما أنني أهوى هذا النوع من الأدب وأقرأ فيه كما أقرأ في أدب الرحلات؛ كونهما فيهما من التدبر حول أخبار الماضين والعبرة والموعظة ما يجعل الإنسان غنيا في إدارة حياته على الشكل الصحيح. أخذت الكتاب منه وما إن وقع بصري على غلاف الكتاب توقعت أن لا أجد فيه الكثير مما يسمن شهيتي للقرآءة كوني أبحث عن سيرة ذاتية لملوك أو سلاطين تركوا أثرا، أو سيرة لشخصيات قومية ومقاومة، أو سيرة لمناضلين ومكافحين من أجل الحرية والعدالة. ولكني ما إن بدأت بالعنوان الأول للكتاب حتى أنهيته بالكامل وأنا أتلهف لمعرفة المزيد حول هذه الشخصية المناضلة اجتماعيا وسياسيا ودينيا من أجل تحرير المجتمع من سلطة الدولة البوليسية الحديدية، ومحاربة الفساد والانحلال الأخلاقي ومن أجل نشر الحرية والعدالة والمساواة.            
         يحكي هذا الكتاب قصة وسيرة حياة الشيخ الإيراني المجاهد الشيخ محمد تقي الكنابادي الملقب بالبهلول وهو كتابٌ بقلم الشيخ نفسه، ترجمه إلى العربية الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني بإجازة من الكاتب نفسه، وصدر عن دار سلوني/ مؤسسة البلاغ اللبنانية، الطبعة الثانية / 2009م.
 ينقسم الكتاب إلى عددٍ من الفصول حوت جميع مراحل حياة البهلول، وهي كما نقرأها حياة ملؤها الدراسة والجهاد والعمل وهي عناصر لا تأتي إلا بمفاهيم ثلاثة هي الإرادة والانتباه والطاعة.
بدأت رحلة الجهاد والكفاح للشيخ الشاب العشريني المجاهد والعالم الديني محمد تقي البهلول من قريته في كناباد، عندما أجاز له المرجع الديني الأعلى السيد حسن الأصفهاني بالجهاد الدعوي ضد الشاه الأب رضا خان البهلوي فعزم على طلاق زوجته حتى لا تصاب بأذى؛ نتيجة مشاركته في الحراك الثوري، ثم ليتفرغ للعمل الثوري، ونتيجة لتردي الأوضاع في إيران من قبل حكومة الشاه فإن الأمر أصبح محتوما على البهلول لمجابهة تلك الطغمة الحاكمة، وانطلقت الشرارة الأولى للثورة من مدينة سبزوار حينما اعترض البهلول ومن آزره على زيارة الملك  الأفغاني أمان الله خان وما رافق زيارته من مظاهر الرقص والموسيقى والمحرمات.
 انطلق البهلول نحو تصعيد الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي اتجاه حكومة الشاه وجلاوزته، وراح يدعو الناس ويلهب حماسهم ضد الشاه على كل منبر يرقاه في المساجد والجوامع والحسينيات والحوزات والقرى والأرياف حتى تجمعت له الأرضية الخصبة والأصوات المناهضة للتصدي لقوانين الشاه.
الثبات على المبدأ والعزيمة على تحقيق الهدف والإصرار على إعلان النصر مؤهلات لا بد أن تتوافر في القائد الذي يقود ثورة على الظلم. ونجد هنا أن المبدأ هو ردع الظلم عن نفوس الضعفاء ومحاربة الفساد، أما الهدف فهو إسقاط الحكومة الفاسدة إلى حين النصر بإعلان الحرية والعدالة. والقارئ لهذه المذكرات يجد هذه المعادلة منذ أول يوم أعلن فيه البهلول عن جهاده ضد الشاه.
من مدينة مشهد وبالتحديد من مسجد كوهر شاد انطلقت الشرارة الثانية للثورة وأعلن فيها الشيخ بهلول رفضه القاطع لحملة الاعتقالات التي طالت العلماء، وحركات القمع الشديدة. وقد التفّ الشعب حول الثورة وراح يبدي مساهمته ومعاونته في سبيل إسقاط الشاه ودفع الظلم عن الضعفاء والمحرومين وبالمقابل انتهج الشاه أسوأ الاحتمالات الهجومية في إجهاض الثورة.
 لم يكتب للثورة النجاح ولكنها سجلت لنا أروع الأمثلة لمن أراد أن يقترب من الصورة ويراها على حقيقتها، فهناك الشخصية الخائنه ( نواب احتشام الرضوي)، وهناك شخصية المرأة المجاهدة (القوجانية شبيهة طوعة)، وهناك شخصية الشاب البطل المقدام الذي أردى ضابط الجند بضربة قاتلة نتيجة سلوكه السيئ، وأيضا لا ننسى العمل الرائع الذي قدمه أهل قرية ( سيس أباد) وغيرها من الأمثلة.
 إن طريق العذاب والمحن حيث يمتحن الله عباده المؤمنين في ظروف قاسية هو ذاك الطريق الشائك بالأشواك والمتاهات الذي سلكه البهلول من إيران إلى أفغانستان هربا من بطش الشاه وهو نفس الطريق الذي سلكه نبي الله موسى من مصر إلى قرية مدين هربا من بطش فرعون وملأه، وهو ذاك نفس الطريق الذي سلكه الإمام زين العابدين مع عماته سبايا وأسارى من بلد إلى بلد حتى وصولهم المدينة المنورة.
في أفغانستان بدأت رحلة السجن والمعتقل ورحلة الكآبة والمحن ورحلة الفاقة والألم ورحلة الدعاء والصبر ورحلة الجهاد والعمل ورحلة الثواب والظفر حيث ظل البهلول محبوسا ومعتقلاً بعيدًا عن الوطن والأهل لمدة ثلاثة عقود يتجرع مرارة الضيم والإهانة حتى ساعة الفرج.. وهذا  ما قد حصدته يد الثورة على الطاغية الشاه الأب.
       في أفغانستان ضرب البهلول أروع الأمثلة في بناء الذات الإنسانية الثورة، فقصته مع السجّانين، ومع الحشرات المؤذية في السجن، وموقفه مع مدير السجن وضابطه، وقصته مع الزعيم الانقلابي الأفغاني ملك قيس، ومواقفه ممن حاول اغتياله، إلى جانب قيامه بمهام يعجز الكثير عن الإتيان بها وتحملها في مثل حالته مثل حضانة وتربية الأطفال الرضع، ورعاية المرضى، والتدريس والموعظة وغيرها من الأمثلة والمواقف التي دلّلت على عظم شأن هذا البهلول، وهو ما دعا لتبني قضيته ومساعدته في محنته أكثر من جهة ومن شخصية داخل أفغانستان وخارجها.
حينما قرأتُ هذه المذكرات لم أجد أقسى وأمر قصة من قصص البهلول مرت على قلبي إلآما أكثر من قصة زواجه الثانية من المرأة الافغانية الصابرة والمجاهدة والمطيعة له في محنته. فإذا كانت هذه القصة بهذا الألم وأنا أقرأها فكيف كانت على قلب صاحبها... فما أجلده من قلب وما أصبره على تحمل الأذى.
     لقد تم إطلاق سراح البهلول بعد ثلاثة عقود من السجن والاعتقال، ثم بمشيئة وإرادة ربانية ناشدت المنظمات الجهات المعنية لإطلاق سراحه، فخُيّر البهلول بين المقام او الرحيل والعودة للوطن فاختار الرحيل ولكن ليس لإيران بل إلى مصر عبد الناصر، وبقي هناك مندّدا بالشاه وحكومته ثم رحل إلى العراق بدعوة من ابنة أخته فيها فبقي هناك مواصلا حملته ضد الشاه حتى جاء القرار النهائي ليعلن فيه عن خياره بالذهاب الى إيران مواجها الشاه حتى إسقاط حكمه ونفيه.
إن من يقرأ الكتاب ويتمعن في قرآءته يدرك أن الشيخ بهلول قد واجه كل الأضداد في حياته، فقد واجه الجهل بعلمه، والمكر بالصدق، والزيف بالحقيقة، والخنوع بالجهاد، والصلافة بالحكمة، والخلق السئ بالخلق الحسن وواجه ممن لا دين لهم بالدين الأصيل الوسط.

 

تعليق عبر الفيس بوك