دُروس السودان

غسان الشهابي

على مدى 33 عاماً ونحن لا نذكُر من المشير الراحل عبدالرحمن سوار الذهب إلا أنه أول حاكم عربي يصل إلى سدّة الحكم، وهو في منصب عسكري رفيع أيضاً، ويسلم السلطة طوعاً بحسب ما نصَّت عليه الاتفاقات، وبقينا نحلف برأس الرجل وبرّه بقسمه، إلى أن توفّاه الله في 18 أكتوبر 2018، والغالبية العظمى من العرب لا تعرف عن ماضيه العسكري شيئاً، ولا تدري أنه أرسل "مغضوباً عليه" إلى قطر مستشاراً عسكريًّا لأميرها الراحل الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وأبلى بلاءً حسناً في تنظيم الجهاز العسكري للدولة المستقلة للتو، كما لا يعلم الغالبية إلى أين ذهب بعدها إلى أنْ أشارت الأنباء المتفرقة إليه بوصفه رئيساً لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية.

كان ذلك الدرس الأول الذي يأتي من السودان، أما الدروس الأخرى فهي تلك التي انتهت يوم السبت الماضي، حينما وقع المجلس العسكري الانتقالي في السودان وممثلو المعارضة اتفاق تقاسم السلطة، الذي ينصُّ على تكوين مجلس حاكم انتقالي من المدنيين والعسكريين، ويمهد الطريق نحو انتخاب حكومة مدنية، وذلك بعد حكم منفرد استمر ثلاثة عقود تامة، ولمَّا طفح الكيل بالناس، وصار الصمت عديل الموت وتساوى مع الحياة تماماً، خرجت الجموع في الشوارع في واحد من مشهدين عربيين رائعين في هذا العام، هو واحد والآخر في الجزائر، من أجل الانتماء إلى الحاضر، الالتحاق بالديمقراطية، التمتع بالعدالة والدولة المدنية، وإنهاء الشلليلة والعصبيات... وغيرها من ملامح القرون الفائتة التي لا تريد أن تبيد أبداً.

تمسَّك السودانيون بحلمهم ولم يتزحزَحوا عنه، وهذا درس، خرجوا من الفئات والأعراق والفئات... درس، بقوا في الشوارع ضاغطين على الرغم من دفع الجيش الأمور نحو الرجوع إلى الاستفراد، فلم يهابوا... درس، تمسكوا بالسلمية مع جميع المحاولات التي أرادت للحراك أن ينزلق، وما أسهل أن ينزلق لولا الوعي... درس، المرأة السودانية كانت مرتكزاً إلى جانب الرجل في الحراك السلمي على الرغم مما تعرضت له من عسف لعباً على الطرائق القديمة وهو المساس بها جسدياً لكي تصاب بالذعر وتنسحب، فلم تفعل... درس، المفاوضات الطويلة والوعي العالي بما يمكن الحصول عليه من أجل بلد عفيّ... درس، والعالمون ببواطن الأمور يمكنهم أن يسطروا من الدروس ما فاتني وما لم أُحِط به خبرا، لكنها دروس لم تولد إلا من هذا البلد العظيم.

لا نَدرِي ما الذي يمكن أن يحمله الغد لهذا الاتفاق؛ فالمفاجآت في الدول العربية غير مستبعدة، بل ربما هي الأساس، لكننا نبتهلُ أن يصمُد اتفاق السبت للأشهر التسعة والثلاثين المقبلة، ويبدأ السودان من بعدها مرحلة جديدة من تاريخه، لعلها دروس خير للأهرام السياسية والاجتماعية في كل الدول العربية.