" حبس الدّمّ " لنضال الصالح من التوازي الحكائي إلى تعدّد الساردين (3- 3)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

وفي (قبض ريح) يذكر السارد المدارس التي درس فيها متنقلاً من المدرسة الفاروقية إلى مدرسة هايكازيان الأرمنية، ثم إلى اللاييك التي تعرضت عام 1956 للإحراق على يد متظاهرين، ثم يتحدث عن ثقافته، فقد قرأ المعري والفلسفة الشرقية، وتأثر بذلك وامتنع عن تناول اللحم حتى أصابه الهزال: "أرغمني الطبيب على تناول اللحوم، ولا أنسى كيف بكيت بحرقةعندما وضع أمامي طبق فيه لحم لآكل منه"، ص28. وفي مقطع آخر يشير إلى تعمقه في قراءة الفلسفة الصوفية بعد وفاة والده عام 1940، حيث قرأ ابن عربي والحلاج والسهروردي والشيرازي والداراني. وهذا ما يقود المؤلف إلى إضافة نصوص بمثابة المتون، يتحدث في أولها عن محنة السهروردي الذي جهر بشطحاته الصوفية، فحبسه الملك الظاهر على (ظاهر كفره)، في حبس الدم، ثم بعث إليه من يخنقه. بينما يخصص الهامشين التوثيقيين الآخرين للحديث عن حبس الدم معيداً في جزء منه أنساقاً لغوية صدّر بها د. نضال روايته.
كما يتحدّث السارد في تلك السيرة عن مكتبته التي ذهبت احتيالاً إلى دار الكتب الوطنية التي لم تفي بالتزاماتها تجاهه، ثم تأتي النصوص التي تشبه المتون لتتحدث عن مدرسة اللاييك التي أنشأها الكونت دي مارتيل عام 1934، نقلاً عن د. فيصل الرفاعي: (حلب بين التاريخ والهندسة):
"في العاشر من نيسان سنة ألف وتسعمئة وأربع وثلاثين حضر إلى حلب الكونت دي مارتيل، المفوّض الفرنسي في سورية، دشن بناء المعهد العلماني الفرنسي الذي عثرف باسم مدرسة اللاييك، والذي أُحرق سنة 1956، ثم أصبح فيما بعد مقرّاً للمعهد الصناعي". ص37.
ويشير السارد في مقطع آخر إلى أنه بدأ بموسوعة عن حلب عام 1960: "أضمّنها مفردات الحلبيين، وأمثالهم ومعتقداتهم، و..وغالباً ما كنت أحمل أوراقي معي لأدوّن كل ما أسمعه منهم، ولا سيما في المقهى المطلّ على القلعة"، ص53.
وفي أحد مقاطع "قبض ريح" ص ص94ـ96 يتحدث عن رحلاته إلى فلسطين، ومصر ولبنان، وتركيا، العراق، وإيران، وليبيا والنمسا، وألمانيا، واليونان، وقبرص، والمغرب، وإسبانيا، ومالطا، والسودان، وأثيوبيا، واليمن، والحجاز، والأردن. ويختم هذا الفصل بالقول:
"وعلى الرغم من حرير السعادة الذي كنت أرفل فيه في كلّ رحلة، وعلى الرغم من كل ما كنت أجني من المعرفة والعلاقات، فإنني كنت أعد الساعات والدقائق لعودتي إلى معشوقتي حلب"، ص96.
كما يتحدث في مقطع آخر عن مؤلفاته، إلى جانب شغله في الموسوعة، فيشير إلى كتبه المطبوعة من مثل: "البيان والبديع"، و"حلب، الجانب اللغوي من الكلمة، و"أغاني القبة"، كما يذكر مؤلفاته غير المطبوعة من مثل: "الله"، و"أحياء حلب"، و"الموسوعة في النحو"، ويقول في آخر هذا الفصل:
"كنتُ أزداد نهماً للقراءة والكتابة، وأردد لنفسي وأمام الآخرين: لن أمكّن عزرائيل منّي، فكلّما فرغت من عمل أدبي، بدأت عملاً أدبياً آخر، وهكذا يجدني منشغلاً فينصرف عنّي"، ص103.
ولا يفوت المؤلف في هذا الجزء من الحكاية أن يحمّل السرد بعض المواقف التي تعرّي زيف الحضارة الأوروبية الغازية، مثلما تعرّي زيف الثورة التي يدّعيها الثوار المتعطشون للدم هذه الأيام:
•    "فبينما نحن نمضي إلى المقبرة [في جنازة والد الأسدي]، وكان الفرنسيون يفرضون حظر التجوّل، أوقفتنا دورية فرنسية، وأمرت بفتح التابوت لتتأكد من عدم وجود أسلحة فيه"، ص29.
•    "لم تثر حلب فجئنا بالثورة إليها، كلمة قالها أحد المسلحين بعد أيام على دخولهم مدينة حلب"، ص24.
•    "وفي شهر تموز سنة ألفين وأربع عشرة قامت جبهة النصرة بتدمير أضرحة عدد من الأولياء في مقبرة الصالحين، بالإضافة إلى تخريب حجرة مقام إبراهيم الخليل الموجودة في المقبرة نفسها"، ص137.
خامساً ـ الفضاء السّردي ولغة السّرد:
لا تخاتل الرواية قارئها في موضوع انحيازها إلى حلب؛ ابتداء من العنوان الذي يشير إلى سجن في قلعة حلب، (حيث في ظلمة هذا السجن وبرده كان الفرنسيون، يمنعون عن النزلاء الطعام والشراب، فيموتون جوعاً وعطشاً وبرداً؛ ولذلك سمّي حبس الدمّ)، ومروراً بعتبة الإهداء التي يزجيها المؤلف إلى حلب/ إلى خير الدين الأسدي (ص6)، ووصولاً إلى المتون السردية التي تؤكد ما أكّده المؤلف في روايته، والأسدي في كتابه "حلب، الجانب اللغوي من الكلمة": "حلبيّ أنا، حلب أحلامي ورؤاي"، ص34. ووفقاً للمسار الحكائي فإنّ السياق يؤسس لأهمية صبري مدلل على أساس حلبيّته، كما يؤسس للأمكنة على أساس أصالتها، وعلى قاعدة عدم قبولها للهزيمة؛ لأنها موغلة في تاريخ الأصالة الذي تجسّده حلب، "فقد هاجمتها جنود تيمورلنك عدة مرات، في كلّ مرة فيها تدك حصونها، وتهدم منازلها، وتحرق معابدها ومعاهدها العلمية، وتزهق أرواح أهلها، وتفعل فيها من الفظائع والعظائم ما ما يرتعد القلمم لذكره"، ص40 (من كتاب  كامل الغزّي: نهر الذهب في تاريخ حلب).
لذلك ينفتح السرد من الحكاية إلى المعلومة، ويتجه موئله إلى حلب أو إلى تفاصيلها، فحين يخبر الدكتورُ فهدٌ الأسديَّ أنه من باب قنّسرين ينفتح ما هو بمثابة المتن؛ ليحدّثنا عن باب قنسرين، على مدى نحو ثلاث صفحات، مطلعها:
"باب قنّسرين: يُفضى منه إلى قنّسرين. وكلمة قنّسرين عمورية، بمعنى قنّ النسور، ومحلّه قديم قبل الإسلام، يتألف من أربعة أبواب: باب يلي المدينة، وباب يلي البريّة، وبابان بينهما"، ص76.
وفي موقع أخر من السرد يتم الحديث عن فندق بارون المغلق منذ دخل المسلحون إلى حلب، وهو يتضمّن معلومات عن الفندق وعن الذين نزلوا فيه من مفكرين وأدباء وقادة من مثل (أجاتا كريستي وآرثر كونان دويل وكورت فالدهايم وجيمي كارتر وجمال عبد الناصر والراحل الشيخ زايد بن سلطان).
وانطلاقاً من هذه المرجعية التي لا تخفى يتذاكر د. فهد مع الأسدي قصيدة الصنوبري عن حلب التي مطلعها: "احبسا العيس احبساها"؛ ليتم الاستشهاد من ثمَّ بأقول عن حلب منها:"حلب أنظف مدينة في السلطنة العثمانية، وأجملها بناء، وألطفها عشرة، وأصحّها مناخاً، والحلبيون هم أكثر أهل السلطنة تمّدّناً"، ص110.
ولعلّنا نلفت النظر إلى تأثيث المكان السردي الذي اهتمّ به السارد أيّما اهتمام، ويمكن على سبيل التخصيص أن نشير إلى حكاية الشاب ذي السادسة عشرة من عمره، الذي هرب من انهمار الرصاص إلى مقبرة الصالحين، ودخل غرفة أبي محمود، ليؤثثها السرد على النحو التالي:
•    "الغرفة بدت له أنها كانت عامرة بالحياة قبل ساعات من دخوله إليها: إبريق شاي لم تبرد ماؤهبعد، وكأس نصفها مملوء، وصحون صغيرة في احدها زيت، وفي الآخر زعتر، وفي الثالث بضع حبات من الزيتون"، ص183.
•    "في الغرفة غير إبريق الشاي والكأس والصحون التي رآها أول ما آوى إليها حصير من النايلون وفراش وكتب في خزانة صغيرة من الحديد، وأوراق صغيرة مكتوبة ومبعثرة فوق الحصير"، ص184.
وتحتفي لغة الرواية بشكل عام، بالخبري أكثر من احتفائها بالجمالي، باستثناءات ثلاثة: نصوص (أغاني القبة) التي تتخذ منحى صوفياً، و(رسالة لم تصل)، والبريد الإلكتروني الموجّه إلى وصال/ الحبيبة (قبل تغيير مسارها بشكل دراماتيكي)، وهو يميل إلى الإنشاء على حساب السرد، ومنه: "كنتُ آنذاك مأخوذاً بإيقاع صوتكِ، وهو يضوّع موسيقاه الخالبة في خلايا الأشجار، فتزداد خضرة، وفي مداخل الأبنية، فتونع في أرجائها المسرّات.. كنتُ كمن يسمع صدى نفسه، وأنت تتكلمين، كأنّك أنا، وكأنّني أنتِ.. كأنّك في اللوح المحفوظ منذورة لي، وكأنّي منذور لك منذ أوّل الأزل، وليته يكون إلى آخر الأبد"، ص66.
ولعلنا نشير إلى استثناء قصير مثير في لغة السرد، في المقطع الخامس عشر من (مقبرة الصالحين)؛ حين يتحدث د. فهد عن أبيه الذي رفض بيع بيت قنسرين، على الرغم من شرائه بيتاً جديداً، إذ يلحق الابن أباه إلى البيت القديم متخفّياً، ليجد والده مشغولاً بسقيا نباتات البيت؛ إذ يستخدم السرد لغة مجازية قلّ أن نجد مثيلاً لها في هذه الرواية: "يمضي إلى البركة التي تتوسط الباحة ثم يملأ السطل بالماء، فإلى تراب الدالية المعرشة فوق البركة، فيسكب الماء فوقه وهو يتلمس أغصانها كما تمرر أم كفيها   على خد طفلها، بل كما تمسح على جبينه، وتهدهده وتستعيد في سرّها ما تحفظ من الأدعية، لتحميه السماء وتحرسه من كل شر، وتظلله بغمام العطاء والعناية، حتى يكبر، وتراه شاباً مثل فلقة الوردة.. من الدالية إلى شجرة الكباد، إلى شجرة النارنج، فالليمون، فالبرتقال، فالياسمين"، ص157.
باختصار:
ليست المعلومة الموثقة في الرّواية أمراً جديداً، سواءٌ أكان ذلك في متنها أو هامشها، ويمكن هنا أن نذكّر بتجارب صنع الله إبراهيم وإميل حبيبي ومحمد الغربي عمران وغيرهم، غير أنّ الجديد هنا هو اعتماد هذه المعلومة بوصفها استراتيجية سردية بارزة الحضور في المتن الروائي. كما أن جمع تقنيتي التوازي الحكائي وتعدّد الساردين في رواية واحدة منحها بناء مثيراً قادراً على طرح أسئلة مهمة على نظرية الرواية.
إنها رواية مركّبة تستحق الوقوف عندها؛ فهي تمزج سمات الرواية التسجيلية والعجائبية والسيريّة، وتقدّمها لنا في سرد موحّد، يتحدّث عن حبس الدمّ في حلب، ويحرّضنا أن نتحسس مواقع حبس الدّمّ في سوريا كلّها وفي فلسطين وفي كل مكان من وطننا العربي العزيز.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
نضال الصالح: حبس الدمّ، دار دلمون الجديدة، دمشق، ط1، 2019.

 

تعليق عبر الفيس بوك