صوّر المكان في ديوان "للحبّ ألوان أخرى... "

أمين دراوشة | ناقد وأديب فلسطيني
للشّاعر التّونسي عبد الكريم الخالقي

يرتبط المكان بالشّخصيات، ويؤثر فيها وتؤثر فيه، وكما يقول جاستون باشلار: إن العمل الأدبي الّذي يبقى فيه المكان مختفّيا ومفقودا، فإنه "يفقد خصوصيته وبالتّالي أصالته". (1(
فالمكان هو لبّ العمل الأدبي ومعماريّته، وجماليّاته تتناسق وتتكاتف مع جماليّات العمل الأخرى. والإنسان هو الّذي يرسم جماليّات المكان بحركته داخله، فالمكان المهجور دون إنسان، ليس أكثر من "قطعة من الجماد لا حياة ولا روح فيها". (2) فوجدان الإنسان بعواطفه ومشاعره "يأخذ من الطّبيعة وطقوسها وفصولها ما يساعد مشاعره وعواطفه على رسم المكان". (3(
ومن هنا نستنتج أنّ المكان يجب أن يكون فاعلا ومؤثرا في العمل الأدبي وإلاّ أصبح يعاني من هشاشة وضعف. ونرى في الدّيوان أنّ المكان لا يرتبط بالمواطنة والمحليّة، بل هو مكان مشاع يستطيع فيه الشّاعر التّنقل بين الأمكنة المختلفة، ويتّسع المكان لديه ليشمل كافة الوطن العربي الكبير.
ولا يقدر الشّاعر أن يكون مبدعا وخلاّقا، "إلاّ إذا تماهى مع تجربته الذّاتية فهي في تجسيدها الذّاتي، تصوّر مسيرة الرّوح العامّة للكلّ الإجتماعي الّذي ينتمي إليه، أما الإبداع من الذّاكرة، يجعل من الأدب تكرارا، وتبعيّه لقضايا وموضوعات سبق تناولها، فيدرج النّصّ الحاضر في إطار النّصّ الغائب الّذي يمثّل إطارا مرجعيّا له". (4(
ولا ريب أنّ الزّمان والمكان يشكّلان التّجربة الذّاتية للشّاعر، فالمكان يمثّل "جسد المبدع الّذي ينتمي إلى جسد طبيعيّ وكونيّ خاصّ، يخلق علاقة عضويّة معه، وحركة الجسد في المكان هي تجسيد لعمر المبدع، وهي زمانه الخاص، مثلما تصنع حركة الشّمس مع الأرض زماننا الموضوعي، الّذي يتموضع في ظلال الكائنات، والخيال هو وحده القادر على إقامة تلك العلاقة بين المكان العام/ البيئة، والمكان الخاص/ الجسد، وبين الزّمان العام/ التّاريخ، والزّمان الخاص/ عمر المبدع الّذي تصقله خبرة النّصوص، خصوصيّة الجسد الّتي تظهر في بصمة الأصابع". (5) وتتضح هذه العلاقة النّشيطة في الحواريّة بين الشّاعر وبين المكان الّذي يحيا فيه، وتنشّق هوائه وذاق فيه العذوبة أو المرارة. فهذه العلاقة لها خصوصيّتها في بناء ذات الشّاعر، والشّعر الّذي يتناول المكان يبدع أشياء جديدة، فالمكان حيّ في خبراته الوفيرة، المختزنة في وجدان الشّاعر. لذا رأينا في الدّيوان تداخل وتجادل الفرديّ مع الكليّ، بين الشّاعر وتاريخه.
يدرس العمل الشّعري في مستويين: الأوّل هو ما يتضمّن النّصوص داخل الدّيوان، كدراسة اللّغة والصّور والإستعارات... والثّاني يدرس ما هو خارج النّصوص، ونقصد هنا النّصّ الموازي، وعرَّفه النّاقد جينيت بأنّه "نمط من أنماط المتعاليّات النّصّيّة، والشّعريّة العامّة...فالنّصّ في الواقع لا يمكن معرفته وتسميّته إلّا بمناصه، فنادرا ما يظهر النّصّ عاريّا من عتبات لفظيّة أو بصريّة، مثل: اسم الكاتب والعنوان والعنوان الفرعي والإهداء والاستهلال وصفحة الغلاف والتّصدير والملاحظات والحواشي...". (6(
ويعتبر جينيت العتبات محوريّة في فهم النّصّ الأدبيّ، فالإنسان لا يسطيع دخول بيته دون المرور من عتبته.
إذن يمثل العنوان العتبة الأساسيّة للدّخول إلى قلب الدّيوان، وحلحلة شفراته المقفلة على القارىء، فمن خلاله تشرع ذاكرة القارىء في البحث عن مدلولات يتمكن عبرها من نزع القناع عن النّص جزئيّا على الأقل. فمن خلال العنوان وتفريعاته يتشكّل نسق بنائيّ واضح المعالم يهب النّصّ معانيَه المختلفة، وتضيىء الشّمعة المركزيّة في عقل القارىء ليحلّق في فضاء النّصّ ذي المدلولات المتعدّدة.
إنّ العنوان الّذي بين أيدينا " للحبّ ألوان أخرى " يتكون من ثلاث كلمات بسيطة تحمل الكثير من الدّلالة والمعنى.
فكلمة (للحبّ) توحي للقارئ بمعنى الألفة والمشاعر النبيلة والسّامية وتقوده إلى نبع الصّفاء والنّقاء، وجاءت كلمة (ألوان) لتضيف الشّعور بالفرح والمرح، وتحيل إلى قوس قزح رمز التّفاؤل والإنشراح. أما كلمة (أخرى...) فهي تؤول إلى أنّ الحبّ له أشكال وطرق شتّى وتزيل اللّثام عن معنى الحبّ المتعارف عليه بين الرّجل والمرأة وحسب.
أما لوحة الغلاف فتضمّنت صورة لطفلة غاية في الجمال متدثرة بالأبيض وهو رمز السّلام والإطمئنان، تحمل ريشة وترسم، بتركيز عميق! فهي ولا شكّ ترسم المستقبل الآتي الّذي يحمل بذرة الأمل. وخلفيّة الغلاف احتوت قصيدة قصيرة تشي بما يتضمّنه الدّيوان، تقول:
"ألوان..
لَمْ أَتَبيَّنْ أَلوَانَ اللَّيْلِ
وَرْدِيٌّ يَلبـسُ وَردِ يًّا
ويُخْفِي..عَنِّي البَاقِي..
قَلبِي يَقُولُ أسْوِدُ لَيْلٍ
وَأبيَضُ..فِي أَحدَاقِي
يَا جَنّةَ شَامٍ فِي الأعْلَى
وَأَعلَى الأَعْلَى ...عِرَاقِيّ". (7)
فالحبّ إذن له أشكال أخرى، فالحبّ هنا تمدّد ليشمل الوطن العربيّ الكبير، هذا الحبّ المغلّف بالخوف على وطننا العربيّ من غدر اللّيالي الّتي لا ترحم، ولكن رغم كل شيء فهو قادر على النّهوض من الكبوات، والتّدثر بالورود والطّيران إلى أعالي المجد.
أمّا الإهداء فجاء ليجلي أيّ غموض، ويوضّح أنّ ما في داخل الدّيوان هو الحبّ الكبير الّذي يكنّه الشّاعر لوالدته فيصفها بأنّها قلبه، وهل هناك أغلى من القلب؟ يقول:
"إلى قلب ..
عبد الكريم
الّذي..
سمّيته مجازا:
"عارم"
أمّي...بل...أُمَّهْ...".
ويستدرك عبر التّلاعب بالألفاظ بأنّه يقصد عن سابق إصرار وتصميم أمّه البيولوجية وأمّه الرّوحية والّتي هي الوطن الشّاسع من المحيط إلى الخليج، ثم جاء التّصدير ليعبّر عن أناه الفرديّة والجمعيّة، ويحدث التّوازن الدّقيق بين حبّه الحقيقيّ الذّاتيّ، وحبّه الكبير، فقلبه
"عارم" يتّسع للجميع.
"خذي الورد.. من وردي..
أنا في الأنا ..جمع..
لكن..في الهوى وحدي..
سأهديهم ... مزاياي...
وأهديكِ...
سليم العطر والشّهد...".
ومن القصائد المليئة بالمشاعر الجيّاشة قصيدة "يَـا خُـمْسِتْـهَا..." والّتي يبثّ فيها الشّاعر ما يعتمل بداخله من حزن لفراق أمّه، ويتذكّر حنانها الّذي لا ينضب، ويلجأ الشّاعر إلى الميثيولوجيا في القصيدة من خلال عنوانها المسبوق بحرف نداء وكأنّه ينادي بكل قوّة ولا مجيب، فالعنوان يعني في العقليّة الشّعبيّة التّونسيّة أداة مصنوعة من الفضّة أو الذّهب تستعمل للتّخميس والّتي يبدو أنّ الكلمة مأخوذة من أصابع اليد الخمسة، وتستخدم للوقاية من الحسد وطرد السّحر، يقول:
"رُدِّي عـليْ لَذَى يَا خُـمْسِتْـهَا
مُـشْـتَاقْ لِحْـوَالِـيهَا
لِـخْلاَلْـهَا ووْشْـمِتْـهَا
مُشْتَـاقْ
لْـنُـومْتِي فِي حْجِـرْهَا
وْرِيحة حَـنَانْ
نَـابْـتَهْ فِي صْدرْهَا
مُشْـتَاقْ
لِكْـلاَمْهَا وغْـنَـاهَا
وسَهْـرَاتِي لِـيلْ الشتَـاءْ بَـحْـذَاهَا
وْكِـلْمَاتْـهَا وْتْـوَصِّي
ذِي رِيحْـتِكْ إيَّاكْ لَوْ تَـنْـسَاهَا
مُشْـتَاقْـلِـكْ يَا يُـمَّهْ
وْمُـشْـتَاقْ
لْـتَحْـلِـيقْـنَا وِاللَّـمَّهْ
وِلْـفَـرْحْتـِي كِي نْـقُـولْ
نَـا وِلْـدْ أمَّهْ
مُـشْـتَـاقْ
لْـمَـلْـيتِـكْ وخْـلاَلِكْ
لصُوتِـكْ فِـي وِذْنِـي
لْـمَـشْـيتِـكْ وخْـيَـالِكْ".
وتتكرر لفظة "يمّه" وتحدث قشعريرة في جسد المتلقي لما للكلمة من معاني ومدلولات، فالبيت الآمن قد تعرّض لهزّة عنيفة وهو الّذي يحوي الطّمأنية والفرح، والتّلذّذ بسماع صوت الأمّ في البيت الّذي يدلّ على الحنان والدّفء، ويضيف:
"فِـي غِـيـبتِـكْ يَـا يـمَّهْ
طَاحْ الـوَتَـدْ مِ البِيـتْ
وْلاَ عَـادْ فيها لمة
ولا عاد فَـمَّهْ
رِيحـةْ بْـخُـورْ يْـفُـوحْ
لاَ وِلْـدْ امَّهْ
وكُـنْـتِ نْـرَوَّحْ
نَـلْـقَى الفَـرَحْ فِي الـدَّارْ
عِـطْرُو يْـفَـوَّحْ
وتَـوْ بَـعْـدِ غْـيَـابِـكْ
لَا صُوتْ فِـيـهَـا
وْ لا سمْح خيالكْ
ولاَ ضَوْ يْـضَوِّي
وْزَادْ الفراغْ كِي هَـبْ
صَـكِّـرْ بَـابِـكْ".
لا ريب أنّ البيت يشغل الحيّز الأهمّ في حياة الإنسان، فهو المكان الوديع والّذي يشعر فيه بالرّاحة والرّضا، وهو يحيل إلى الذكريات الأساسيّة في حياة الشّخص، ذكريات الطّفولة، حنان الأمّ، مثاليّة الأبّ، شقاوة الأخوة. والمكان الأليف " هو البيت الّذي ولدنا فيه، أي بيت الطّفولة. إنّه المكان الّذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكّل فيه خيالنا. فالمكانية في الأدب هي الصّورة الفتيّة الّتي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطّفولة. ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المحور". (8(
غير أنّ حالة الشّاعر بعد فقدانه أمّه، جعلت من البيت مكانا معاديّا، فوتد البيت نزع، ولم تعد الأسرة تجتمع كلها كما كانت، وأختفت رائحة الطّيب والبخور منه، ولم يعد فيه سوى الظّلمة والفراغ. فالمكان له تأثيره الّذي لا يخفى من النّاحية النّفسيّة على الشّخصيات، "فتأثيره في النّفس غالبا ما يكون أعمق من التّأثير في الجسد، وذلك لما تمتاز به النّفس الإنسانية من إحساس مرهف، فأكثر الأمور بساطة تطبع في النّفس علامة يصعب محوها حتّى مع مرور الزّمن". (9) وهذا الأمر يظهر على الشّخصية في قصائد الشّاعرعبد الكريم الخالقي
الّذي يبدو تائها، لا يعرف أين المسير؟ فخسارته عظيمة ولا تعوّض، ففقدان الوالدين يؤدّي بالشّخص إلى التلوّي من الألم، والإحساس بالضّياع، وأن العالم لم يعد يعنيه، يقول في قصيدة "مفترقات..":
إِلَى أَيْنَ تَمْضِي..؟"
لِمَنْ سَتَعُودُ..؟
لَا أُمكَ بِانْتِظَارِ.. مَجِيئِكَ..
وَلاَ دَارُ أَهلِكَ..
مُشرّعٌ بَابُهَا..
لَكَ أَنْ تُرَاوِحَ.. بَينَ قَبْرَينِ..
بَيْنَ شَجِيِّ السُّؤَال..
عَنْ وَالدٍ..صَمتُهُ أَزَلِيّ..
وَوَالِدَةٍ..
يَضُمُّ ..هَوَاكَ ثَرَاهَا..
تُمَرِّغُ إِذَا مَا اسْتَبدَّ..
بِكَ فِي البعاد..
هَوَاهَا..
عَلَى قَبرَهَا..
أَوْ فِي تُرَابٍ حَوَاهَا..".
يطالب الفيلسوف هيدجر بأن يتقبّل الإنسان فكرة الموت بسرور لأنّ ذلك يرهف وعيه بالحياة، وهذا بحدّ ذاته خلود كما يقول سارتر يقاوم الفناء الّذي شوّه عالم الوجوديين.
وكان الفيلسوف الكندي قد آمن بخلود النّفس بعد الجسد الفاني، فعلاقة الرّوح بالجسد عارضة، تسافر بعد تحلّله إلى الأعالي حيث النّور لتندمج فيه.
يضيف الشّاعر:
"عساك..
تُذَوِّبُ مِلْحَ اشْتِيَاقَكَ..
في قبلة ..لم تمت..
أو...
فِي نَدًى مِن نَدَاهَا..
وَامْضِ...
إلَى أَمْسِكَ..كَيْ تَعِيشَ..
وَانْثُرْ...
حُرُوفُ الصَّبَا فِي مَدَاهَا..".
إذن فالشّاعر ما زال يتعامل مع حادثة الموت كحادثة عابرة، وأنّ روح والدته خالدة تمدّه بالقبلات والنّدى ليكمل مشواره في الحياة، حتّى تحين اللّحظة الّتي تلتحم فيها روحه مع روحها في حياة أبديّة لا ألم فيها ولا قلق. وهذا نجده في قصيدة "أشلاء الأمس وصمت الآن.." حيث يقول في مقطع منها :
"ورد يطلّ من سور الحدائق
بقايا أتربة عالقة بأسفل القدمين
امرأة تسكب ماء الصّبح
وتعدّ على مهل
قبلة للنّهار الجديد..".
وتظهر الأمكنة بائسة في القصائد، تعبّر عن الضّياع والسوداويّة، فالوطن يعجّ بالمصاعب، والشّعراء توقّفوا عن قول الشّعر، وعندما يختفي الشّعر، فأن ما يحدث هو:
"صَمَتَ الْجَمِيعُ..
الأَرْضُ تُقْفِرُ..
حِينَ لاَ شِعْرَ عَلَى شَفَةِ المُغَنِّي
وَلاَ لَحْنَ عَلَى أَوْتَارِ عَازِفْ
حَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَيْثُ لاَ غِنَاءْ".
فكلّ شيء يصبح مرّا بغيّاب الشّعر (لذّة الحياة) "لاَ شَيْءَ يَحْلُو فِي غِيَّابِ الشِّعْرِ"
ومن الأمكنة المهمّة الّتي ذكرت بالدّيوان الشّارع، فالشّارع "صحراء المدنية، وجزؤها الزّمني، وحياتها الدّائبة المتحرّكة، ولولب بعدها الحضاريّ، لامتداد طاقة على مدّ الخيال، ولانعطافاته تحوّلات في الزّمان والمكان...لذا فعدم استقراره هو استقرار آخر، هو التّكوين الّذي بدونه لا يصبح للشّارع معنى". (10(
يهدي الشّاعر قصيدته "أسبوعيّة الخبز" لثوّار ما بعد 14 كانون الثّاني فيقول:
"جدار الصّمت قد كسر..
وصاح الشّعب لن أقهر..
فإما الخبز والعدل..
وإما النّار والخنجر..
ومن أندر فقد أعذر..
**********
نزول الشّعب للشّارع..
ليعلن أنّه جائع..
ونادى حقّيّ ضائع..
وصوت الحق لا يقهر..".
فالشّارع هنا هو مركز ثورة الفقراء ضدّ توغّل السّلطة في الظّلم والقهر، والشّعب بجميع فئاته قد نزل إلى الشّوارع ليحقّق مبتغاه في حياة كريمة، فأخذ الشّارع رمز تجمُّع الجماهير للتّمرد على السّلطة، وتحقيق العدالة.
ينتقل بنا الشّاعر في قصائده ليحدّثنا عمّا جرى للأمّة العربيّة في ذلّ وهوان، فيقول في قصيدة "يا أمّتي الموجوعة..":
"وجايع الامّه
يا دمنا الوديان
حكّامنا خذلونا
وخلّو الوطن يتهان
ترابنا وداسوه
وجناحنا وكسروه
بسياسة الخذلان...".
يُحمّل الشّاعر الحكّام العرب مسؤولية ما جرى ويجري في وطننا العربيّ لأنّهم لم يكونوا في مستوى التّحديّات الّتي فرضها الأعداء عليهم، فعمّت الظّلمة على أوطانا، وانتشر الغدر والخيّانة، فالعراق سرقه الأمريكان، وسوريا الأبيّة عمّها الخراب وتونس التّاريخ عشعشت فيها الغربان وليبيا المختار أمتلأت بالنّفاق، أمّا فلسطين فهي جرح نازف لا يلتئم، يقول:
"فلسطين نور عيوني
يا جنّة العشّاق
كيف يقدرو ..ينسوك
كيف قسموا الارزاق...
وأنت نصيبك دم".
فلسطين مستباحة، يقتل شعبها ويشرّد والعرب غافلون عن المؤامرات الّتي تحاك ضدّهم، وتبقى القدس النّور المقدّس الّذي لا يستطيع عربيّ أن ينساه:
"ياقدس ليك سلامي
ياقبلة الأشواق
نفديك..".
فظهرت البلدان العربية مجروحة تنزف، كئيبة دون أمل، إلّا أنّ القدس المقدّسة تحثّ المواطنين العرب على التّحرك، والقيّام بالفعل الصّائب وهو الثّورة. وفي تناص مع الشّاعر أمل دنقل، يقول الخالقي:
"كأبيك..
ستكون قمحيّ الملامح..
كأبيك..
تحفظ اللاّءات عهدا
لا اعتراف
لا تفاوض
لا تصالح
كأبيك..
ستجيء في ليل الرّبيع..
تحمل ورد الحروف..
وستمشي في المسالك..
غير عابيء بالمهالك..".
فلا حلّ لكوارث العرب إلاّ بالتّمرّد والانقلاب على الوضع الرّاهن المحزن والمفجع.
إنّ المدنية هي رمز الحضارة، وهي البيئة الّتي تعيش فيها الثّقافات وتتفتّح وتزهر، وتمنح صورة شاملة للمجتمع وما يؤمن به من قيّم وأخلاقيّات. وحتّى التّاريخ كما يقول أندريه نوشي "ما زال يكتب بالمدن". (11(
ونجد عند قراءة الدّيوان أماكن مقدّسة تتجاذب مع التّاريخ الإسلاميّ والمسيحيّ الحنين والذّاكرة، فالشّاعر يلجأ إلى مريم المقدّسة ليناديها، ويناجيها ويطلب منها العون، يقول في قصيدة "مريم":
"يا مريم...
الشّهداء بقامات النّخل في حيفا...
فشدّي بدم الشّهداء وارتفعي...
ارتفعي... فوجه حيفا سماء...".
يا مريم...
أسري الى القدس تزفّ الورد للقبّه...
تغنّي للصّباحات الجديده...
يا مريم...
الزّيتونة المطلّة على أنفاس القدس...
تثمر زيتونا ..و...كرامه...
فشدّي...
يد بالزّيتونة...المترعه...
والأخرى بدم الشّهيد...
وخلّي برتقال حيفا ...على رأس الفجر...".
هنا تحدث الشّاعر عن المدنية واقعا ورمزا وحلما، وتحضر المقدّسات المكانيّة في الدّيوان بدلالات عميقة تتجاوز ما سبق توظيفه، فالصّحابي بلال مؤذن الرّسول الأعظم يؤذّن في كنيسة القيّامة في تلاحم التّاريخ المشترك للمسيحيّة والإسلام، ويدعو الشّاعر إلى الوحدة والفعل الإيجابي، وكأنّه يردّد خلف بلال الآذان: "حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح"، يقول:
"يا مريم...
هذي الكنائس...
تهدي نواقيسها للمساجد...
وبلال...
يؤذّن في كنيسة القيّامة...
فارقصي ... واعرجي ...
الى الشّام...
وأنيخي الشّوق قليلا على قاسيّون...
وأنشدي بعض قدود الرّوح في حلب...
واستريحي بالمسجد الأمويّ...
يا مريم...
انطلقي... الآن...
قبِّلي السيّاب في البصره...
واغتسلي...
ماء الرافدين... زلالْ...
وصبا العراق .....حياةْ".
فالأوضاع الّتي ترزح تحتها المدن والبلاد العربيّة قاسيّة، وبحاجة إلى يد مقدّسة تربّت عليها، ويناشد مريم المقدّسة أن تسريَ سريعا إلى القدس لعلّها تعيد بستمها المفقودة، ولا يكتفي الشّاعر بذلك بل يرجوها أن تعرج إلى الشّام الجريحة تنثر بركاتها في حلب وقاسيون النّازف، وإذا تعبت ها هو المسجد الأمويّ يرحّب بها لتستكين وترتاح، قبل الانطلاق إلى البصرة وبلاد الرّافدين لتعيد لدجلة والفرات مياهها النقيّة الصّافيّة، كي يعود العراق أكثر قوّة وحيويّة وشبابا.
إنّ المكان بالنّسبة إلى الشّاعر جزء من الهويّة باعتباره انتماء للأرض ومراجعة لذاكرة الوطن الكبير، هذه العلاقة الّتي تظهر بسيطة هي" الّتي يقوم عليها إنتاج المكان شعريّا وفق تصوّرات سياسيّة وتاريخيّة وفلسفيّة تمتد من خيال الصّورة وآفاقها الدّلالية إلى وقع المكان في الذّات بارتباطاته النّفسية والاجتماعيّة والثّقافيّة"، (12) هذا الارتباط بالمكان والتّعلّق بذاكرته يستحضره الشّاعر في ثنايا ديوانه بكثافة. فهويّة المكان "هي هويّة الذّات عند اصطدامها بالعالم الخارجيّ الّذي يعاد تركيبه حسب ما يمليه الخيال من أشياء وعناصر تحمل صورة الذّات في المكان وتستمد أبعاده من ضغط الواقع، ومن طبيعة إدراك الأشياء نفسيّا، وتوق الذّات إلى ممارسة حرّيّتها في المكان شعريّا". (13) فالشّعر الحقيقيّ يعيد تركيز الإضاءة على صور اختفت أو كادت أن تمّحى.
إنّ صور المكان المختلفة وذات المرجعيّات الدّينيّة أو التّاريخيّة أو الجغرافيّة، تشكّل بعدا هامّا في تثبيت الهويّة والانتماء إلى الذّاكرة الجماعيّة للوطن.
ورأينا الشّاعر بحديثه عن المكان وذاكرته يتداخل لديه المرئيّ والمتخيّل، الفيزيائيّ والمجرّد، حيث شكّل صوره من تداخل العناصر كالطّبيعة، والمدينة، والبحر، والبرتقال، والحلم...
عبر هذه الرّحلة الشّعريّة في أمكنة معتّقة البوح ومثخنة بجراح الذّاكرة، ومتعمّقة في الذّات الإنسانيّة نكتشف أنّ الشّاعر، وظّف المكان بوصفه مكوّنا شعريّا محوريّا في بناء القصيدة الحداثيّة.
وأُنهي هذه الدّراسة بمقطوعة قصيرة عنوانها "أيّها القمر..لا تذهب.." تعبّر عن إرادة الشّاعر، وقدرته على التّغلب على الصّعاب، تقول:
"أيّها القمر
هات شرابك وانسحب
لك الآن..
أن تغادر..
لم أعد أخاف.. الموت".
إنّ القصائد تشعل نارا من الأسئلة، وتصراع النّقيض، وتوحي بمغامرة الشّاعر الّذي لا يكفّ عن استنهاض الأمل، يده المرتعشة تكتب وهي تنزّ ألماَ.
يمتلك الشّاعر أسلوبه المميّز، و " قدرة الأسلوب تكمن في جاذبيّته وهو لا يني يقتحم منطقة خافية، يستدعي عالما لم يُتآلف معه من قبل، إنّه المتعدّد لحظة اعتباره واحدا!". (14(
ويستمر الشّاعر عبد الكريم الخالقي في مشروعة الشّعريّ باقتدار، وينطبق عليه قول الشّاعر محمد بنيس: "هي الكتابة سفر معزول في الغيّاب". (15) فالشّعر الرشيق له جناحان، و" الشّعر تجربة حيّة ،عشق الحياة وعيشها في الشّعر، أعطيا للكتابة وضعيّة شعر مغامرة". (16(
فالشّعر يهبنا الحرّيّة، وعلى الشّاعر أن يكون حرّا ويضجّ بالحيويّة والفاعليّة لينجح في نقل مشاعره وعواطفه إلى المتلقّي. ولقد أفلح الشّاعر في أخذنا إلى عوالم ملونة وبكر، وغمرت آلامه وأحزانه وانكساراته وأحلامه نفوسنا، وسرى في قلوبنا توقه إلى فضاء الحرّيّة الفسيح، بإرادة لا تعرف الكلل.


الهوامش
-1   جاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة الروائي غالب هلسه، بغداد: دار الجاحظ للنشر والتوزيع ووزارة الإعلام، 1980. ص6.
2- أسماء شاهين. جماليّات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا.عمان: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر. ط1. 2001. ص 17.
3- المرجع السابق. ص 17.
4-  رمضان بسطاويسي محمد. ثقافة المكان: الصمت والألم. قراءة نصية في نماذج قصصية من الامارات. الشارقة: منشورات دائرة الثقافة والاعلام. ط1. 1996. ص 129.
5- المرجع السابق. ص 129.
6-  عبد الحق بلعابد. عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص). الجزائر: منشورات الاختلاف. ط1. 2008. ص43 و50.
7- عبد الكريم الخالقي. ديوان "للحبّ ألوان أخرى...". تونس: منشورات دار المبدعين للنشر والتوزيع.
8- جاستون باشلار. مرجع سابق. ص 7.
9- أسماء شاهين. مرجع سابق. ص 118.
10-  ياسين النصير. الرواية والمكان. دمشق: منشورات دار نينوى للنشر والتوزيع. ط2. 2010. ص 110.
11- أندريه نوشي، وآخرون. "المدنية في شعر زماننا". في: الإنسان والمدنية في العالم المعاصر. ترجمة كمال خوري. دمشق: منشورات وزارة القفافة. ط1. 1977م. ص 5.
12- جمال مجناح. دلالات المكان في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد 1970.رسالة دكتوراة. الجزائر/ باتنة. جامعة الحاج لخضر. اشراف الدكتور العربي دحو، السنة الجامعية 2007-2008. ص 67.
13- المرجع السابق. ص 68.
14- جاك دريدا. المهماز. ترجمة عزيز توما، وإبراهيم محمود. اللاذقية- سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع. ط1. 2010. ص 13.
15- محمد بنيس. كتابة المحو. الدار البيضاء: منشورات دار توبقال للنشر. ط1. 1994م. ص 33.
16- المرجع السابق. ص 32.

 

تعليق عبر الفيس بوك