أزمة الأمة وسبل الخروج منها 1 – 2

عبيدلي العبيدلي

 

بدءًا من المواطن العادي البسيط، مرورًا بنظيره المتوسط الثقافة، والبعيد عن السياسة، وصولاً إلى ذلك المنغمس في العمل السياسي المُنظم بشتى أشكاله، توقفا عند ذلك القطاع من المجتمع ممن يملك مؤهلات علمية عالية، كل تلك الفئات، ومن يمثلها، يجمعون على أنَّ أمتنا العربية تمر بأزمة، يعتبرها البعض طاحنة، ويراها البعض الآخر أنها لن تكون عرضية، بل هي مرشحة لأن تكون مُزمنة، ومتفاقمة، وقابلة للانتشار والتوسع على أكثر من صعيد. ورغم التفاوت الثقافي، لكن مُمثلي تلك الفئات الثلاث من المواطنين، يصرون على استخدام تعبير "أزمة"، دون سواه من المصطلحات اللغوية الأخرى عند تناولهم للواقع العربي المُعاصر. فهم لا يلجأون إلى تعبير "نكبة"، كما هو الحال عند وصفهم لما تعرض له العرب في العام 1948، حين اغتصب الصهاينة، وبدعم من قوى عالمية عظمى تتقدمهم بريطانيا، أرض فلسطين، وأرغموا نسبة عالية من سكانها، عنوة وقهرا، على مُغادرة أراضيهم، واللجوء إلى المنافي تحاشياً لما قامت به العصابات الصهيونية حينها من مذابح مُمنهجة ضدهم. كما أننا لا نصادف كلمة "نكسة"، كما نقرأها في الأدبيات التي تتوقف عند توصيفها للحالة السياسية التي تخلقت أو التاريخية، عند الحديث عن الهزيمة التي ألحقها الكيان الصهيوني بالجيوش العربية في حرب يونيو (حزيران) 1967.

ولربما في الاستعانة بمصطلح "أزمة" الكثير من الدقة عند وصف الواقع العربي المعاصر الذي غرس جذوره الحديثة الطرية في تربة التاريخ العربي منذ الحرب الكونية الثانية، التي لم تكن نكبة فلسطين 1948م سوى إحدى ثمراتها الخبيثة المباشرة لتلك الحرب.

وشأنها شأن المصطلحات الأخرى، اكتسبت "الأزمة"، مدلولين، الأول منهما لغوي، والآخر اصطلاحي. فعلى الصعيد اللغوي، وكما يعرفها قاموس "المصباح المنير" هي ما تعني "الشدة والقحط ويُقال أزم علينا الدهر، أي اشتد وقلَّ خيره أو أزمت عليهم السنة أي اشتد قحطها". لكنها كمصطلح، وكما ينقل الكاتب أحمد هادي طالب عن "القواميس العربية المتخصصة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد فإنها نقطة تحول وحالة متوترة للانتقال ويمكن القول إنها وضع أو فترة حرجة وخطرة وهي حالة علمية تطورية يحدث فيها انفصام التوازن".

وفي سياق المصطلح، وعلى نحو مواز، لكن بشمولية أوسع، يرى الباحث إدغار موران، في كراسته الصغيرة "في مفهوم الأزمة"، أنَّ هذا المفهوم، قد "عم جميع آفاق الوعي المعاصر، فلا يوجد مجال أو إشكال لا تسكنه فكرة الأزمة: الرأسمالية والمجتمع والأزواج والعائلة والقيم والعلم والقانون والحضارة والبشرية ... إلخ ". (ص 29 ترجمة بديعة بو ليلة. منشورات دار الساقي). وما يدفع المواطن، أو حتى الباحث العربي، إلى القول بأنَّ الأمة العربية تمر اليوم، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، حتى بالمعيار التاريخي، ما يمكن أن يعتبره أزمة طاحنة، هو شموليتها لمكونات المجتمع العربي من جانب، وشدتها اللامتناهية من جانب آخر.

وفي هذه الشمولية لدى موران الكثير من الدقة عند تناول الواقع العربي المعاصر، من زاوية أزمته التي يعاني منها. فعلى المستوى الاقتصادي، يلمس ذلك المواطن، وبوضوح، تآكل مفهوم التنمية، قبل تراجع خططها، أو فشل برامجها في معظم، إن لم يكن جميع البلدان العربية، بما فيها تلك النفطية، والتي توفرت بين يديها ثروات نقدية على نحو سريع، وفي فترات قصيرة نسبياً، غير مسبوقة في تاريخ البشرية. ورغم ذلك لم تتجاوز، ما أطلق عليه "تنمية"- حدود تراكم أصول نقدية غير قادرة على الصمود في وجه التآكل - جراء بيع كميات هائلة من النفط، بأسعار زهيدة - عندما يؤخذ في الحسبان القيمة الحقيقية التي يمتلكها النفط كمادة خام في الأسواق، وكسلعة استراتيجية عالمية.

ومن باب المقارنة المحضة، يجدر بنا هنا أن نقيس ما حققه النفط على مستوى التنمية العربية، مع ذلك التأثير الذي تركه النفط على الاقتصاد الأسكندنافي، رغم التفاوت في كمياته، ونوعه لصالح الطرف العربي، لكن بصماته كانت أقوى بكثير، وعلى نحو إيجابي، على الاقتصاد الأسكندنافي، من ذلك الذي نلمسه على نظيره العربي.

ما هو أسوأ من ذلك أن مدخولات النفط العربي، وبدلا من أن تتحول إلى رساميل متنامية ضخمة تخصص لخطط التنمية، أو تخصص لبرامج التطوير، وتؤسس لثقافة تنموية متطورة، اتجهت نحو الترويج للسلوك الاستهلاكي الذي تولى حرفها عن مسارها التنموي السليم، وساهم في تبخير نسبة عالية منها في سلوك استهلاكي استنزفها، وتولى تصدير نسبة عالية منها إلى الخارج. قاد هذا الأمر إلى ضجيج تنموي إعلامي مشوه ومخادع.

والأخطر من ذلك، هو ذلك التباهي غير المُبرر الذي نلمسه جلياً في الثقافة الاستهلاكية العربية التي لا تكف البلدان العربية عن الإمعان فيها، عوضا عن التأسيس لثقافة عربية منتجة تتحول بموجبها عوائد ومدخرات النفط من مادة للتباهي إلى أصول للتنمية الحقيقية.

ما هو أسوأ من ذلك، وبعيدًا عن الأزمة التي تعاني منها خطط التنمية العربية، وجدنا تحول "الازدهار" القائم على سيولة نقدية "لزجة"، غير متماسكة بالمفهوم التنموي لتعبير "متماسك"، الذي عرفته إمارة دبي، إلى النموذج الناجح، غير القابل للمناقشة الذي أصبحت تحلم به الدول العربية الأخرى، بما فيها تلك الكبيرة منها، وذات الثقل الاقتصادي، والتي تمتلك مقومات سكانية واقتصادية راسخة، تؤهلها لدخول حلبة تنمية مجتمعية متكاملة، بالمعنى الحقيقي لكلمة تنمية.  ومن الخطأ القاتل، وغير العادل، والبعيد عن الموضوعية، تحميل دبي مسؤولية "تقزم" الطموحات التنموية العربية إلى "النموذج الدبوي"، إن جاز لنا التعبير. فقد نجحت دبي، في نطاق الظروف المحيطة بها في أن تحقق إنجازا اقتصاديا غير مسبوق، لكنه لا يشكل في جوهره، ولا مضمونه نموذجا تنمويا يمكن أن تحتذي به الدول العربية الأخرى، إن هي شاءت الوصول إلى مستوى تنموي، كما هو متعارف عليه دوليا.