آن الأوان لتغيير مفاهيمنا عن التعليم (5)

د. صالح الفهدي

الشهادات ليست مقياسا للكفاءة

بدأت مجتمعاتنا تعاني من أضرار مفهومها الخاطئ باعتبار الشهادة دليلاً أوحد على الكفاءة، والأفضلية، وذلك من خلال تعيين حملة شهادات جهلة بالمقياس العلمي؛ كونهم حصلوا على ورقة فارغة لم يشقوا عليها، بطريقة من الطرق، إمّا بالشراء من الأكشاك المنتشرة في دول معتبرة، أو بالغشّ والتحايل..! كما قطع الكثير بفضل هذه الشهادات/الأوراق، والألقاب طريقهم نحو تبوُّء مناصب مهمّة، وبهذا سيتاح لهؤلاء المرتدين أثواب العلم، والمتفاخرين بشرف الانتماء إليه -وهو بريء منهم- القدرة على صناعة قرارات المجتمعات التي يديرون دفّة المسؤولية فيها!

الشهادة لا تصنع متعلما، إنّما الخبرة هي التي تصنعه؛ لهذا فكم من حامل لأعلى الشهادات وهو جاهل، وكم من لا يحمل شهادةً وهو متعلِّم، يقول الأديب مارون عبود: دخلت الجامعة وأنا جاهل بلا شهادة.. وتخرجت منها وأنا جاهل صاحب شهادة".

لقد وقعت مجتمعاتنا في فخّ الشهادات الفارغة، والألقاب الجوفاء، فأدرك بعض الممتهنين لمهن معيّنة أن أفراد المجتمع سيرجّحون كفّة التعامل معهم إن كانوا من ذوي الألقاب العلميّة، وإن اشتروها من الأسواق بأثمان بخسة؛ فالمهمّ أن تتزيّن اللوائح بالألقاب لتصبح مصيدةً للمتعاملين.

في حين أنَّ هناك مِمَّن لا يملك شهادةً علميّة، هو أجدر بالتعامل معه لخبرته الواسعة، وكفاءته السديدة، بيد أنّه وجد نفسه -في مجتمع واقع في وهم الشهادات- صاحب بضاعة زهيدة لا تجد لها رائجاً.

وفي السياق ذاته، لم يفرّق المجتمع بأفراده ومؤسساته بين متعلّم أضنى روحه بالدارسة كدحاً، وكداً في جامعة مرموقة تغرّب لتحصيل العلم منها سنين طويلةً مكافحاً ومجاهداً، وبين آخر تلقّاها بأيسر الطرق، وأسهل الوسائل..! فوضع الاثنان في كفّتي ميزان على نحو متساو دون تمييز، فكلاهما -في نظر المجتمع الموهوم- يحمل الورقة نفسها التي تثبت المستوى ذاته!

المؤسسات الحكومية وقعت في شرك الشهادات، ظانّةً أنها بابتعاثها لمجموعة من العاملين لديها ستطوّر من أدائها في حال حصولهم على شهادات علمية تكتسب دون خبرة، غير أنها لا تلمس التغيير، على أننا هنا بالطبع لا نتطرّق إلى العوامل الكابحة للأفكار الجديدة كسبب من أسباب تعطيل حملة الشهادات من تطوير الأداء، وإحداث التغيير.

إنّما الأصوب والأجدى من وجهة نظري أن تشرك المؤسسات العاملين لديها في دورات عمليّة مكثّفة و"مفصّلة" يجنون من ورائها خبرةً تتقصّد رفع القدرات والمهارات الذاتية من أجل تطوير الأداء المؤسسي.

أرجو أن لا يساء فهم ما حاولت أن أبيّن فكرته حول المفهوم الخاطئ الذي يجعل الشهادة لوحدها مفتاحاً للوظيفة، فليس هذا تقليلاً من قيمة الشهادة وأعني بها الشهادة التي تُنال عن استحقاق علميّ، إنما القصد أنّ الشهادة وحدها -رغم ما تمثّله من قيمة علميّة- لا يمكنها أن تكون مقياساً للكفاءة. وأضرب هنا مثلاً بإحدى مؤسسات القطاع المصرفي حيث أعلنت عن رغبتها في توظيف عدد من الكوادر سينضمّون لاحقاً لبرنامج تدريبي لمدّة عامين، تهدف من ورائه لإعدادهم كي يتبوأوا مراكز مرموقة فيها. لقد كانت الشهادة مدخلاً أولياً لقبول المترشّح بيد أن المتقدمين للوظائف مرّوا بمراحل تصفية، تلقوا خلالها سلسلة اختبارات تتعقّد وتزداد عمقاً في كلّ مرحلة متقدّمة، شاملةً اختبارات الذكاء، والقدرات القيادية، والمميزات الشخصية، واتخاذ القرارات، والقدرة على تحمّل المسؤولية، وغيرها من الاختبارات المختلفة التي كلّفت بها شركة مختصّة حتى انتهى الأمر إلى اختيار 15 مترشحاً، من 4000 يحملون المستوى التعليمي نفسه!

يقول شكسبير: "الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم، لكنها لا تثبت أبدًا أنك تفهم"، لكنّ مجتمعاتنا أخطأت في مفهوم اعتبار حامل الشهادة (فاهماً)، و(مثقفاً)؛ الأمر الذي أوقعها في فخّ الجهّال الذين يتدثّرون برداء العلم، من أجل التزلّف في المناصب، وتكسّب الوجاهات التي لم ينالوها بغير الانتساب للعلم، وهم أوضع الناس خلالاً، وأخسّهم أخلاقاً!

أخبرني أحد الباحثين الذين أوكلت لهم إحدى الجامعات مسؤولية مقابلة المتقدمين من حملة الشهادات العليا ليكونوا محاضرين فيها، يقول: كثير من المتقدمين لا يملكون أدنى معرفة في مجال تخصصاتهم، وأمام دهشتنا وصدمتنا يطلبون منّا السّتر عليهم!

ولا أرى مقولة الشيخ علي الطنطاوي -رحمة الله عليه- إلا مما يحق الاستشهاد به في هذا المقام، إذا قال: "أنا لا أذم الشهادات ولا أحقّر الدكتوراة، لكنها كلما كثرت وانتشرت رخصت بعد عزّ وهزلت حتى سامها كل مفلس. ولكني لم أكن أتصور أنها تنزل إلى هذه الدركة الدنيا! وأنا أعلم أن من الدكاترة علماء نالوها بحقّ وكانت شهادة عدل لا شهادة زور، ومنهم من نالها ببعض الباطل، أعدّ بحثًا عن شاعر مثلاً، فألمّ بجوانب حياته ودرس شعره وجمع أخباره وأورد ما قيل فيه وما قاله، ولكنه لم يعرف من شعراء عصره غيره، بل هو لا يستطيع أن يقيم لسانه بأبيات له، وإن هو قرأها لم يفهمها، وإن هو فهمها لم يقدر أن يشرحها"، وإذا كان هذا كلامه قبل عشرات السنين، فما قوله اليوم والوضع قد ازداد سوءاً، واتسع فيه الشقّ على الراقع؟!

الشاهد في الأمر، أنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى تصحيح مفهوم "الشهادة مقياس للكفاءة"، فهي تمهيد لها -إن كانت شهادة حقّ لا شهادة باطل- ولا يصحح المفهوم إلا باعتماد أسس أخرى للكفاءة مقدّمة على الشهادة، ومتصدّرة عليها، فالمجتمعات لا تقاد بالأوراق وإنّما بالعقول الخلاّقة المبدعة.