وليد أبو بكر الخروج عن السائد في رواية الوجوه


أمين دراوشة | ناقد وأديب فلسطيني

اتجه الكتاب الفلسطينيون صوب كتابة الرواية، كوسيلة أفضل في تناول تجربة الشعب الفلسطيني القاسية والثرية. ورأى الكتاب أن الرواية هي الشكل الأنسب، لما لها من قدرة عظيمة على التعبير عن المعاناة التي تخلفها المصائب المختلفة، وعلى التوغل في النفس البشرية والبحث في أحلامها ورغباتها وكوابيسها وتصويرها.
استوعب الكتاب الفلسطينيون أهمية الرواية وتأثيرها الكبير على الإنسان، فتناولوا فيها موضوعات عدة كان أبرزها الصراع مع المحتل الصهيوني، وما رافقه من مذابح وتشريد وسجن وبطولات الشعب في مواجهة غطرسة الاحتلال، وبطشه الذي لا يرحم.
غير أن الكاتب وليد أبو بكر في روايته (الوجوه)، أخذ منحى مغايرا في روايته. صحيح أن صراع الشعب الفلسطيني مع الأنظمة العربية ونضاله ضدّ الاحتلال هو محور الرواية وعمودها الفقري، إلا أن بطله كان من نوع آخر، إنه البطل السلبيّ الذي يلتحق بسلك الشرطة في الحكومة قبل عام 1967م، ويمارس العمالة والخيانة مع قدوم الاحتلال الصهيوني.
شخصية شريف الزوري، بطل الرواية، تنمو وتكبر دون تدخل من الكاتب، فتكون له شخصيته التي تفكر وتحكم وتملك طموحا لا حدود له، وهو يسعى بكل السبل إلى الوصول إلى ما يرغب فيه، حتى وإن  داس في طريقه كلّ من أحب.
ولد شريف لأب يعشق الأرض، ولا يرى في حياته هدفا غير الاعتناء بها، وأمّ تحنو عليه وتعتني به لدرجة المرض، فقد كانت تخشى عليه كثيرا، فمنعته من مصاحبة والده إلى الحقول كالأطفال الآخرين، وعندما كان يشتهي بعض الخضرة البرية، كانت أمه تتكفل بإحضارها له، فتحضر "الصّيبعة والشحّيم، وتنظفه، وتضعه في فمه".(1) كانت تخاف عليه من ضربة شمس أو لدغة أفعى.
وبعد أن كبر، صار والده، يتمنى لو أن شمسا ضربته، أو أن أفعى لدغته ليرتاح منه، لأنه جلب له العار.
أفسدته الأم بتدليعها، والأب اتهمها كما يقول شريف: "بأنها حوّلتني إلى أنثى مثل شقيقتي حورية، وكثيرا ما ناداني باسم شريفة" (ص 14). وكان يلجأ إلى حضن أمه كلما ضايقه والده.
نحن بصدد شخصية تعاني من أزمات نفسية متشعبة، تجعل صاحبها يمارس كلّ الأفعال القبيحة مع تبرير ذلك لنفسه من أجل الوصول إلى مبتغاه.
تزوّج شريف من فتاة أحلامه (ابنه المختار)، ولكنْ في صعوده المستمرّ في عمله، يحدث شرخ في علاقته مع زوجته، التي ترفض عمله، وإن كانت تقف إلى جانبه في مرضه، وعندما يشفى ويعاود الالتحاق بعمله كعميل لدى الاحتلال، تنفجر العلاقة وتتركه وترحل.
أنجب ابنته البكر (نبيلة)، التي تقف إلى جانب والدتها بمجرّد أن تبدأ بالوعي، وترفض عمل أبيها. وتتركه لكي تتزوج الفدائيّ نديم الكفراوي، وتلتحق بالثورة، وتتبرأ من والدها.
نبيلة هي الشيء الوحيد في العالم الذي يشعر شريف نحوه بالحبّ والعطف والأمان، بالإضافة إلى مدينة رام الله التي يعشقها بطريقته الخاصة.
كما أنجب ابنه (نبيل)، الذي لم يحظ باهتمام كبير من والده، فانحرف وأخذ يقضي وقته مع شلة من الشباب والفتيات، يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات، وكما يتبين من الأحداث، فأن المخابرات الإسرائيلية كانت تسهل للشباب الفلسطيني الحصول على المخدرات من أجل تجهيله بقضيته وتحطيمه وتدميره.
يقبض على نبيل من قبل جيش الاحتلال لتواجده مصادفة بالقرب من مكان عملية فدائية، فيستدعى والده ويطلب منه تسفيره إلى أمريكا على أن لا يعود مقابل عدم محاكمته. ويستمرّ هناك حتى ينساه الجميع.
ومن شخصيات الرواية الرئيسية جميل الحيّاني، المدرس والمثقف الفلسطيني، الذي يقود العمل الثوري، ويعتقل ويعذّب، ويستمر في حلمه حتى ينجح في تحقيقه، بإطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة.
ومن الشخصيات السلبية حامد أبو رسن، ضابط الحكومة الكبير الذي يفعل أي شيء للمحافظة على منصبه، ويستغل شريف الزوري للقيام بالإعمال القذرة، وينتهي به الحال بعد احتلال الضفة الغربية إلى الهرب عبر الجسر، ويقال إنه دبّر له حادث سيارة قتل فيه.
أما شخصية الآخر الإسرائيلي، فنجدها ممثلة بالحاكم العسكري لرام الله، الذي يبدأ عمله شديدا صارما، وواثقا من نفسه ومن جيشه. وينتهي به المطاف خائفا، ومرعوبا على المشروع الاستيطاني الاحتلاليّ، لأن الشعب الفلسطيني لا يغادر، بل يتوالد ويتوالد، ويقاوم ولا يموت.
وفي الرواية لم "يخضع الروائي لما ترسمه يد السياسيّ في الخريطة الجغرافية"،(2) وكان تم التأسيس لهذا الفكر على يد الكاتب الفلسطيني ""أميل حبيبي" في (أخطية) و(سرايا بنت الغول) وتبعه "وليد أبو بكر" في (الوجوه). والهدف تثبيت المكان الفلسطيني وأسمائه للحفاظ على الذاكرة للأجيال القادمة". (3)
وكان استخدام الكاتب أسلوب "التذكّر والربط بين الماضي والحاضر ناجعا، أمد النص بروحية الحركة والدفء، إلى جانب تصوير الواقع بصورة صادقة ومعبرة إلى حد بعيد، ما جعل بعض الحقائق تكون دافعة لا تحتاج إلى تفصيل أو اجتهاد"(4).
وسوف أتناول في السطور المقبلة شخصيات الرواية بالدراسة والتحليل، من أجل الوصول إلى صفات الشخصيات الفلسطينية المتنوعة، والطريقة التي نظر بها الفلسطيني إلى الآخر الإسرائيلي.


الأم الرافضة للخيانة تنجب الابنة الثائرة:   
 لم يحب شريف الزوري أحدا في حياته، كما أحب نبيلة ورام الله، فقد قضى سنوات من عمره يبحث عن طريق توصله إلى رام الله، ونجح أخيرا في تحقيق بعض أحلامه، فتزوج ابنة المختار وأنجب منها ابنته نبيلة، التي حظيت بالرعاية والاهتمام الكبير منه. يقول معبرا عن حبه غير المحدود لرام الله وابنته: "ازدادا حبّي لبطن الهوى، ولرام الله، وأنا أرى ابنتي تتفتح على هوائها النقي مثل وردة"
(ص 17).
وقدم لها كل ما تشتهي وترغب، فبعد عمله في الحكومة قبل عام 1967م، تحسن وضعه المادي كثيرا، وأصبح يذهب إلى المحلات المختلفة ويختار ما يشاء دون أن يدفع، لذلك يقول: "فامتلأت خزانتي وخزانة ابنتي بالملابس" (ص 23).
وكانت الزوجة تعبر عن رفضها لكل ما يجلبه، لأنها رافضة عمله بالمطلق، فعاقبها كما يظن، بحرمانها من النعمة التي يتمتع بها!
هذه الأم استطاعت التأثير على الابنة، التي كبرت وبدأت تعي خطورة ما يقوم به والدها من أعمال لا تخدم قضية الوطن. واصطدمت بحادثة عكّرت الأجواء بينها وبين والدها، وأحدثت فجوة لن ينجح في ردمها: لقد اعتقل والد أحدى صديقاتها، وكانت نبيلة تعرفه شخصيا، وعذّبه.
هنا يشعر شريف بالحيرة، ويتساءل عن السبب الذي يجعل الناس يكرهونه، حتى أقرب الناس إليه، ولكنه يفشل في إيجاد التفسير، ويقول: "يحز في قلبي وجه نبيلة الشرس، ووجه أمها، الذي عرف الغضب أخيرا" (ص18).
تفتح ذهن نبيلة، وبدأت تفهم معنى النضال والمقاومة على يد المدرس المقاوم جميل الحيّاني وزملائه. وعندما يكتشف شريف علاقة ابنته مع الشباب والشابات ومن بينهم جميل، يغضب ويسألها: من أين تعرفينه؟ فتجيبه بكل عنفوان: "هل يوجد أحد في رام الله لا يعرفه؟" (ص53).
وتضيف: جميل محبوب من جميع الناس، فهو يساعد الجميع دون مقابل، ويحبّ وطنه دون حدود. وسيحقق الحلم التي عجزت الجيوش على تحقيقه، و"الناس قادرون على حماية أنفسهم لو توفر لهم السلاح" (ص60).
وجميل مثل جميع أمثاله كان وفيا ومخلصا في علاقته بمن حوله، لذا لا يشعر بالخوف، أمام "من يستفيد من بقاء الناس في المذلّة، وتحت رحمة العدو، ولذلك تصبح المقاومة مشروعة" (ص60) .
ويهتاج شريف ويخرج عن طوره ويصرخ قائلا: "من يقاوم من؟ إنهم بين المطرقة والسندان، وما يفعلونه مجرد تخريب، يجب أن يمنع بالقوة" (ص60).
فما كان من شريف الزوري إلا أن اعتقل جميل ورفاقه وتفنن في تعذيبهم ومحاولة إهانتهم. وقال لابنته بلهجة قاطعة: سيظل السجن مشرعا! لتسأله بتهكم: ولكن إلى متى يبقى هذا الحال؟
ودفع ثمنا باهظا لذلك، إذ صار يرى الكره في عيون حبيبته نبيلة، وهو يعبر عن ذلك قائلا: "كانت الكراهية في عيني نبيلة قاتلة" (ص58).
وأصبحت نبيلة ترفض أن يعاملها الناس بكونها ابنة شريف الزوري، وتطالبهم بأن يعاملوها لشخصها "لا من خلال والدها الذي لم تختره" (ص40). ثمّ قامت في تحد واضح لوالدها، بزيارة والد صديقتها الذي اعتقل وعذب من قبله.
ويتذكّر شريف ابنته وهي صغيرة، وكيف كانت تكبر أمامه ويتحدث عن ذلك، قائلا: "وأكبر بها وأنا أحسّ بأنها السعادة الوحيدة لي داخل المنزل. كانت تركض إليّ عندما أدخل، وتبحث عما حملته لها.  وتقبلني، فأحسّ بأنني أمتلك العالم" (ص40) .
كل هذا لم يدم، فنبيلة تغيرت و"بدأت تغيب عني بحجة الدراسة، ثم بدأت تطرح الأسئلة التي أكرهها"
 (ص40).
ثم انقطعت العلاقة بينهما إلى الأبد، وهو يقول بألم: "نبيلة كانت حبيّ، وكانت عذابي، كلّ شيء عالجته، إلا ما جاء منها" (ص41).
كان فيها الكثير من صفات جدها، وخصوصا العناد، وعندما حاول في أحد المرات إعادة علاقته بابنته، بأن عرض عليها توصيلها إلى المدرسة، رفضت بشدّة، فلجأ إلى أمها لتحاول إقناعها، فأجابته: "إنها تخجل من أن تراها زميلاتها معك" (ص47).
وبعد أن استطاعت إسرائيل احتلال ما تبقى من فلسطين في العام 1967م، اختفت نبيلة، وبعد فترة ليست طويلة، شرعت الثورة الفلسطينية القيام بعمليات فدائية ناجحة، أذاقت العدو الخوف والألم، فلم يجد الحاكم العسكري بدّا من استخدام شريف، مع تركيزه على تعنيفه ومحاولة تشويه صورة ابنته التي لم يعرف حبه طريقا إلا إليها. فكان يحاول استلابه حتى آخر قطرة دم، وهو يخبره بأنها تعيش مع المخرب نديم الكفراوي في الأردن، وأنه إذا لم يحضرها إلى إسرائيل فسيناله العار، أو عليه على الأقل إجبارها بالتخلي عن الأعمال التخريبية، وإلا ناله العقاب.
يسافر شريف في محاولة لإعادة ابنته. ويقبض عليه رفاق جميل هناك، فيبقيه معتقلا لشهر، يقوم بعمل الشاي والقهوة عند الذين عذبهم من قبل، ولا ينسى جميل تذكير شريف بذلك عبر إعطائه فلقة بالعصا من قبل رفاقه. ومن ثم يطلق سراحه.
يرفض شريف المغادرة قبل رؤية ابنته، ويخبره جميل أنها لا تريد رؤيته، وعندما يصمم على ذلك، يعطيه جميل عنوان سكنها.
يذهب أملا في أن يراها، لكن الحراس يصدونه عن الباب، فيصرخ طالبا رؤيتها. تخرج من بيتها، وتدنو منه، وتخاطبه قائلة: "نعم، ماذا تريد؟" (ص161).
يرد قائلا: أنا والدك، وبحاجة لك.
فتقول بصوت بارد دون مشاعر: "ليس لي والد" (ص161).
 وعندها يغضب، قائلا: أنا والدك ومن حقي كأب..
فتقول: "هذا لو كنت أبا" (ص162).
ويأخذ يستعطفها، ويقول لها إنك لا تستطيعين أن تنكري أني والدك، فترد بحدّة: "حين تكون عاري، يكون من حقي ألا يكون لي أب، حين تجيء من أجل أن تمنعني من أداء واجبي، عليك أن تحمد الله، لأنك بقيت حيا" (ص162).
وتضيف: لن أشكر رفاقي على ذلك، لأنك لا تهمني، بل كنت خائفة عليهم من غدرك وخيانتك.
وحين أخبرها عن مدى خوفه، لأن كل الوجوه هنا تترصده، قالت: "هل تريد أن تحصد عير ما زرعت؟" (ص 162).
ويرحل ذليلا يهذي، يمشي في شارع مضيء يوصل إلى شارع آخر مظلم، يختفي فيه، قائلا لنفسه: "عليّ أن أبحث عن زاوية معتمة أختفي فيها" (ص168).
واستمرت نبيلة ورفاقها في النضال، الذي أوجع الاحتلال وعملاءه، وتوّج نضالهم باندلاع الانتفاضة الفلسطينية من رحم المقاومة.


جميل الحيّاني الفلسطيني المقاتل، وصاحب الحلم النامي في حضن الشمس:
ينتمي جميل الحيّاني إلى أسرة ريفية كبيرة، توزّعت في مجموعة من القرى الحدودية بعد أن استولى الاحتلال على أراضيها. اهتمت الأسرة بتعليم أبنائها، لأن الجهل كان أحد أسباب الهزيمة الكبرى في العام 1948م. لذلك لجأ أغلبية الشعب الفلسطيني لتحصيل العلم، باعتباره أحد الطرق إلى تحقيق الحلم بالعودة المظفرة إلى فلسطين.
وجميل هو المدرس الجديد القادم إلى رام الله، والذي يمتلك الثقافة والحسّ الوطني. ولم يكد يقضي في رام الله بضعة شهور، حتى باتت رام الله كلّها تعرفه.
يقول شريف الزوري عنه: "أحبه طلبته، وأحبه أهلهم، فانتقل الحبّ إلى الجميع، جميل الحيّاني، بسبب روح الحبّ التي ينشرها، صار ـ بالنسبة لنا  ـ موضوع شبهة" (ص44). إن له تأثيرا عميقا على الناس، عدا أنه صاحب أخلاق ومبادئ، وهو "شاب يلفت النظر بطوله وصحته، وبخطواته القوية فوق الرصيف، وبحركة عينيه وهما تحاولان الاستطلاع" (ص48). وهو يقيم علاقات مع كل الناس، "لا يفرق بين بريء ومشبوه. ولا بين مشبوه ومشبوه..وكأنه يرى نفسه فوقهم جميعا" (ص49).
المصادر الخاصة للحكومة، تقول: "إنه لا يتحدث إلا عن فلسطين" (ص49)، والتقارير الواردة حوله كلها تشير إلى أنه يبدو "نشيطا جدا، قادرا على الاتصال بالناس، وكسب ثقتهم. وهو حذر جدا، يخفي نشاطه وراء شبكة واسعة من العلاقات..ويقول التقرير إن كل الرقابة التي حاصرته لم تستطع أن تثبت شيئا، رغم أن الجميع على ثقة من أنه يفعل شيئا خطيرا" (ص45)، فحديثه إلى الناس له نغمة خاصة ومميزة، تنبئ بما يزعج، ويعرف شريف هذه النغمة جيدا، فهي "نغمة الناس الذين ينظمون أنفسهم ويتسلحون" (ص50)، لمقاومة ما يعتقدون أنه سبب الهزيمة والنكبة.
أخذ شريف، ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على جميل ورفاقه، انتقاما منه لأنه تسبب في تلويث عقل ابنته الحبيبة، وجعلها تنفر من عمله وتنبذه. وبعد أن اعتدى جيش الاحتلال على بلدة حدودية، وخرجت المظاهرات للتنديد ورفض العدوان، جاءت الفرصة المنتظرة، فتمّ اعتقال كثيرين، ومن ضمنهم جميل، وأذاقه شريف مختلف ألوان التعذيب، ليكتشف أثناء الانتقام منه وتعذيبه "أن ابتسامة جميل الحيّاني، لم تكن تظهر عند الحاجة إليها ـ كانت تتسع فقط ـ لأنها دائمة، ولأن شيئا ما كان يربطها بداخله، بشيء يقول إنه الكرامة، ويقول إنه الثقة بالمستقبل، بشيء كان يشعرني بأنه أقوى مني، وهو بين يدي" (ص57).
جميل البطل الفلسطيني المقاوم والمثقف، يظهر قويا ومتماسكا وهو تحت السياط، يعينه على الصمود إيمانه بالغد الجميل. وبعد أن ترزح الحكومة تحت الضغوط الشعبية، تطلق سراح الشباب، ويتأثر شريف لأن جميل سيرجع إلى الشارع، "كبيرا هذه المرة، واضحا كزعيم" (ص62). ولم تمض فترة طويلة، حتى التف الشباب حوله، وظهر السلاح بين أياديهم.
جميل إذن يتصف بالشهامة والإقدام والالتزام بقضية شعبه ويفعل ما يقول. وتقول نبيلة لأبيها عن ذلك "هو لا يقدر على الغدر، وحين يفكر بالإقدام على عمل، فأن ذلك يكون معلنا من قبل، وهو رجل منضبط" (ص64).
وهناك ما يشير إلى أن ثورة ستنطلق، فالشباب الفلسطيني الرافض للنكبة، شرع يحمل السلاح، مؤمنا بأن الحقّ لن يعود دون أن يتسلح بالقوة.
يحظى جميل بالحب والإعجاب من الجميع، حتى أنيسة التي ارتمت في أحضان العقيد حامد أبو رسن، وبعد هروبه في العام 1967م، لجأت إلى حضن شريف، عبرت لشريف بطريقة مواربة أكثر من مرة عن رغبتها فيه، ما جعله يزداد حيرة، ويسأل نفسه: "ما الذي يملكه جميل الحيّاني، ولا أملكه، وأنا أملك رام الله دون منازع" (ص84 ).
وبعد احتلال رام الله من قبل الإسرائيليين، وانخراط شريف في العمل معهم، يعود لأنيسة بعد انقطاع، وفي بيتها يسمع اسم جميل لأول مرة بعد الاحتلال، وتقول له: إن اسمه يتردّد في كل مكان في العالم كبطل للمقاومة.
يخاف شريف ويحدث نفسه: "جميل الحيّاني لم يكن شخصا عاديا إذن. جميل الحيّاني يرتفع كاسم يقود. جميل الحيّاني لم يمت، ولم يسجن، ولم يخن وعده، إنه يبني شيئا جديدا ـ كنا نحسّه ونقاومه ـ في زمن لم يعد أحد فيه قادرا على البناء" (ص114).
في لحظة صدق نادرة، يعبر شريف الزوري عن إعجابه بجميل، ويغدق عليه كثيرا من الصفات الإيجابية، ويحسده على ما وصل إليه، وعندما تقول له أنيسة: "من يستطيع أن يصدق أن هذا الرجل البسيط الذي عرفناه جميعا، يملك بين يديه كل هذا الطموح إلى المستقبل؟" (ص114).
شعر بالقلق: "إنهم يحلمون، فإذا كانت الجيوش القوية لم تصمد، فهل يصمد بضعة رجال؟" (ص114)، ولكنه بعد فترة، بدأ يشعر بقوة المقاومة، فالحاكم العسكري لرام الله، الذي ظهر بادئ الأمر لشريف صارما، وقويا، ومبتسما، وساخرا من المقاومة الفلسطينية، وواثقا من قدرته على وأدها، أصبح عصبيا، ومكشرا، وخائفا، وغابت الثقة في كلامه. وهنا يتذكر شريف ما قاله جميل: "هل تتصور أنهم مرتبطون بشيء. إنهم إذا خافوا سيهربون إلى المكان الذي جاءوا منه" (ص116).
يسافر شريف إلى الأردن، بناء على طلب الحاكم العسكري في رام الله، ليحضر ابنته، ولكنه يقبض عليه ويقابل جميل، الذي يأمر رفاقه الذين عذبهم شريف قبلا بضربه فلقة بالعصا، كتذكير له بما ارتكبه من جرائم. وترجع الصورة بشريف إلى الأيام التي اعتقل فيها جميل، وأطعمه مختلف صنوف التعذيب من الصفع إلى الجلد إلى وضع وجهه في التبن وبراز الخيل إلى جلب عملاقين "كانت قدم عملاق تضغط على رأسه، وقدم تضغط على ظهره" (ص147)، فيطلب شريف منهما أن يزيدا، لأنه يشتهي أن يسمع آلامه، ويعبر عن ذلك قائلا: كنت أريد "أن أسمع آلامه بقوة، وكانت ابتسامته لا تزال، كانت ركلتي في الوجه تحاول أن تشوّه هذه الابتسامة، ازدادت حماسة العملاقين، وتفننا في الضغط والقفز فوقه" (ص147).
مع انهيال السوط القادر على أن يخترق اللحم، لم يصدر عن جميل أي أنين أو صرخة، "وظلت ابتسامته تملأ وجهه، وكأنها جزء منه لا يمحى" (ص148)، حتى شعر العملاقان بالتعب، وتعب هو. وجميل لم يظهر عليه التعب، ويقول شريف: "جميل الحيّاني ظلّ يعذبني، ويعذب الذين تناوبوا عليه"
( ص148)، فما كان منه إلا أن ربطه بالجيب العسكريّ وسحبه، وغطى الدم جسده كله، و "لكن ابتسامته وحدها كانت تشع من وجهه متحدية كل ما يغطيه" (ص149).
وبعد مكوثه عدة أيام في الاعتقال في معسكرات الثورة بدأ شريف يشعر بالندم لأنه حاربهم، وعرف أنهم يريدون وطنا أضاعه غيرهم، وأنهم قرّروا تحمل المسؤولية، وأن يغيروا الواقع المزري الذي وجدوا أنفسهم فيه. ويقول: "كان اليأس من كل ما حدث هو الذي فتح لهم باب الأمل الجديد، فقرروا أن يواجهوا عدوهم" (ص151).
ويطلق سراحه، ويعود ذليلا وخانعا إلى رام الله، ويبدأ يهتمّ بالأخبار المتعلقة بالمقاومة وشراسة الاحتلال في محاولة قمعها، وفشله في ذلك. ويتذكّر صوت جميل ونبيلة، وهما يقولان له: "إن الناس لا يموتون، والحق بهم لا يموت أيضا" (ص153).
وكان هو يسخر منهم ويستهزئ ويضحك متسائلا عما يمكن أن يحققوه، إذا كانت الجيوش الكبيرة انكسرت، ولكن "حين انهار الحلم، ظلوا يحلمون" (ص153). وبعد حين أحس بالدهشة، وشعر "أن حلمهم يكبر" (ص153). وبعد تجاربه المريرة، يقتنع "أنهم كانوا يعرفون ما يفعلون، وإلى من يستندون حتى يحققوا حلمهم. الآن أعرف أنهم كانوا يتطلعون إلى صحوة ما، وأن الصحوة حدثت، وأن أية خطوة إلى الوراء لن تكون، لأنها ستكون الموت، وهم قاموا الموت، وما زالوا ضده" (ص154).
وينفجر الغضب الشعبي في وجه الاحتلال الإسرائيلي في رام الله ونابلس وغزة وفي كل مكان، وكل الناس يشاركون في المقاومة في المدن والقرى يواجهون بصدورهم العارية النار، ويتساءل شريف: هل "يستطيع أحد أن يقف في وجه كلّ الناس؟" (ص181). وكشفت الانتفاضة الفلسطينية العظيمة في العام 1987م عن قوة شعب لا حدود لها، وعن إيمان لا يتزعزع بالنصر، وهزيمة أبغض وأقسى احتلال في العالم.


شريف الزوري والطريق إلى الجحيم:
تربى وهو محاط بعناية فائقة غير عادية من والدته، التي كانت تخاف عليه كثيرا، فتقدم له الحماية من كل شيء، من التعرض إلى الشمس، ومن المدرسة التي لا يحبّها، وتشكل عبئا عليه فيتركها. ونتيجة لهذه الرعاية، أصبح يخاف من عدة أمور: يرتعب من أفعال والده، الذي يحضر إلى البيت حية قتلها. ويقول شريف عن ذلك: "ويأتي يلاعبني بها فأهرب، بينما يتجمع أولاد الجيران حوله ليتفرّجوا عليها. ويضحكون من خوفي" (ص69). وهو يعيش في خوف دائم، يرهبه سماع صوت في الليل خوفا من ضبع يأتي إليه ويلتهمه رغم إن والده لا يخشى الضباع، بل يدخل عليها في مغاراتها. وسوف ينعكس عليه الشعور بالخوف مستقبلا، ويؤدي به لارتكاب أخطاء قاتلة.
وعندما كبر، ومرّ بأزمات حادة، تذكر خوفه السابق، وأرجع السبب في تهاوي حياته إلى الأحداث التي خاف منها، وهو يقول عما سببته له هذه الأحداث: "وارتجفت، وعرقت، وبلت في ملابسي، وأسرعت والدتي إليّ بطاسة الرعبة واقتنعت بأنني رقيق، وأن صحتي لا تحتمل، وأن أعصابي خفيفة، حتى أقنعتني بذلك" (ص69). وصار يبرّر كل ما يفعل، بأنه رقيق وهش، فالليل بارد ومخيف، والشمس تجعله يمرض، والواجبات الدراسية ترهقه، "والحياة كلها داخل المنزل، وعند حضن الأم" (ص69). وعندما كان والد يعترض، ويسأل زوجته، لماذا لا يفعل ما يفعله أولاد الناس؟ كانت تجيبه: "ابنك غير أولاد الناس" (ص69)، حتى بدأ شريف يؤمن بأنه يختلف عن الآخرين، وأن طريقه في الحياة مختلفة.
تملكت شريف رغبة عارمة في الالتحاق بسلك الشرطة الحكومية (قبل العام 1967م)، ويقول عن هذه الرغبة التي جعلت والده ينفر منه ويبعده عنه، أنها كانت المهنة التي لا تحتاج إلى شهادة مدرسية، التي لم أستطع الحصول عليها، أو "بسبب البدلة الرسمية، أو بسبب الهيبة التي كان يتمتع بها الشرطي في قريتي الصغيرة" (ص13). الوالد لم يعد قادرا على تحمل ابنه، لأنه كره عمله كشرطيّ، واعتبره خيانة للوطن والأرض التي قضى عمره يزرعها ويحرسها ولا يعرف طعما للحياة إلا إذا رآها مليئة بالثمار.
ويتذكر شريف، عندما اضطر إلى العودة إلى قريته للمرة الأولى بعد مغادرته إياها لفترة طويلة، لأن الظروف تطلبت منه الاختباء، أنه أجبر على رؤية وجه والده "وهو يشتم اليوم الذي أنجبني فيه، لأنه يعتبرني عارا عليه" (ص11). وكان هو يسخر ويضحك من هذا الكلام الفارغ، ويعتبر زمن والده ولّى وأنه لا يفقه شيئا بالدنيا، ويملك وجها لا يكف عن العرق، ويدين خشنتين "من حمل الفأس، رغم أنه يعتز بهما ـ فأضحك ـ حين يقارنهما بيدي الناعمتين اللتين تحسنان الاصطياد، ولا تحسنان التعامل مع الآخرين" (ص11).
وفي أكثر من مرة وصف الأب ابنه بأنه قضى وسيقضي حياته مختبئا كالفأر، ولكن شريف كان يهزأ في سرّه من هذا الوصف، وكان يقول: "أعرف أن الأيام المقبلة لن تكون سوداء، وأن غيري هو الذي سيحاول الاختباء" (ص11).
الوالد الذي تركت الأيام علامات يعجز الزمن عن محوها في ظهره لطول انحنائه، وهو يعتني بأرضه، كانت أمنيته قبل موته أن يورّث ابنه الأرض والفأس وحبّها والحنو عليها، لكنه حين أقتنع أن لا فائدة مرجوة منه، وأنه لا يريد سوى الأرض وحسب، أوشك أن يتبرأ منه، ويقول شريف عن موقف والده هذا، "لأنه يخاف على أرضه لو ورثتها، وأحسست بأنه يصرّ على الحياة، ويتمسك بها، من أجل الفأس قبل الأرض" (ص12).
وعندما يقتنع الأب بشكل قاطع، أن ابنه سار في طريق تبعده عن الأرض والفأس والناس، يقرر أن يبيع الأرض لابنته المتزوجة (حورية)، لأنها الأقدر والأجدر على المحافظة على الأرض ونقائها. ولا يشعر شريف بالخسارة، لأنه يسير سريعا من نجاح إلى آخر؟ النجاح الذي وقف والده في طريقه ليعيقه عن تحقيق طموحاته، لأنه كان يعتبر الطريق الذي يسير فيه خسارة شخصية له. وحتى عندما مات، ظلّ وجهه يطارد شريف في كل مرة يزداد فيها صعودا في عمله. ويتحدث شريف عن ذلك قائلا: لم "يكن غريبا أن يطلّ وجهه عليّ مع كلّ ترقية أحققها، فأحاول أن أتجاهله، لكنني لا أنكر أنه كان ينغص عليّ فرحتي" (ص12). وهو يعزو خلافه مع والده إلى اختلاف في وجهات النظر بينهما، وبالتأكيد يقول: "أن وجهة نظري هي الصحيحة، لأنني تحركت، وبقي مكانه، ولأنني عرفت، ولم يعرف" (ص13).
الأم، وبالتأثير من الأب، تبدأ فهم مدى خطورة عمل ابنها، فتعبر عن رفضها له، ويرجع شريف موقف أمه إلى إقناع والده لها بأنه يقوم بعمل لا يرضي الله ولا الرسول، و"لأنني أضرّ بأولاد خلق الله دون سبب" (ص14).
ويموت الأب غاضبا على ابنه، واصفا إياه بأنه جاسوس على أهله. ويبتعد كل الناس عن شريف، ويشعر بذلك، ففي عزاء والده لم يكن المعزون يعيرونه اهتماما وانتباها، وحديثهم كله كان موجها إلى المختار، وكأنه ابن المرحوم.
يغرق في عمله في رام الله، وعندما يتذكر الأرض، يصمم على العودة إلى قريته للمطالبة بحقه مستغلا منصبه، لكن الأخت مالكة الأرض الآن، ترفض مشاركته، وعندما يحاول الضغط عليها، تتدخل والدته المريضة التي لم يزرها منذ أمد بعيد، لتعبر بقوة عما في قلبها، وتبصق عليه وتعلن برأتها منه. ويعبر هو عن ذلك الموقف الصعب بالقول: إن بصقة والدته أعادته "إلى واقع تمنيت لو لم أعشه، وسمعت صوتها يعود كما كان أيام شبابها: أنت لست ابني، لعن الله البزّ الذي أرضعك، إنني أتمنى لو كان حليبي سمّاً حتى لا أرى هذه اللحظة، أتمنى أن أرى فيك يوما يا شريف، وأن تقف أمام أولادك كما أقف الآن، وأن يتبرأوا منك كما أتبرأ منك أمام الله وخلقه" (ص72). وتضربه بالعكازة التي كان والده يستخدمها، ويحسّ بلسعة عكازه على كتفه، لكنه يرجع إلى عمله في مطاردة الشياطين المزروعة في الأرض، والتي تعمل على تخريبها، واثقا من قدرته على إرعابها وزرع الخوف فيها والقضاء عليها.


"أنا" شريف الزوري والسادية المتضخمة:
يتفانى شريف في عمله، ويخدم رؤساءه بكل إخلاص، ويستطيع الحصول على ثقة رئيسه وحاكم رام الله العقيد حامد أبو رسن. أما اسمه فصار يثير الرعب والخوف بين الناس، وهو يقول لنفسه متفاخرا لقد "حققت في بضعة أيام ما يحتاج غيري إلى سنوات في تحقيقه" (ص31). ويشعر بقوة مضاعفة بعد اعتقال الخطرين على الأمن وزجهم في السجن، وممارسة ساديته عليهم بالتفنن في تعذيبهم، ويحس بالخيلاء والزهو عندما يسير في شوارع رام الله، ويعبر عن ذلك بقوله: "أحسست بأن قامتي صارت أطول، وأن صوت خطواتي على الرصيف صار أعلى، وأنني، بكل بساطة، صرت أحكم رام الله كما أشاء، ودون أن يرفع أحد نظره إليّ، ودون أن يجرؤ أحد على الشكوى أو الاحتجاج" (ص31). ويقوم بنشر المخبرين في كل مكان، يحصون على الناس أنفاسهم لمنعهم من أي فعل، ويضيف شريف: "كانت سطوتنا تتخذ موجات متتالية، ما تكاد موجة تفقد قوتها حتى تبدأ موجة جديدة ـ هل كانوا يتوالدون ـ تذكّر الناس بنا وبما نستطيع أن نفعل" (ص32).
وأقبل الحظ مبتسما لشريف، عندما لاحق إنسانا وقبض عليه، وحقق معه بقسوة، ويعبر عن اندهاشه أن المشبوه لم يستخدم مسدسه وقد كان قادرا على قتله، فيجيبه المعتقل: "أعتقد أن لديك أطفالا" (ص33). ويضحك شريف على الإجابة الساذجة. كان الرجل صيدا ثمنينا، لأنه كان ملاحقا من السلطات منذ فترة طويلة، ونال شريف إعجاب رئيسه ومن هم أكبر منه وبعد هذا النجاح، قرر أن ينتقل من بيته المتواضع إلى بيت أوسع وأرحب، لكن البيت الجديد لم يعجب الزوجة، وأدت خلافاتهما المستمرة حول عمله إلى انفصالهما على أرض الواقع. واكتشف شريف أنه يستطيع أن يطرق أبوابا أخرى، ويتعرف على نساء أجمل وأكثر فتنة.
يحس شريف بالعزة والكبرياء والغرور، ويعاني من نرجسية تجعله يطارد نجاحه المزعوم ولذته ولو على حساب أقرب الناس إليه، فالبيت الذي أعجبه، يطلّ على الناس، ليراهم من فوقهم، ويبرر ذلك بكونه يريد أن يشعر بمكانته بعيدا عن وجوه الناس، كما يشعر بها وهو يواجههم. وبعد أن يتعرف على أحدى القوادات التي قالت له: عليك أن "تحميني، وتنال مني ما تريد" (ص37)، يغرق في المتعة واللذة، وينسى أهل بيته، وحتى ابنته التي لا يعرف حبا غيرها، فتخط لنفسها طريقا مختلفا ونقيضا لوالدها، وتلتحق بالعمل النضالي مع جميل الحيّاني.
جميل الحيّاني الذي يرفض عرضا من العقيد أبو رسن إعطاء دروس خصوصية لأخ أنيسة عشيقته (التي كانت تشتهي جميل)، يثير غضب العقيد، ويطلب من شريف مراقبته، فيفرح لهذا التكليف، لأنه أخيرا سيصطاده، ولكنه يقول: "كنت حزينا، لأنني منذ رأيت وجهه، أحسست بابتسامته تعذّبني، وبأنها قوية وواثقة، يصعب أن تغيب" (ص44).
أخذ شريف الضوء الأخضر من العقيد، ليفعل بناس رام الله ما يشاء، فقد أخبره أن يومه جاء ليظهر بطولاته، فأبو رسن كان يدخره للأعمال القذرة، ويقول شريف، وفرحت بذلك "لأنني أحسست بأنني أساهم في نظافة المدينة التي أحبها" (ص18). وقام بعدة حملات أمنية، أدت للقبض على كثير من المناضلين الذين كان يسميهم باللصوص الجدد، بعد أن أقتنع بكلام أبو رسن أنهم يسرقون أمن البلاد.
ويتحدث شريف بإيمان غريب، بأن هؤلاء الأبناء لم يحصلوا على تربية صحيحة، لأن آباءهم أصلا بحاجة إلى تربية، فهم مذنبون، شاركوا في تظاهرات أيام الإنجليز، ومنهم من حمل السلاح أو عمل على تهريبه، "وبعضهم هتف لمن لا يسمح بالهتاف له، أو استمع إلى إذاعة حرّم القانون الاستماع إليها، وبذلك كان خارجا على القانون، وعلّم ولده أن يخرج" (ص19). وهو يبرر لنفسه استعمال القسوة والعنف ضد الثوار أو الجبهة المضادة كما يسميهم، بأنه حاول معهم بالمنطق ودون استفزاز، قائلا لهم، إنهم يخربون أمن البلد "لكن ما فاجأني هو أن نظرة الاحتقار التي وجهوها إليّ كانت أكبر مما شاهدته أيام النفي الأول، مما زاد غضبي عليهم كثيرا، فقمت بعملي على أحسن ما يرضي رؤسائي" (ص28). وهنا ازدادت جرأته، وأقام علاقة وطيدة مع أنيسة عشيقة العقيد، وفي ذروة نجاحه المزعوم، شنت إسرائيل عدوانها على البلدان العربية واحتلت ما تبقى من أراضي فلسطين، ليهرب أبو رسن، وتختفي نبيلة، ويوصد شريف الباب عليه وعلى زوجته.


تغير النظرة إلى الأنا الجواني الجمعي الفلسطيني.. لحظات صدق لا تؤدي إلا إلى المجهول:
بعد النكسة وهروب السلطة المسيطرة على رام الله، وتركها لقمة سائغة في فم المحتل، يقضي شريف جل وقته في بيته، يعمل جردة حساب للسنوات الماضية. وكما ذكرنا سابقا، فإنه يرجع ما جرى له في حياته إلى شعوره بالخوف منذ الصغير، الشعور الذي سيبقى يلاحقه حتى النهاية.
يقول إن شعوره بالخوف وهو صغير، أضطره للابتعاد عن الأرض والمدرسة وأولاد الجيران، ونتيجة لذلك التصق بحضن أمه، التي أشعرته بأنه خلق للدلال وحده. وهو يتساءل دوما من أين جاء الخوف، ويقول: "في بعض الأوقات كنت أتصور أنني رضعته من حليب أمي ـ ثم أتذكر أن أختي، التي رضعت الحليب ذاته، كانت أكثر جرأة مني، واستطاعت أن تقف في وجهي حين نافستها في الأرض بعد وفاة أبي ـ فلا ذنب لي فيه" (ص69).
ويشعر بأن الجميع تخلوا عنه، ولم يبق له سوى الوحدة والبرد، "لماذا لا يعود إلّي إلا البرد، بكل قسوته، لدرجة أن أسناني أخذت تصطك، فلا أستطيع السيطرة عليها؟ هل أخذت رام الله كل شيء أعطته، ولم تبق لي إلا بردها القاسي؟" (ص18). ويعترف لنفسه بأن زمنه غادر ولن يعود "وبأن زمنا آخر يولد الآن، قد يكون رجال لا أملك أمامهم إلا أن أهرب" (ص88)، تماما كما هرب الذين أشبعونا كلاما عن قوة أثبتت الأيام "أن الوهم هو الذي يزرعها حولهم، وأن هناك من يصّدق الوهم لأنه لم يواجهه؟" (ص88).
أنه يهذي، ويتدفأ بالهذيان ليفر من برد رام الله الذي لا يرحم، فلم يكن سوى واهم أنه يملك القوة، وأستطاع أن يقنع الناس بذلك، حتى أقتنع هو نفسه، ولكنه تعرى "أمام الوجوه والعيون والكلمات القاسية الجريئة، وأخيرا أمام حجر صغير يقذف به طفل صغير" (ص88)، فالبرد لا يأتي فقط من الطقس، بل من الشعور بالوحدة والخذلان والضعف.
إنه يهرب إلى جحره الصغير، وهو غرفة صغيرة، استولى عليها سابقا من شاب اعتقله، لكنه يفشل في الاختباء من نفسه، وبعد أيام يشعر بالمرض ويغمى عليه، فقد نسيّ أن يتناول الطعام منذ أيام. ويقبل الجيران لمساعدته، ويقدمون له الشوربة الدافئة، ويقول عن هذه التجربة "أخذت أحسّ بالدفء، وكان يزداد، كلما قدموا لي عناية صغيرة، فأدرك كم فقدت، حين فقدت دفء الناس" (ص89).
إنه يعرف الآن أن الإنسان لا يحتمل أن يعيش دون حبّ الناس، فالبرد يخلي مكانه للدفء، بفضل يد العجوز الطيبة التي ساعدته، ويعود ليتساءل من جديد: هل تغير؟ وكيف للإنسان أن يتغير عبر موقف واحد؟ وتطلّ عينا نبيلة، لتقول: "كم موقفا واجهت، ولم تتغير؟" (ص91). ثمّ تقبل الابتسامة الواسعة لجميل، قائلة: "ألم يكن وعدك قاطعا، فما الذي فعلته حين جاءتك الفرصة؟" (ص91)، لكنه لا يستطيع قطع وعد، بعد الذي فعله، بل يقول: أنا "لم أعد أثق بنفسي، وقد انقض ما أعد به، إذا جاءت فرصة تغريني بأن أفعل" (ص91).
بعد فترة يعود إلى بيته، لتستقبله زوجته باستهجان واستهزاء: البلاد احتلت كلها، ونبيلة رحلت مع الذين رحلوا، هل عرفت؟
ويجيب بانكسار: عرفت: كلّ شيء باطل، الذين كانوا يوهموننا بالاطمئنان كذبوا، والذين كانوا يوهموننا بالحماية كذبوا، والذين صرخوا والذين هتفوا والذين تظاهروا، والسجن والسجان، كلهم باطل. رام الله محتلة، وما حول رام الله، والذين كانوا لم يعودوا، والحياة لم تعد هي الحياة" (ص94).
ويحس بالاختناق، وتمطره زوجته بالأسئلة القاسية، هل عرفت الآن؟ ويصرخ لنفسه: لست مسؤولا، غيري هو المسؤول، ما أنا سوى عبد مأمور ينفذ ما يؤمر به "هل مهدت لاحتلال رام الله؟ أين كان حامد أبو رسن ومن حوله؟ وأين كل الأصوات التي كانت تهدر فيصدقها الناس؟ وأين الرتب والنياشين التي تستعرض نفسها في الشوارع؟ وأين كل السلاح وكل الاستعدادات وكل الذين حاربوا الشغب والإخلال بالأمن والخيانة والطابور الخامس؟" (ص96). وينظر إلى رام الله بألم، فقد "كان شيء كالموت يظلل هدوء رام الله، لا أحد في الشارع في عزّ النهار، وعزّ صيفها أيضا. وكان هواء رام الله ساكنا، لا يحرّك طرف غصن، وكان هناك ما يضغط على صدر رام الله، ويمنعها من التنفس" (ص95). إنه الاحتلال الذي سيقتل كلّ شيء جميل في رام الله.
وأثناء تلاعب الأفكار به، يقرع باب بيته بقوة، ويدخل الجنود الإسرائيليون، ويخبرونه بضرورة حضوره إلى المركز غدا، فتتبخر كلّ أفكاره، وتقريعه لنفسه، ويسأل: ماذا يريدون مني؟ وهل يكون لي مكان في الزمن الجديد؟

الأنا المشروخة وتماهيها بالآخر العدو
يستدعى شريف ورفاقه إلى المركز المحتل، ويطلب منهم تسليم أسلحتهم، والعودة إلى منازلهم، ويقول عن هذه الحادثة: "عدنا مشيا، لم أتطلع أعلى من حذائي وأنا أتحرك. كنت أشعر بأن شيئا آخر يبدأ، قد لا يكون لي فيه مكان" (ص93). وكان مخطئا، وتمّ استدعاؤه لمقابلة الحاكم العسكري الجديد، فقضى ليلته تؤرّقه الهواجس، ويرهقه الخوف، إلا أن زوجته طمأنته بسخريتها اللاذعة، أن لا خوف عليه، فالاحتلال لن يفرّط بأمثاله، ويشعر براحة داخلية لقولها، ولكن الخوف يعود إليه من جديد، عندما يتذكر نبيلة، ويقول لنفسه: إذا سئلت عنها، سأعلن "براءتي التامة  منها، إذا طلب مني، لأنها خرجت عن طاعتي، وهربت دون أن أدري" (ص97).
أمام الحاكم العسكري الإسرائيلي، وقف شريف خائفا، فنظر إليه الحاكم العسكري نظرة قاسية، وقال: كنت وفيا في عملك السابق، فهل ستكون كذلك معنا؟ فأجابه باندفاع: "تحت أمرك يا سيدي" (ص99). عندها هزّ الحاكم رأسه، فأخبره شريف أنه صادق بكلامه وبإمكانه أن يسأل عنه، فأجاب الضابط الإسرائيلي: "لست بحاجة إلى أن أسأل أحدا، نحن نعرف، ونحن نجرّب، نحن نجزي، هل فهمت ما أعني؟" (ص100). وفهم شريف الرسالة، واستطاع أن يكسب ثقة الحاكم العسكري، الذي سلمه رام الله، فأصبح السيد الأول فيها كما يعتقد، فلا أحد مسؤول عنه سوى الحاكم العسكري، بعد أن هرب العقيد أبو رسن قبل إقفال الحدود، حيث قيل "إنه ارتدى ملابس النساء، فاستطاع أن يفلت" (ص100).
لم يعط شريف إذنا صاغية لزوجته، التي لم تكفّ عن مهاجمته ونصحه، فعندما قالت له: الآن ليس لديك أيّ تبرير، إنك تعمل مع المحتلين المغتصبين لوطنك فهم "ليسوا من ملتك ليرحموك أمام خطأ، ولن ترحمك ملتك وأنت تخون" (ص105)، ليجيب: ملتي، وأين ملتي الآن، إنهم يقدمون لي رام الله على طبق "دون خوف، لأنهم أقوياء، ودون مشاكل، لأن الذين يصنعونها هربوا" (ص105). ولم يجد أحدا من بيته يفهمه سوى ابنه نبيل.
وتلقى أول أوامر بأن يطرد زملاءه القدامى الذين رفضوا العمل مع المحتلّ إلى خارج الحدود، فأخبره زملاؤه أن عمله الجديد جريمة بحقّ الوطن، وأنهم سيعودون متسلحين بأمل جديد في غياب الاحتلال، لكنه صدّهم ونهرهم.
يغرق شريف في عمله، لكنه يعجز عن النوم، فالأرق يمنعه من ذلك، وفي الصباح يرجع إلى عمله مندفعا. ويعيد علاقته مع القوادة نعيمة، وتخبره بأن أنيسة في انتظاره، ولم يعد شريف يهتم لأمر أحد سوى نفسه، فلا يعير اهتماما لزوجته، ولا حتى لابنه الذي يكتفي بإعطائه ما يطلبه من نقود. أما نبيلة فقد غابت عن العين والقلب. ويغوص في المتعة لكي ينسى، ويخدع نفسه بأنه لا يقوم بعمل مشين. ويمارس عمله في رام الله بشكل آلي، وعندما ينتهي، يعود إلى أنيسة التي شغلته عن كل شيء، يرجع "شوقا مركّزا إلى كلّ لحظة معها" (ص111). وهكذا استطاع هزيمة الأرق والقلق، فهو دون عقل الآن، كما يقول، ويشعر بالرضا والنشوة، عندما يخبره الحاكم العسكري "لو لم أكن أعرفك، لقلت أنك واحد منا" (ص112). ولكن هدوء رام الله لا يستمر طويلا، وتعلن الثورة الفلسطينية عن نفسها، بعمليات فدائية جريئة وموجعة في أنحاء فلسطين.


اهتزاز الآخر العدو تحت ضربات الثورة:
ابتدأت صورة الآخر في الرواية قوية، وصارمة، وواثقة، وقادرة على كلّ شيء، وعندما شرعت المقاومة الفلسطينية تذيق الآخر العدو الألم، استدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي شريف الزوري، وقد رحلت ابتسامة السخرية عن شفتيه، وحلت محلها تكشيرة، غيّرت ملامح وجهه. يقول شريف إن "هذه التكشيرة، أصبحت طابعا له بعد ذلك، مما جعلني أتساءل إن كان لا يزال يشعر بالتفوق" (ص115).
تحدث الحاكم العسكري عن المخربين، الذين كثر نشاطهم وأصبحوا يهددون حياة الناس ويرعبونهم، وتوقف عن الكلام لحظة وكأنه يراجع نفسه، كما يقول شريف، ثم أكمل: "لا تفهم من هذا أننا نخاف منهم، فنحن أقوياء، لا تخيفنا الجيوش، وذراعنا طويلة تصل إلى حيث نريد" (ص116)، ولكننا لا نريد أن ينتشر الخوف بين الناس، لأننا لا نعرف إلى أين يمكن أن يصل ـ فتذكر شريف قول جميل، أن هؤلاء المحتلون لا يربطهم شيء بأرضنا، وأنهم سيفرون إلى المكان الذي قدموا منه إذا شعروا بالخوف ـ وتابع الضابط حديثه: "لأن الناس عندنا تعوّدوا أن نحميهم، وأن تكون حربنا داخل الحدود الأخرى، بعيدة عنهم، فلا يعرفون إلا النصر الذي نحققه" (ص116)، أما الآن فالأمر أختلف، ويجب أن نجد حلا.
شعر شريف بالخوف مما هو آت، ولكنّه عاد يبرر الخيانة لنفسه، بأنه لا يستطيع التوقف الآن، لأنهم سيقتلونه، وبأن الجسر بات محروسا من الجهتين الآن.
ومارس الاحتلال همجيته الشرسة على الشعب الفلسطيني، وكانوا يعتقلون أي شخص، فالشعب كله مشبوه، وهم يلفقون التهم كيفما اتفق. ولشريف الزوري رأي مثير للانتباه هنا، إذ يرى أن لهم دافعين متصلين أقواهما وأكثرهما وضوحا هو الخوف، "لأنهم كانوا يعبرون عنه في كل تصرف، وكان توتر الخوف الذي لا يهدأ هو الذي يقود حركاتهم في شوارع رام الله، وهو يعبر عن نفسه بالحذر الشديد، والقفز لدى الإحساس بأية حركة، أو سماع أي صوت لا يعرفون مصدره" (ص118). ولاحظ شريف أن معاملة الحاكم العسكري له تغيرت، فلم يعد يعامله بالحماسة نفسها، لقد حلّ محلها شيء آخر، يقول شريف إنه لم يكن الشكّ، بل شيء آخر "أخذت أحسّ به، من خلال وجوههم المرعوبة، وعيونهم التي صارت تحدّق في الفضاء، وهي تستطلع خطرا قادما من حيث لا يعلمون، يحسّون تجاهه بالعجز، فيدركون أنني أكثر منهم عجزا" (ص125).
ويتحدث عن عجز الاحتلال في مطاردة الوجوه التي تشكل خطرا، لأن هذه الوجوه أصبحت تولد بغتة، وتضرب فجأة، وتختفي دون أن يعرف أحد مكانها، فتسبب للاحتلال الغضب والحماقة والجنون "ويصل الأمر حدّ الجنون الذي لا يعرف كيف يتحرك، وأن كان لا بد له أن يتحرك ليلمّ الناس، ويهدم البيوت، ويصرخ ويهدّد، ويزداد جنونا كلما ولدت وجوه جديدة، تضرب وتختفي" (ص125)، فالأمر لم يعد أن يختاروا هم اللحظة ويضربوا ضربتهم بسرعة خاطفة ويحتفلوا بالنصر بعد ذلك، فاللحظة أصبحت كامنة في كل لحظة، "يختارها من لا يعرفون عنهم ما كانوا يعرفون عن غيرهم. صارت كل اللحظات تملك أن تكون في أي مكان، فصار الخوف متصلا، والجنون متصلا، وهم أصحابه" (ص125-126).
واختلفت طريقة حديث الحاكم العسكري مع شريف، فبعد أن كان يثق بنفسه وبجيشه وجهاز أمنه، ويتحدّث بصرامة وأوامر قاطعة، "صارت جمله متقطعة لا يربطها منطق. كان يقول: في البداية، كنا نعرف أنهم يتسللون عبر الحدود، حصّنا حدودنا، وضربناهم في حدودهم، واخترقنا الحدود ـ وكانوا خسروا في كلّ مواجهة ولم يعترفوا ـ لكن الذين يتحركون داخلنا أخطر، علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة كل الوقت حتى تتعب، ومع ذلك فإن وجوههم تتسلل وتزداد من وراء عيوننا" (ص126). كان الحاكم العسكري ينهي كلامه بحزن وأسى، ويخطب ودّ شريف ويحمله جزءاً من مسؤولية ما يجري، لكن شريف لم يجرب من قبل ما يجري وهو أعجز عن مواجهته.
وعندما يرحل شريف إلى بيت أنيسة، يجدها تعلم الكثير مما لا يعرف، وتقول له: إن الجميع يعرف، ويظهر أنك يا شريف الوحيد الذي لا تعرف، أو لا يهمّك ما يجري، "إنه احتلال، يخلق مقاومته الذاتية من الداخل، وتكبر وتكبر، حتى لا يستطيع أحد أن يسيطر عليها" (ص126). ويتذكر شريف أن "عصبية الحاكم العسكري كانت تزداد، وثقته بنفسه كانت تهتز" (ص127). وعندما كان يرى عيني الحاكم العسكري تقدحان الشرر، كان يهرب إلى بيت أنيسة التي تضحك، قائلة له: "ألم تسمع عن عملية فدائية كبيرة؟" (ص127). وشريف يسمع باستمرار عن ذلك، ويعود إليه الاسم الذي كرهه، جميل الحيّاني، "ويطل وجهه في عيني، بابتسامته الواسعة وهو يقول: هل صدقت الآن؟" (ص127). ما كان يحدث كان يثير غضبهم، ويزعجهم، "وإن الشوكة كانت تؤلم أكثر، حين تجيء من الداخل، من حيث لا يعلمون، وإن هذه الشوكة كانت تزداد وخزا، يوما بعد يوم، فتوجعهم أكثر" (ص127). ويتساءل: "ماذا يفعلون لو تحوّلت كل الوجوه حولهم إلى أشواك؟" (ص127)، ويحس بالخوف، ويشعر بالخطر "هل يمكن لهذه الأشواك أن تظلّ بعيدة عني؟" (ص127).
لم يعد شريف يصدق هذا التباهي بالقوة والحديث عن الانتصارات السريعة والحاسمة، فهم لا يتحركون من مكاتبهم وآلياتهم المحمية جيدا. وصار يشعر بسعي الاحتلال للتخلص من خوفه، بالتخلص من مصدره، وهو الشعب الفلسطيني، لذلك فعلوا كلّ شيء لإفراغ الأرض من سكانها الأصليين، فكانوا يعتقلون أي شخص ويدينونه بتهم كثيرة ملفقة؟ ويعذبونه ثم يطردونه من وطنه خارج الحدود، وهدفهم من ذلك، زرع العجز في النفوس في جدوى المقاومة.


نظرة الأنا السلبية الجديدة إلى الثورة:
يشعر شريف بأن كل شيء حوله ضيق، وأن هنالك شيئا يضغط عليه ويكاد يخنقه. وعندما يسير في شوارع رام الله، يرى الوجوه في ?

تعليق عبر الفيس بوك