سرايا بنت الغول لإميل حبيبي: الانتصار بالأسطورة إلى عجز الواقع (5- 5)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
وتعدّ الإحالات التناصية خاصية أخرى بارزة من خصائص أسلوب إميل حبيبي بشكل عام، وليس في الخرافية وحدها، وهو إذ يفعل ذلك يعتمد على قارئ كسول؛ لا يدرك مرجعيات هذه اللغة، لذلك يستخدم الهوامش لتقديم معلومة أو توثيقها، موفّرا على القارئ غير الموثوق به عناء البحث عنها، أو استرجاعها من ذاكرته الثقافية، فقد أفاد من الآيات القرآنية غير مرة، كما أشرنا في موقع آخر من هذه الدراسة، كما أفاد من النصوص المقدسة المسيحية والشعر العربي وغير ذلك، ولعلنا نشير إلى حديثه عن الصيادين الفلسطينيين الذين كانوا يعودون بأربع سمكات ويقلونها بزيت الزيتون الراماوي، "ويعزمون على الجيران، مكررين معجزة إطعام الجياع "، ص28، ويذيّل كلامه بهامش يشير فيه إلى إنجيل متى ـ الإصحاح الرابع عشر الذي يذكر معجزة إشباع نحو خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد، بسمكتين وخمسة أرغفة؛ إذ يأكل الجميع ويشبعون ويجمعون ما فضل من الكسر في اثنتي عشرة قفة مملوءة.
كما يضمّن جزءاً من الإصحاح الأول من سفر التكوين في نسق سردي يتحدّث عن هجوع السمك، فيقول: "حين يطبق الضباب يهجع السمك في جوف البحر لسبب غير معلوم. أو نكون قد عدنا إلى ما قبل الخليقة، (حين كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه )، فلا يكون السمك وكل ما يسبح في الماء، وكل ما يدب على الأرض، وكل ما يطير في الفضاء قد خلق بعد"، ص40.
موثّقاً النص الذي اقتبسه في الهامش.
وإذ يصف جمال الطبيعة الفلسطينية وأصواتها يستحضر شعر امرئ القيس المشهور في وصف حصانه؛ حيث يقول: "ومن أصوات الطبيعة جمع امرؤ القيس سيمفونيته:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً    كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علِ"، ص46. كما يصف بحيرة طبريا، مسترجعاً أبياتاً للمتنبي في موضعين مختلفين:
•    "فلاحت لهم صفحة البحيرة الساكنة التي كانت، بعد، مسكونة بالسمك الكثير وشطآنها بكراً على عهدها منذ أن ورد إلى مائها ملك الغاب الذي كان زئيره يسمع ما بين الفرات والنيل "، ص29.
•    "قال: فجلسنا على صخورها العذراء جلسة نواطير مصر ، فلما فنيت العناقيد ولم يبشموا ـ أخذوا الماء واسترجعوا المجاري ـ عدنا إلى الأصول، إلى البحر وما بقي من شواطئه بكراً"، ص ص29ـ30.
وقلّ أن يستخدم إميل حبيبي التناصات الثقافية دون أن يسندها إلى مرجعياتها، ومن القليل الذي يستخدم فيه هذه الطريقة التي تتعامل مع قارئ موثوق به، المثالان التاليان اللذان يحيل فيهما النص، على سياقات ثقافية قارّة في وجدان الإنسان العربي:
•    "وأول ما حج إليه [جواد] من معالم الوطن، في حجة الوداع  تلك، هو ضريح ابنته سعاد. قال: والتفت نحوي، وهو داخل في بوابة رأس الناقورة، وقال: الله يخليك، يا خيّا، شُقّ على سعاد"، ص70.
•    "لم يتحمل أن يقضي بيننا سوى أسبوع كان ينهي كل يوم من أيامه بمساءلتي: وبعدين، فكنت أذكر له مَعْلَماً كان مألوفاً عليه، وما كان حجّ إليه، بعد، فنخفف الوطء إليه . فنجده أو لا نجده"، ص65.
سادساً ـ من الخرافة إلى الأسطورة:
عندما قرر إميل حبيبي أن يخرّفنا خرافية سرايا بنت الغول، كان مدركاً أن خياره الفنّي يتطلب منه إزالة اللبس بين الكلمة الفلسطينية "خرّافية"، والمصطلح النقدي أسطورة؛ إذ إننا ـ نحن الفلسطينيين ـ نستعمل تعبير الخرافية "لكل فعل مدهش"، ص12. وربما كان الأدقّ أن يقال "لكلّ حكاية مدهشة"، غير أن حبيبي بعد هذه الإشارة يمضي إلى أبعد من مجرد الشرح الذي يخدم حكاية خرافيته، فيتقصّى معنى جذرها اللغوي مبتعداُ عن التوجه العام لمعنى الكلمة في السرد، وهو المعنى الأساسي، فيشير إلى أنّ "خرف الثمار: جناها"، والمخرف: "إناء يخترف الثمر فيه"، ثمّ يعود مرة أخرى إلى حديث خرافة، الذي يشبه، في ارتباطاته غير المنطقية، حديثه عن سرايا بنت الغول، مشيراً إلى أنه حديث مستملح، لكنه كذب.
أما الأسطورة التي يعيدها بعضهم إلى كلمة "أستوريا" اليونانية  فهي "اقتراح سرديّ لمواجهة العجز البشريّ عن فهم ظاهرة من ظواهر النّظام الكونيّ، يعرض حكاية تدور حول كائن خارق القدرات، وأحداثاً ليس لها تفسير طبيعيّ. أو هي سرد تقليديّ يتعلّق عادة بالاعتقاد الدّينيّ أو الطّقسيّ الّذي يعبّر عن الوضع المثاليّ للأشياء ويسوّغه، بطريقة غير مثبتة، وغير خاضعة للنّقد والاختراق ".
وللموازاة بين الخرافية والأسطورة يشير إميل حبيبي إلى أن "خُرَّافيَّته" تستند إلى أسطورة فلسطينية قديمة؛ إذ يقول: "اخترت هذا الاسم ـ (سرايا بنت الغول) ـ عن أسطورة فلسطينية قديمة، قد تكون شائعة عربياً ، عن فتاة صغيرة محبة للاستطلاع خطفها الغول في إحدى جولاتها الاستطلاعية اليومية. تبناها وأسكنها قصره المشيد في أعالي جبل، فذهب ابن عمها يبحث عنها في البراري. وكانت مشهورة بجدائل شعرها الطويلة والتي لم يمسها مقص. فكان يناديها، وهو يبحث عنها: (سرايا، يا بنت الغول، دَلِّي لي شعرك لأطُول)،‍ فسمعته، فدلَّتْ له جديلةً، فتعلق بها، وصعد عليها، فدست مخدراً في شراب الغول، فنام لا حراك فيه، فانسلت مع ابن عمها وعادت إلى قريتها"، ص11.
ويورد حبيبي تفاصيل تلك الأسطورة مرة أخرى في سياق الخرافية ذاتها، إذ إن تحكيها جدته مريم الحيفاوية كل ليلتين، بالتناوب مع حكاية جبينة التي سرقها النور ، ابتداء من: "كان يا ما كان ويا مستمعي الكلام صبية حلوة اسمها سرايا"، ص188، إلى "فأكثر له [للغول] من الخمرة حتى أخلد إلى النوم. فحملت صرة ثيابها وفرّت من القصر مع ابن عمّها"، ص189.
ويقدّم الروائي للأسطورة نهايات متعددة كما يليق بها، فالجدة نفسها، تضيف وتبدّل، ولكنها تحافظ على نجاة سرايا، وعلى دلالة الأسطورة، ففي رواية ثانية "مزجت [سرايا] السم بطعام الغول أو بشرابه. وفي رواية ثالثة ان ابن عمّها التقط سيف الغول بعد أن نومه الشراب، وحزّ رأسه، وفي أخرى أنها دلّت ضفيريتين من ضفائر شعرها فنزل ابن عمّها على إحداها، ونزلت على الأخرى"، 189.
وإذ يتعامل إميل حبيبي مع الأسطورة، فإنه لا يسايرها بدقة، بل يستخدمها، بوصفها مرجعية يمكن التعديل عليها على أساس الواقع، ربطاً بماضي السارد أو حاضره، فبطل رواية حبيبي، كما يذكر في "خطبة المؤلف"، "مضى في طول الرواية يبحث عن فتاة كان أحبّها في صباه، ثم شغلته همومه اليومية عنها. فأهملها حتى عادت وظهرت له في شيخوخته"، ص11، في إشارة إلى انشغال الناس بهمهم الشخصي على حساب همهم الوطني، وهو في موضع آخر يقلب الأسطورة ودلالتها، فسرايا في الأسطورة ترسل ضفائرها من أعلى قصر الغول إلى حيث ابن عمها؛ ليتسلق على تلك الضفائر من أجل إنقاذها، أما السارد فيجعل نفسه في بئر، وهو بحاجة إلى تلك الضفائر، ليتسلّق صعوداً إلى حافته، وينقذ نفسه:
"شقّيتُ على معالم الصّبا وأطلاله الباقية (...) أستحلفها ان تدلّي لي ضفيرة من ضفاير شعرها فأتعمشق عليها وأصعد، ذراعاً ذراعاً، سوف أشدّ حيلي واشد حيلي حتى أبلغ فتحة البير"، ص77.
وغالباً ما يتدخل الواقع المعاش، ومرجعياته السياسية، في توجيه الأسطورة نحو بدائل سرايا التي ضيعها السارد ـ أو تركها تضيع ـ مرتين، إذ كان لا بد من "حضور غيابها" ولا بد من ظلالها التي تعزز فكرة تناقض الأسطورة، وتعبّر عن مقولة مقلوبة (هي أن سرايا لن تتخلى عن السارد)، ففي آخر الخرافية تزوره في مكتبه امرأتان إحداهما فراشة، والثانية تدلّها على مكتبه، وتغادر، فيما يوحي السياق أنها سرايا التي تحرّضه على البحث عنها:
"ـ فلماذا لم تدخل معك؟
ـ دلتني على الكهف في الكرمل، ودلتني على مكتبك، ومضت في سبيلها.
ـ هل تعرفينها.؟
ـ قالت إنك تعرفها.
ـ من أين؟ ما اسمها؟ من تكون؟
ـ قالت: إن شئت أن تجدها وجدتها"، ص201.
أما فراشة فهي ظلّ سرايا العائد، وهي "تخترق الحدود من دون أن يلقوا إليها بالاً أو ينتبهوا إلى وجودها. وقيل إنها كانت تنقل الرسائل بين الباقين وبين النازحين"، ص ص194ـ 195. وقد شاع أنها موجودة في كل مكان من حدود الوطن، أي أنّها كائن متعدد موجود "في الجليل وفي المثلث وفي النقب"، ص197. ومثلما تتعدد نُسخ فراشة، تتغيّر أسماءها ففي "الجليل كان اسمها فراشة، وفي المثلث اشتهرت باسم النحلة، واما في النقب فعرفت باسم المنّ تارة وباسم السلوى أخرى"، ص197.
وفي خضمّ هذا الحضور الهائل للنساء المنقذات والعائدات والمسعفات، يتساءل المرء: أين الرجال؟ وهل ثمة غير جواد العائد الذي لم يستطع الوقوف على أطلال العجز أكثر من أسبوع قبل أن يعود إلى لبنان عن طريق رأس الناقورة؟ أين هم، وقد أضاع كلّ منه سراياه/ حبيته أو فلسطينه التي هامت على وجهها بعد حلول الكارثة: "لكلّ منا، يا اختْيَار، سراياه الهائمة على وجهها كما هامت سيدنا نوح بحثاً عن اليابسة قبل أن (غِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ )، فمتى يقضى هذا الأمر"، ص198.
سؤال ما زال ينتظر الإجابة.
*******

 

 

تعليق عبر الفيس بوك