سرايا بنت الغول لإميل حبيبي: الانتصار بالأسطورة إلى عجز الواقع (3- 5)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
رابعاً ـ شخصيات في مدار الخرافيّة:
ربّما نفيد هنا من عصا إبراهيم ودوائرها الثلاث في تصوّر الشخصيات التي كانت لديها القدرة على اللعب بالمدار الحكائي الذي تدور حوله، فهي وفقاً لثالوث يحكم العصا والخرافية ثلاث شخصيات رئيسية أولاها السارد، وثانيتها عمه إبراهيم، وثالثتها سرايا.
أ ـ السّارد:
ترجّح السارد بين الحضور والغياب (السارد الأنا والسارد الـ هو)، ويُعدّ ترجحه هذا معادلاً موضوعياً لشخصية الفلسطيني الحاضر (هنا) والغائب (هناك)، مترعاً بعذابات الداخل والمنفى على حد سواء. فسارد الخرافية، أو إذا شئت الرواية السيرية، فلسطيني "ولد على شاطئ بحر حيفا ـ حيث كان وادي النسناس، حيث ولد وسوف يبعث حيّاً، أحد أودية الكرمل التي كانت مياهها تصب في البحر مباشرة، فتعلّم صيد السمك مثلما تعلّم السير على قدميه منتصب القامة، ومثلما تعلّم التحليق"، ص28، وقد كانت ولادته بعد انتقال الأسرة من قرية شفا عمرو إلى مدينة حيفا: "ولد في وسط وادٍ، ينبع من الجبل ويصب في البحر، تواً بعد انتقال والديه من القرية البرية إلى المدينة البحرية"، ص44.
لقد عاش السارد عيشة بسيطة تقترب من حد السذاجة، ينتظر وينتظر؛ إذ "قعد منذ أن طقت جوزته ينتظر عروس البحر"، ص44، وينتظر سرايا التي غابت، دون أن يتخطى عجز الانتظار نحو الفعل. وفي مقابل هذا الانتظار الذي يكشف شخصية عاجزة عن الفعل تتولد في أعماق السارد شخصية متوترة مشدودة الأعصاب، تنتصر على توترها بهواية صيد السمك:
"لم أجد منذ صغري، وسيلة للترويح عن أعصابي التي ولدت مشدودة سوى هواية صيد السمك، فأدمنتُ عليها إدمان الراهب على النبيذ المخزون في دنان ديره، ويحسبني معارفي مازحاً، وما أنا بمازح، حين أقول لهم إن مهنتي هي صيد السمك، وأما الأدب فهو هوايتي المحببة"، ص27.
إن عجز الصيّاد/ السارد يدفعه إلى اختيار صخرة ذات عنق مشرئب نحو البحر، لا لميزة فيها، بل لاتقاء مدافعة زملائه: "ومع علمي بأنّ (لو فيها خير ما رماها الطير) وقع اختياري عليها، فأتقي مدافعة زملائي على هذا الموقع. البحر أمامها شحيح السمك، فلا يقربها سمّاك جاد يعلم بأن البحر من تحتها لا يجود بالسمك، فتركوها لأمثالي"، ص27. وقد كان لهذه الصخرة (صخرة العجز عن المواجهة)، فوائد متعددة، إذ إن هذا العجز يجعله بعيداً عن أسنان القرش واقعياً ورمزياً: "إلا أن علو الصخرة عن الماء أنقذني، فعلمتُ أنّ سمكة القرش حاولت الاهتداء عليّ وعلى قدميّ بالخيط الذي كنت أرسلته بعيداً في عرض البحر"، ص33.
ولا ينسى إميل حبيبي بعد الاعتراف بعجز الشخصية (ليس العجز الفردي طبعاً)، أنّ ينقل عدم جدوى خبرة العجز لمن يريد أن يحفظ وطنه ومجتمعه وأهله: "ولو أهمل غيري سراياه، مثلما أهملت سراياي، هل بقي على هذا الكوكب سوى الذئاب والضباع والمعيز والشرطة وحمالي الأشرطة وآكلي لحوم إخوتهم وأخواتهم"، ص210.
ولعل من الغريب أن يرث ابن السارد الرؤية والنداء، فهو يتخّيّل خيالات تشبه خيالات والده، ويرث نداء سرايا (يابا)، ويتضح ذلك من خلال رسالة يرسلها الولد إلى أبيه من تشيكوسلوفاكيا، بينما يدرس في جامعة براغ، يحدّثه فيها عن رحلة سياحية قام بها في أعالي الجبال مع زملائه:
"فما إن جلست على مقعدي في الباص حتى أحسست بعينين عميقتي الغور تخترقان ظهري اختراق المسامير أو المقادح اللولبية. فاستدرت نحو صاحبهما، وأنا انتفض كالملسوع.
قال إنه صُعقَ حين وجد العينين، اللتين تحدّقان فيه، عينيّ ـ أنا والده ـ ووجه ذلك الرجل وجهي، فلم يتمالك نفسه عن الهتاف: يابا، ثم استدرك استحالة الأمر، فأصابته القشعريرة"، ص53.
ب ـ إبراهيم:
يجسّد إبراهيم/ عم السّارد مثالاً للشخصية السحرية الغامضة، التي تستحوذ على اهتمام السارد، من خلال صفاتها الجاذبة، بلباسه وعصاه الغريبة وفكره الذي يختلف عن السائد. وقد قدّمه السارد من خلال صفاته الجسدية والنفسية، ومن خلال أفعاله أيضاً، فهو "قامة فارعة وممتلئة باللحم والشحم من شدة الأبهة. يعلوها رأس ضخم تغلفه سحنة دكناء من شاربين كثّين يزيدان في غور عينين أقعتا في بئر ذي فوهتين اشرأبتا لمشاهدة الدنيا الواسعة فوق البئر"، ص156. أما لباسه فهو القمباز والساكو:
"ثم يظهر في بيتنا فجأة، بلباسه التقليدي ـ (القمباز) الروزا وفوق القمباز صاكو سوداء اللون شابت أطرافها. وقد لفّ خصره بحزام عريض"، ص156.
غير أنّ هذا التقارب في الصفات الخارجية بين العم إبراهيم وبيئته لا يفترض تقارباً مشابهاً في البنية الفكرية؛ إذ إن ثمة اختلافاً شديداً بين العم إبراهيم وبيئته المحيطة، ابتداء من كشاكيله الصفراء التي كان يدسها في يد السارد خلسةً؛ ليسهم في تغيير بنيته الفكرية التي يعمل أبوه حمدي على ترسيخها: "كانت حيرت أمري كشاكيل عمي إبراهيم الصفراء التي كان يستلّها من جرابه، ويدسّها في يدي خلسة حين تقفي الوالدة لتعد له مغلي البابونج. وكانت خنقت روحي حكاية الجنية الشريرة التي مسخت أولاد الأمير الثلاثة كلباً وشاة وسعداناً"، ص92.
هذا الاختلاف الذي يجسّد استقلالية في شخصية العم إبراهيم لم يرق كثيراً لأخيه حمدي/ والد السارد الذي يخاف على ابنه من الاختلاف، ومن الشك، ومن إثارة الأسئلة (نتذكّر هنا العصا التي يحيل مقبضها إلى علامتي الاستفهام والممنوع)؛ لذلك يتنطّع حمدي للعن أخيه الذي يعبث بيقينيات الولد الغرّ: "وذات يوم، وكنت أوغلت في سرداب الشك حتى كاد آخره يلوح أمامنا، فاجأني بالتجائه إلى اللعنة علانية لأول مرة. صاح: لعنة الله عليك وعلى معلمك"، ص146.
وبالمقابل فإنّ العمّ إبراهيم لا يلعن ولا يشتم، وهو مطمئن إلى رؤية واعية، ترفض أن يستلب الدينُ الحياة، فهو شخص مستقل، يحترم الدين ولا يسخر منه، ولا يوزّع لعناته على خلق الله: "لم أسمع عمي إبراهيم يكفر بالله وباليوم الآخر، لا قبل لعنة أخيه العلنية ولا بعدها، ولكنني أخذت ألاحظ، منذ تلك اللعنة، أنه ينحو منحى آخر في تفسير مفاهيمنا الدينية"، ص146.
لقد غرس إبراهيم كثيراً من المفاهيم الإنسانية في نفس السارد، وتجلّى ذلك من المواقف الإيجابية تجاه القضايا المختلفة، فالعم إبراهيم، وفقاً للسارد، يقطر إنسانية، "ولو كان جرابه يحتمل احتواء الأسد والحمل حيين وغير محنّطين لأقنعهما بالتآلف"، ص185، أمّا بالنسبة لدوره التثقيفي في بناء شخصية السارد، فتمكن ملاحظته من خلال المقتبسات التالية:
•    "كتابان فتحا عيني على البصيرة: كتاب باسم مذكراتي وضعه ليو تولستوي وأخرجه عمي إبراهيم من جرابه ودسه في يدي فيما كانت أم بديع مشغولة بإعداد زوادات أولادها. وكتاب باسم جامعاتي لمكسيم غوركي وضعته في يد سرايا رداً مهذباً على عتابها لي عن أحد غيباتي الطويلة"، ص183.
•    "كنتَ أول من حفّظني، عن ظهر قلب، شعر عمر الخيّام"، ص140.
•    "كان عمي إبراهيم يردد على مسامعنا، نحن الأولاد، قصيدة ابن الفارض اليائية التي لم أحفظ منها سوى مطلعها: سائق الأظعان يطوي البيد طيّْ/ منعماً عرّجْ على كثبان طيّْ"، ص102.
لقد كان عم السارد، من الشخصيات الجاذبة كما أسلفنا، وكان غيابه بحجم حضوره، إذ إن مثل هذا الحضور يليق به غياب مدهش، بعد سلسلة من الغيابات التي كانت تنتهي بإطلالة تحمل الجديد دائماً، ويمكن لنا أن نمثّل لغياباته المتكررة وغيابه النهائي بالسياقات التالية:
•    "كان يغيب غيباته، ثم يعود محمّلاً بمدهشات جديدة، تتغير وتتبدل من عودة إلى عودة. وكان هو نفسه، يتغيّر ويتبدّل"، ص139.
•    "كان يغيب دهراً، ثم يظهر في بيتنا عصراً، فهل سيعود بعد هذه الغيبة؟ ها أنا أمعن النبش في أغوار الذاكرة بحثاً عن غيبته الأخيرة فلا أهتدي إلى بداية لها فكيف أهتدي إلى نهايتها"، ص139.
•    "ولما مشيت في درب الآلام اهتديت إلى قبور من مات من أهلي وعشيرتي أو إلى منافي العذاب منهم. وسجّيت الزهور بيدي على قبور من لم يغب، وشقّيت على أطلال من غاب.
إلا عمّي إبراهيم: لا خبر ولا علم"، ص132.
ج ـ سرايا:
أمّا سرايا فقد اتفقت مع العمّ إبراهيم في ترجحها بين الحضور والغياب، ولكنها اختلفت عنه في كون غيابها ليس نهائياً؛ لأنها ـ فنّياً ـ تمتلك ظلالاً أخرى، ولأنها ـ رؤيوياً ـ تمثّل فلسطين التي لا بدّ أن تعود.
ربما كانت فتاة لا تمتّ بصلة قربى لعم السارد/ إبراهيم الذي ادّعى "أنه وجدها نائمة في قماطها في قبو من أقباء الكرمل التي كان يبحث في بطونها عن كنوزه"، ص111، أو ربما كانت ابنته؛ إذ تقول إحدى الحكايات المتداخلة أن إبراهيم "عاد من مصر بطفلة أنجبها من زوجة قبطية اسمها مارية. أسلمت روحها إلى باريها في أثناء الوضع أو في شهر النفاس"، ص148، وأنه أخفى الطفلة التي ادّعى موتها "بين قبيلة من الغجر"، ص149، غير أن هذا الاضطراب يمنح الخرافية سحراً وغموضاً، ويجعل بين سرايا الماضي/ والحاضر وشائج غرائبية قابلة للإقناع الفني.
إنّ سرايا، كما بدت في ماضيها، تشبه تلك التي برزت له عند صخرة الشاطئ، وسبق أن أشرنا إلى أنّ الزمن الذي مرّ عليه لم يمرَّ عليها، لذلك لم تتغير صورتها حين رآها في الظلمة. إنها سرايا، ولكنها في عمر ابنته: "فبحلقت في الظلمة من ورائي. فخلت أنني أرى فتاة قمحية البشرة كستنائية الشعر على قامة أشبه بعود الخيزران أنذرتني عيناها العسليتان بأنها في عمر ابنتي"، ص39. وهي لا تختلف عن سرايا/ الذاكرة التي يصفها في المقطع التالي: "وتسبغ الشمس علينا غلالة بيضاء نورانية ثانية. فينجلي أمام ناظري ـ وجه سري الدفين ـ وقامتها وشعرها الكستنائي، وشفتاها المتعطشتان إلى المياه العذبة تعطّشَ الشرق، تعطّشاً أبدياً، إلى الواحات وإلى ظلال الشجر"، ص49.
إنها سرايا ذات العينين اللتين تشبهان صفاء عين الماء الكرملية، تلكما العينان اللتان لا يتذكّر لحظة التقائهما: "ويحكي ويحكي ويسترسل في الخرافية لعلّه يهتدي إلى تلك اللحظة التي علقت فيها عيناه بعيني سرايا، فلا يهتدي"، ص105.غير أنها بالمقابل لا تضيّع ذلك الشبه بين عينيه وبين عيني (أبيها)/ إبراهيم، على ألا يُفهم من ذلك أننا نشير إلى الشبه الشكلي فقط، ولننظر إلى السياق الحواري التالي بينهما:
"وأمعنت النظر في عينيه ثم قالت:
ـ عيناك!
ـ ما لعينيَّ؟
ـ عينا أبي، إبراهيم!
ـ عينا عمي إبراهيم؟
ـ هو عمّك؟
ـ هو أبوك؟!"، ص111.
وعلى الرغم من الغنى الفكري (النسبي) الذي كان يمتاز به الفتى الغرّ فإن الغنى الحركي يبدو أكثر بروزاً عند سرايا التي كانت تخترق الغابات "وتشفي السليم وتمتص سم العقرب وتجبر الرضوض"، ص111، وترافق السارد في طفولته، وتقطف له تفاح الجن، فيكتفي من لقاءاتها بأن (يبرطع) فرحاً بما تفعله. ويمكن هنا أن نستشهد على ما ذهبنا إليه بما يلي:
•    "تأخذ بيدي وترتقي بي وادي العشاق، وهي تنذرني بأن قد حان موعدها إلى مضارب أهلها".
•    "ترتقي، وهي أمامه، وهو يسير كالمأخوذ وراءها، طريقاً ضيقاً متعرّجاً يقود إلى تلة"، ص51.
•    " ـ هل أنا غولة؟
"ـ بل جنيّة!
فتقطف ثمرة من ثمار تفاح الجن، وتشطرها بفمها شطرين، وتناوله، بفمها الشطر الآخر، وتقول: كل واعطش فسأسقيك من عيني"، ص110.
•    "وكان لا يبرطع إلا حين يلتقي سرايا عند عين سرايا، وهي تملأ جرتها الصغيرة، ذات عنق الغزال، وتسقيه"، ص107.
(يتبع...)

 

تعليق عبر الفيس بوك