وطني.. أبوح لك بسر حُبي

د. عبدالله باحجاج

غدا الثلاثاء، يوم الثالث والعشرين من يوليو، إنه المرور السنوي المتوالي ليوم النهضة المباركة، يوم تتوحد فيه الرؤى، وتلتقي فيه الآراء، ونتنافس فيه للتعبير عن الولاءات والانتماءات لوطن نعشقه حتى النخاع، ولقائد نخلده عبر الزمان، يوما يلتقي فيه الحاضر بالماضي، ونعيش تجلياتهما كحالة وجدانية، نستمده منها التفاؤل نحو المستقبل.

الثالث والعشرون من يوليو، سيظل مرجعية كل المراحل الزمنية لمسيرة النهضة المباركة، وحاكمة لتحولاتها وتطوراتها المختلفة، فلن نتيه في صحاري الخلافات والاختلافات، ولن ندخل في أتون الصراعات المذهبية أو الطائفية او المناطقية؛ لأنها قد وحدت الأجزاء المتنوعة داخل جغرافيا وطنية جامعة وشاملة للتعدد والتنوع، وصهرتها في بوتقة المواطنة وعززتها بالوطنية، فلم تمس التطورات والمتغيرات خصائص الشخصية العمانية، فظل الإنسان العماني يحترم جميع البشر لأنهم بشر، والبشرية هى الأولى بالرعاية، والجديرة بالتعايش والتسامح بصرف النظر عن معتقدها أو لونها أو جنسياتها.

ولأني قلم هائم وعاشق بحبك يا وطني، تجده يحتفل بك كل يوم، بطريقته الخاصة به، وذلك حينما يتصدى القلم لمسار أو سياسة أو موقف من الداخل أو الخارج، قد يرى أنه خارجٌ عن أهداف أو استهدافات منظومات الثالث والعشرين من يوليو، التي صنعت لنا ذلك النجاح المجمع عليه.. قلم يُشبهها بنقاط سوداء صغيرة في قميص ناصع البيض، فرغم الكل يمتدح نصاعته، إلا أن هذا القلم يحمل هاجس ديمومة النصاع وشموليته، ويقول في ذاتيته: "آه لو أزيلت هذه البقع".

قد أصبح يفهمك الكثير يا قلمي، ويجهل حبك القليل، فلم ييأس أو يحبط القلم، مستمرا في البوح بسر حبه وإيمانه المختلف عن الآخرين من منظور البياض الناصع والبقع السوداء، دفاعا عن منظومات النهضة العمانية التي تأسست على مرجعية إنسانية لغاية قيام دولة عصرية جامعة للتعدد والتنوع داخل حدود وطنية مُعترف بها من الجيران على وجه الخصوص، هذه المناسبة يا قلمي، تجعلني مجددا أبوح بسر حبك لوطنك؛ لأننا في ساعات وجدانية خالصة، نُعلي من شأن المشاعر والعواطف، فلن نبخل بها في يوم كبرى الذكريات الوطنية.

وفي ليلة صبيحتها يحمل قلمي هاجسَ التبصير بماهية المنجزات التي نتفرد بها، والتي نذكِّر أنفسنا بها الآن، وهو ما أشرنا إليه سالفا، لذلك، نقدر ونثمن كمجتمع وكنخب منجز التعايش والتسامح، ومنجز العفو "عفا الله عما سلف"، ومنجز تغليب خيار السلم الداخلي والسلام الخارجي...إلخ؛ لأنها قد جاءت بعد تجربة طويلة من تغليب الصراعات والحروب، وتتأسس تلكم المنجزات من قناعات تاريخية وسياسية واجتماعية، وهو ما يجهله للأسف الكثير من بني وطني، والكل من الأشقاء الإقليميين والأصدقاء والشركاء الدوليين.

والنتيجة الآن؟ وهذا هو الأهم الذي يُلجم كل الجاهلين للذات العمانية الحديثة التي تأسست في 23 يوليو 1970، والذين يريدون جرَّ بلادنا معهم إلى قلب أنظمة أو نشر الفتن بين الشعب الواحد، وقبل أوضاعه ودخوله في اقتتال دموي، والنتيجة المتحققة نعيشها في واقعنا العماني يوميا، وفي ادق تفاصيلها؛ وهى: دولة خالية من كل الروائح النتنة التي تكفر وتضلل وتثير الفتن مهما كان مصدرها، خط دفاعها الأول المجتمع الذي يستنكرها، ويقف دائما في مواجهات وأدها؛ لذلك يحق لنا القول الآن وبكل فخر واعتزاز، إن مجتمعنا العماني محصن ذاتيا من كل سلبيات المجتمعات المجاورة، سواء كانت سياسية أو مذهبية أو اجتماعية، رهاناته في الحصانة، الوعي والالتزام الطوعي والأخلاقي بمسلمات العيش المشترك مع المتعدد والمتنوع في البنى الفكرية الفوقية والتحتية.

لن نقلق على داخلنا من تعكير المياه الصافية في المجتمعات الآمنة، لأن وعيه -أي المجتمع- يعلم أن ذلك ما كان يحدث لها، لو أنها راهنت على تعايشها، وعلى حقوق الكل في معتقداتها، وإمكانية التعايش معهم في ظل الاختلاف في إطار الدولة الواحدة، بل والولاية الواحدة، لذلك هنا، منطقة وعي اجتماعي خالص، فلو توافر للمجتمعات الآمنة، لما نجح المتربصون بها، وتربح المسترزقون منها، وتمكنوا من قلب عاليها سافلها، وأدخولها في أتون صراعات بلا أفق نهائي لها.

فهذا الوعي الاجتماعي العماني، هو صناعة مجتمعية تأسيسا، وسياسية تعزيزا، وأمنية ديمومة، ومن ثمَّ يُضفي عليها مرة أخرى البعد الاجتماعي كقناعة والتزام بالتعزيز والديمومة، فالكل يحمل هذا الوعي الذي يقودهم للالتزام والتنازل إن تطلب الأمر؛ بحيث نجد الآن في أي مسجد من مساجدنا -ولله الحمد- كل المذاهب تمارس شعائرها بكل تجرد وشفافية.. ففي المسجد الواحد هناك من يسبل يديه، وهناك من يضع اليد اليُمنى على شقيقتها اليسرى، وهناك من يفرش في موضع سجوده.. وكلها ممارسات تتم في أمن وأمان.

لذلك، فلا غرابة ولا استغراب فيمن يقول إنَّ سلطنة عُمان حالة استثنائية في المكانين الإقليمي والعالمي، وكذلك في مكانها الجغرافي؛ لأننا نمارس حياتنا المعاصرة -كسلوك وثقافة- من أصول ثقافة عمانية إسلامية عميقة، امتدت مع عُمان التاريخية وإنسانيتها لقرون عديدة حتى تشربت الأرض بها، وتتنقل للإنسان توارثا جيلا إثر جيل، ولنا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة واستشهادا بالخيرية الدائمة لأهل عمان (إنسانا وأرضا): "لو أنَّ أهل عُمانَ أتيتَ، ما سبُّوك ولا ضربوك".

لدينا هذه الأيام استشعار وادراك رفيع واصل بهذا الحديث الشريف، وقد كان لنا معه وقفة في مقال سابق معنون باسم "الاستظلال بأمان الهوية العمانية" بعد زيارتنا لتونس الأخيرة، فرأينا من خلالها كيف ينظر إلينا الخارج؟ وشدَّنا الإطار القيمي الحاكم لهويتنا، وهو إطار لن يخرج عمَّا نتناوله في مقالنا اليوم، بل هو الذي يدفع بنا إلى التعاطي معه في هذا المقال الاستثنائي عن يوم النهضة العمانية، فكل من نجد من الأشقاء التوانسة في المطار أو الأمكنة العامة، يحييون بتحية الإسلام مقرونة بمصطلح يحرك العواطف والمشاعر التاريخية، ويسقطها على حاضرنا، ويستنطقه بأعلى صوت، والتحية هي "السلام عليكم يا أهل عمان"، والعبارة مبنية على أساس تاريخي، وعلى معرفة بسريانه -أي هذا الأساس- في حياتنا المعاصرة (امتدادا واستمرارا).

ذالكم هو إطارنا الحاكم لواقعنا الحاضر، وينبغي لأن يكون استمرارا لمستقبلنا؛ لأن العالم الخارجي يرانا من خلاله دولة مختلفة عن الدول الأخرى، دولة تاريخية الأعماق حديثة المسارات، تمتزج فيها الثنائية في الشخصية العمانية، بقيم وأخلاق ثابتة لا تتغير مع تغيُّر الماديات المعاصرة، وهذا ما يعكسه ثبات مواقف بلادنا الإقليمية والدولية، وعلاقاتها التي بُنيت على أساس الحياد وعدم التدخل في شؤون الغير.

وهذه الإنجازات الكبرى التي تحققها نهضتنا المباركة قد انعكست إيجابا على تصنيفاتها العالمية؛ ففي الوقت الذي ينفجر فيه الإرهاب في وجه الكثير من الدول، وتصنف على رأس القائمة، يأتي تنصيف بلادنا "صفر" في الإرهاب، وهذا مرده لما سبق ذكره، وهذا من إنجازات النهضة العمانية الحقيقية، ومن حق الإنسانية علينا أن ننقلها في يوم نهضتنا المباركة للعالم المتصارع بسبب فكره وخياراته الأيديولوجية غير القابلة للتعايش ليس في إطار مكاني واحد ـ بل وزماني كوني.

ونحن هنا، لا ندَّعي المثالية، فأحيانا تحدث عندنا حالة جنوح بشرية لمثل تلكم الأمراض، لكننا نستدركها سريعا، بوسائل قد نتفق، وقد نختلف معها، لكنها في النهاية، تعيد المسار نحو المسير السليم؛ لذلك ليس لدينا قلق من تجددها؛ فلدينا تجربة في كيفية التعامل معها، ولن نزعم كذلك بعدم وجود تحديات لهذا المسير، بل نرى هناك تحديات كبيرة خاصة في الخيارات الاقتصادية والمالية الجديدة، ومدى تأثيراتها مستقبلا على تلكم المنجزات الفريدة والمتفردة، وكل من يملك وعيا مرتفعا بها، يمارس دوره في النصح والتحذير، وتقديم الحلول، ممارسة لحقه الأصيل في التعبير عن رأيه في إطار الثوابت لمواجهة تداعيات المتغيرات والتحولات في تدافعية وطنية مشروعة ومقبولة.

وحتى هذه الجزئية الأخيرة، تعدُّ من كبرى إنجازات نهضتنا العمانية المعاصرة، وتنفرد بها إقليميًّا؛ لأن كل انتقاد لا يفسر "معارضة"، وإنما حرص على تعزيز الثوابت وتقويتها من مختلف صور الجنوح البشري، وكحق من حقوق المواطنة في التعبير عن الرأي والرأي الآخر.

كل عام ومؤسس نهضتنا المعاصرة في صحة وعافية وعمر مديد، وحفظ الله بلادنا في أمنها وأمانها واستقرارها، وكل عام والشعب العماني في تقدم وازدهار.