اشبعوا من أحبابكم قبل أن يُشبعنا فقدانهم كمدا

مروان المخلافي | اليمن

 

ما أقصر الحياة ببعض أحبابنا الذين كانوا خير معوان لنا في هذه الدنيا التي عشناها بحلوها ومرها معهم وفي رحابهم وبين أيديهم ، لم يبخلوا في يوم من الأيام بأن كانوا  لنا الجدران الساندة التي نتكئ عليها في حياتنا ، ونواجه بها الصعاب من عاديات الأيام ، وغوائل الدهر نتجاوز ذلك إلى فسحة من العيش ، ودرب آمن في هذه الحياة .

وللأسف الشديد ففي واقعنا لم نعد نشاهد نظرات الحب الحقيقية إلا على من رحلوا هناك حيث المقابر، وعلى من اختطف المرض صحتهم في المستشفيات،  ومن غادرونا بعيداً حين لم نعد نرى منهم إلا أطلالاً بالية تحكي الأنس المسافر ، وغياب الحضور، ولربما نعيش لحظات الحب هذه برهة من الزمن لا تكاد تستقر في قلوبنا وأرواحنا وذاتنا حتى يتبدل حالها إلى سابق عهدنا من قسوة في القلب تذهب عنا قيمة من نحبهم إلا عند النهايات المؤلمة .

ما زلت أتذكر موقفاً قرأته لإنسان عاش لواعج هذا الحرمان حيث قال:

كان أبي إذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضاءً وأنا خارجها قال لي: لم لا تطفئه ولم كل هذا الهدر في الكهرباء ، وإذا دخل الخلاء ووجد الصنبور يقطر ماءً قال:  بعلو صوته لم لا تُحكم غلقه قبل خروجك ، ولم كل هذا الهدر في المياه..

دائما ما ينتقدني ويتهمني بالسلبية. ويعاتب على الصغيرة والكبيرة ، حتى وهو على فراش المرض لن ينفك حاله عن ذلك .

إلى أن جاء - يقول - يوم وجدت وظيفة، اليوم الذي طالما انتظرته، حيث واليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى، وإن تم قبولي - يحدث نفسه - فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة، وسأرتاح من أبي وتوبيخه الدائم.

استيقظت في الصباح الباكر،  ولبست أجمل الثياب وتعطرت وهممت بالخروج فإذا بيدٍ تربّت على كتفي عند الباب، التفت فوجدت أبي مبتسمًا رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه بشكل أكبر من ذي قبل،  وناولني بعض النقود وقال لي: أريدك أن تكون إيجابياً واثقاً من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال، وتقبلت النصيحة على مضض وابتسمت وأنا أتأفّف من داخلي، حتى في هذه اللحظات وفي مرضه  لا يكف عن إسداء النصح لي وكأنه يتعمد تعكير مزاجي في أسعد لحظات حياتي.

خرجت من البيت مسرعًا واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة، وما أن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجبت كل العجب، لم يكن هناك حراس عند الباب ولا موظف استقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة.

وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحد، مباشرة ومن دون تفكير وبتلقائية تذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابياً،  فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيداً وكان بطبيعة الحال أمراً سهلا.

ثم تتبعت اللوحات الإرشادية، ومررت بحديقة الشركة، فوجدت الممرات غارقة بالمياه التي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي امتلأ بالماء إلى آخره وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه، فتذكرت تعنيف والدي لي على هدر المياه، فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ، ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة إلى حين عودة البستاني. ثم دخلت مبنى الشركة متتبعاً اللوحات.

وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمت لا إرادياً بإطفائها خوفا من صراخ أبي الذي كان يصدح في أذني أينما ذهبت. إلى أن وصلت إلى الدور العلوي ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة.

قمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين وجلست أنتظر دوري وأنا أتمعن في وجوه الحاضرين وملابسهم حداً جعلني أشعر بالدونية من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته، والبعض يتباهى بمؤهلاته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية. ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة. فقلت في نفسي إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد رُفضوا فهل سأقبل أنا ..هممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتي قبل أن يقال لي نعتذر منك، وبالفعل انتفضت من مكاني وهممت بالخروج، فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول، فقلت لا مناص سأدخل وأمري إلى الله. دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إليّ وابتسموا ابتسامة عريضة ثم قال أحدهم متى تحب أن تتسلّم الوظيفة:

ذهلت لوهلة وظننت أنهم يسخرون مني أو أنه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه.

تذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقا من نفسي.

فأجبتهم بكل ثقة: بعد أن اجتاز الاختبار بنجاح إن شاء الله.

فقال آخر لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر.

فقلت ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالا واحدا ...

فقال الثالث نحن ندرك جيداً أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أي من المتقدمين. ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليا ...

فصممنا مجموعة اختبارات عملية تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه في طريق كل متقدم، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وضعت في كل أروقة الشركة.

يقول: حينها فقط اختفت كل الوجوه أمام عيني ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شيء، ولم أعد أرى إلا صورة أبي ذلك الإنساني الذي أشبعته.نفسي تأففاً وتضجراً من كل شيء كان يصنعه معي. ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة. شعرت برغبة جامحة في العودة إلى البيت والانكفاء لتقبيل يديه وقدميه.

فوراً عودت للبيت بعد قبولهم لي بشغل الوظيفة ، عند باب الدار رأيت أقاربي و الجيران مجتمعين ينظرون إلي نظرات يأس وعطف ، فهمت كل شيىء بأنني وصلت متاخراً جداً جداً وأنه قد فات الأوان.

يعلم الله بحرارة الدموع التي سكبتها من قلبي ووجداني لرحيل أبي الذي لم.أتعرف عليه في حياتي على سنواتنا الطوال التي عشناها معاً. اشتقت إلى سماع صوته و نغمة صراخه تطرب أذني ، وأسأل نفسي لماذا لم أر أبي من قبل ، كيف عميت عيناي عنه .

عن العطاء بلا مقابل، وعن الحنان بلا حدود، وعن الإجابة بلا سؤال، وعن النصيحة بلا استشارة . ومهما قيل في هذه الواقعة من أنها حبكت أو بنيت من بنان الأفكار تبقى بكل تفاصيلها جانب من مشاهد الحياة التي لاتخطئها العين ، فقط مع اختلاف الظروف لكل واحد منا.

ولماذا ياترى مات فينا الاهتمام بمن حولنا في هذه الحياة مع تقدم الأيام والسنون فينا وبإحساس تبلد معه الشعور بكثير من المظاهر التي تجمد معها توقد الإنسان المتقد بأحبابه الذين ضخوا فيه الكثير من منعشات الحياة، وولدوا لديه معنى أن يكون لديه وجدانه الخاص في تحسس المحيطين من حوله ممن بذلوا من جهدهم ووقتهم ،ومن صحتهم ومالهم، ومن تفكيرهم وحبهم، ومن قلوبهم وأرواحهم، واعتصروا له من خلاصة تجاربهم ما يبلغوا به العيش في الحياة باطمئنان بال وهدوء نفس .

زميل لنا في قمة الأخلاق وغاية الأدب ، ألفناه لروحه الطيبة ، وتوطدت صلتنا به لقلبه الطهور . ووجدانه النبيل في رمضان تعود على تضييف بعض زملائه النازحين ، يقسم أيام الشهر عليهم بمحبة وإنكار ذات .

قبل أيام قام أحد الزملاء بممازحته في أن تكون عزومته في النصف الثاني من رمضان لهذا العام لانشغاله في النص الأول من الشهر. أجابه بشرود وفتور ،ومتبسماً بنصف ابتسامة أن سيحصل ذلك بإذن الله لو أحياهما الله لذلك الوقت لانشغاله ببعض أمور العمل بين يديه.

انصرف صاحبنا متسائلاً هل فهم كلامي الذي كنت أمازحه به ، أم أنه مع ضغط العمل لم يركز على كلامي. وما هي إلا يومان بعد هذا الموقف يأتي خبر بأن زوجته توفاها الله بسبب تعسر ولادتها في مولود عاش ليرى النور في حين رحلت أمه عنه وعن الدنيا به.

كم أثر هذا الموقف في زميلنا الذي كان يمازحه من يومين ، وهناك حيث مجلس العزاء تقدم إليه ليعزيه في موت زوجه، شرفت منه دموع في غاية الحرارة وقال له سامحني " كنت أتمنى أن تفطر عندي هذا العام ، لكن سندي الذي كنت أعتمد عليه قد رحل عني.

لنشبع من أحبابنا قبل أن يرحلوا فما في الدنيا أعز من العيش في ظلال الأحباب الذين يزينون لنا الحياة بأنسهم وصخبهم وضجيجهم ، كل هذا بعد رحيلهم سيصير ركام من لحظات الذكريات التي نتمنى لو يعود بها الدهر لنعيشها بكل تفاصيلها.

وهناك جانب من الناس ظلموا أنفسهم بصور تقشعر لها الأبدان، عوضاً من أن يتمسكوا ببقايا الأحباب العالقة من ذكرياتهم يقومون بالتفريط بما يجب الانتباه له للحفاظ عليه من بقايا الراحلين وعطر من غادرونا وتركوا لنا أعز أماناتهم. هذه الحادثة سمعت بها دينة القصيم صحت من نومها على وقعها ، قمر من أقمار الجنة يغادر المدينة شاكياً لربه جور من أتمنت لديهم روحه.

ففي يوم ولادته توفيت امه،وتركته وحيداً ليحتار والده في تربيته فأخذه لخالته ليعيش بين أبنائها لانشغاله في أعماله صباح ومساء . تزوج الأب بعد سبعة أشهر من وفاة زوجته، وأتى بولده ليعيش معه ، وبعد مضي ثلاث سنوات وأشهر أنجبت له الزوجة الجديدة طفلين بنت وولد ،  وكانت زوجة الأب لاتهتم بالصغير الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره حيث كانت توكل أمره إلى الخادمه لتهتم به إضافة إلى أعمالها في البيت من غسل ونظافة وكنس وكوي. وفي يوم شديد البرودة دعت الزوجة أهلها للعشاء واهتمت بهم  ، وأهملت الصغير الذي لم يكن له غير الله ، حتى الخادمه انشغلت بالمأدبة ونسيت. إلتم شمل أهلها عندها ودخلوا في أحاديثهم حتى جاء موعد العشاء، فأخذ ينظر إلى الأطعمة المنوعة وكله شوق أن تمتد يداه إلى الحلوى او المعجنات  ليأكل منها ويسد جوعه الذي لم يكن أحد يعبأ به .

لم يكن من زوجة أبيه إلا أن أعطته بعض الأرز في صحن وقالت له صارخه : اذهب وكل عشاءك في الساحه (ساحه البيت). أخذ صحنه مكسور القلب حزين النفس ، وخرج بصحنه إلى ساحة البيت وهم منهمكون بالعشاء ونسوا أن هذا الطفل الصغير محتاج لحبهم. جلس الطفل في البرد القارس يأكل الأرز ، ومن شدة البرد انكمش خلف أحد الأبواب يأكل ماقدم له ولم يسأل عنه أحد أين ذهب .. نسوا وصيه رسول الله صلى الله عليه وسلم باليتيم.

الخادمة انشغلت في الأعمال المنزلية ونام الطفل في مكانه في ذاك الجو البارد بعدما خرج أهل الزوجة وقد استأنسوا وأكلوا.. أمرت زوجة الأب الخادمه أن تنظف البيت ، وأوت إلى فراشها ولم تكلف نفسها حتى السؤال عن الصغير .

عاد زوجها من عمله سألها عن ولده فقالت: مع الخادمة وهي لاتدري هل هو معها أم لا ، فنام الأب ، وفي نومه جاءته  زوجته الأولى في امه تقول له :انتبه للولد . استيقظ مذعوراً وسأل زوجته عن الولد فطمأنته أنه مع الخادمة ولم تكلف نفسها أن تتاكد ، نام الأب مرة أخرى وجاءته زوجته مرة ثانية في منامه تقول له :انتبه للولد. استيقظ مذعوراً مرة أخرى وسأل زوجته عن الولد فقالت له أنت تكبر الأمور، وهذا حلم والولد بخير واكتفى بكلامها ونام .ى وجاءته  زوجته في المرة الثالثة تقول له : (خلاص الولد جاءني).

استيقظ مرعوباً واخذ يبحث عن الولد عند الخادمة فلم ييجده. عندها جن جنونه وصار يركض في البيت هنا وهناك حتى وجد الصغير ولكنه كان قد فارق الحياة لقد تكوم على نفسه وازرق جسمه قد فارق الحياة من شده البرد وبجانبه صحن الارز قد أكل بعضه وترك الباقي. أخذه بين ذراعيه تتفجر منه سيول من الدموع يتمنى معها لو تعود به الحياة مع ولده ليعوضه ما حرمه في الحياة من صغره .

تعليق عبر الفيس بوك