"يوميّات سراب عفّان" لجبرا إبراهيم جبرا(4-4)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

العشق الذي يمتدّ نحو الوطن
د ـ نائل عمران: ظلّ سراب الأجمل:
وعلى الرغم من أن شخصيّة نائل عمران تشكّلت مستقلّة، وبعيدة عن وعي سراب، إلا أنّ حالة الفقد التي عانى منها فتحتْ معبراً استطاعت أن تنفذ من خلاله إلى قلبه، غير أننا لن نعوّل على حالة الفقد فقط؛ بل على الطاقة الجاذبة التي تمتلكها. فهذا الرجل الذي تكاد تغيب صفاته الجسدية عن السرد، تنضج صفاته النفسية على نار الفقدان، فيبحث عن حق الآخرين؛ ليحقق ذاته الناقصة، ويعمل على إعطاء الإنسان حقه في الحياة، وفي كل ما يتصل بها: "نريد أن نعطي الإنسان حقه في الكبرياء، في الجمال، في الحرية. ولكن ما الذي نحققه من هذا العطاء (...) ألا ترين، يا سراب، أنّ أهل الحظر والمنع هم سادة الواقع، هم القابضون على إمكانيات الحياة من أعناقها؟"، ص171.
غير أنه بخلاف سراب، كونه رجلاً عركته الحياة، يبدو أقلّ تفاؤلاً، وأقل إقبالاً على البدائل، فحين تصرّ سراب على قولها: "كل شيء جميل، كل شيء يستحق أن يعيش الإنسان من أجله"، يجيبها: "أتمنى لو أصدّق كلامك. كلنا نبدأ من الثقة، ثم نرانا ننزلق في مزالق الخيبة"، ص171.
لقد اكتفى نائل، قبل ظهور سراب، بالتعويض عن سهام، عبر النظر إلى تمثالها الذي يصابحه ويماسيه في غرفة نومه، ولكنه أضحى مع سراب باحثاً عن تعويض فقدانه بالحب الجارف الجديد الذي يسمح لسهام بالظهور، على استحياء، في حضور سراب، كما نرى في السياق التالي:
"رفعت عينيها إليّ فجأة، فذعرتُ لما بدا فيهما من يأس، رغم الابتسامة الباهتة على الشفتين. وتذكرت سهام في تلك اللحظة. تذكرتها وهي تجالد المرض، وتحاول إخفاء آلامها عني"، ص103.
غير أن الحضور الطاغي على الفقدان في حياة نائل، لم يستمر سوى ستة أشهر، غادرت بعدها سراب إلى المجهول؛ لتضعه من جديد أمام فقدان آخر، يتجدّد حتى بعد لقائهما القصير في باريس. ويمكن أن نستشهد بالسياقين التاليين تدليلاً على أثر الفقدَين فيه:
•    "كانت الأشهر الستة الأولى صعبة جداً. كنت أفيق كلَّ صبح على تمثال سهام، فأراها ترنو إليّ بعينين واسعتين حزينتين"، ص223.
•    "كنتُ زهاء ستة أشهر أتعامل مع وهم جميل، جاءني لابساً قناع الواقع، وأدخلني في مراياه، كما كانت سراب تردّد لي دائماً، ثم أعادني إلى حيث لا وهم ولا قناع"، ص218.
يذكر هنا أنّ نائل لم يسمح لتالة/ زوجة شريف أن تسدّ هذا الفقدان، على الرغم من أنها كانت على استعداد دائم لذلك، بل على استعداد لتكون على علاقة به، حتى قبل وفاة سهام،. وقد عملت ـ حتى قبل زمن السرد الابتدائي ـ على التقرّب من نائل الذي كان يصدّها باستمرار، ولا تتوانى أن تزوره مع زوجها في بيته؛ لتهمس في أذنه حكاية عشقها المستمرة، وتبدي انفعالها وغضبها من حكاية عشقه الجديدة مع سراب. وها هي ذي تزوره مرة في فقدانه الثاني، حاملة طاقة من الورد الأصفر، وتتباطأ عن زوجها في الخروج لتسأله عن سراب: "فتباطأت تالة معي عن عمد، لتسألني بصوت منخفض: لماذا لا تطمئنني؟ أما زلت على اتصال بها؟ ولما أجبتها بالطبع فحّت من بين أسنانها: أنت أكبر مجنون"، ص229.
وقد تخلّص، من طاقة الورد، بمجرد خروج تالة من المنزل، لأنها "لا تحبّ سراب"، كما أخبر أخته سالمة: "ولما عدنا إلى غرفة الجلوس انتزعتُ باقة الورد(1) المتألقة من المزهرية، وسرت بها، وسيقانها تقطر ماء، وألقيت بها في حاوية القمامة"، ص229.
لم تفلح إذن إغراءات تالة، ولا شعرها الكستنائي، ولا شفتاها الرقيقتان، ولا بريق ابتسامتها، ولم يفلح إلحافها المستمر في دخول قلب نائل. لقد صدّها، ولم يسمح لها بالتدخل في شؤون قلبه، تماماً كم صدّتها سراب، حين حاولت تالة إبعادها عنه قائلة:
•    "كيف تصورت إنك تستطيعين أن تمدي يدك إلى قامته، أن تقفي بجانبه، أن تخاطبيه، كما رأيتك تخاطبينه أمس طوال الغداء، كأنه عشيقك؟"، ص189.
•    "اسمعي، هذه علاقة يجب أن تضعي حداً لها، اليوم، الآن، ولن أتردد في الاتصال بوالدك الدكتور علي عفان، وإعلامه بما أعرف"، ص190.
وجاء رد سراب جاء صاعقاً، يشبه ردّ نائل الحازم الهادئ في مضمونه ويختلف عنه في شكله، بما يناسب صفات كل منهما؛ إذ ألقت مفاتيح المكتب على المنضدة، وتركت تالة في حالة ذهول، تاركة العمل، مؤكدة أن عملها لدى زوج تالة لا يمنحها حقّ التدخل في شؤونها الخاصة: "وتناولت حقيبتي في النهاية، دون أن ألتفت نحو تالة التفاتة أخيرة، كأنها غير موجودة، وخرجت، وأغلقت الباب ورائي"، ص190.
وينبغي هنا أن نشير إلى أنّه لم يكن من المسموح لسراب نفسها أن تمسّ سهام بكلمة؛ ليس لأنّ حبّها لم يتمكن من قلب نائل، وليس لأنّ حبّ سهام ما زال جارفاً، بل لأنّ كلمات سراب عنها تنكأ جرح وفائه، وتنخزه، وهذا ما يقوده إلى عصبية ليست من طبيعته:
"واعترفت له: أتعلم؟ جعلت أغار من وجودها ولو حجراً في غرفتك؟
فلوّح بكلتا قبضتيه بعنف غريب: لا، لا، سراب. لا تفعلي ذلك. هي التي يجب أن تغار من وجودك في حياتي، من حضورك في كل لحظة في ذهني، في دخيلتي"، ص170.
رابعاً ـ النص الآخر في لغة المرايا:
تعتمد لغة رواية "يوميات سراب عفّان" على استراتيجيات سردية متعددة، من أبرزها رفع كفاءة الخطاب السردي إلى الشعرية الحكائية، وحضور النص الآخر في نصّه على نطاق واسع، وهما استراتيجيتان لا تخصان لغة هذه الرواية، بل تعدّان من استراتيجيات خطاب جبرا السردي.
نقرأ في تضاعيف السرد لغة المرايا، وانعكاسها، وتبادلها بين الشخصيات، ولغة الجبل والمطر، وماء المرشّ الذي يتساقط على جسد سراب، نقرأ لذة النص، حسب المصطلح البارتي، لذة الكتابة التي يمارسها جبرا/ المؤلف، وتمارسها سراب/ الشخصية، لنصل إلى لذة القراءة. ها هي هذي سراب تحوّل استحمامها إلى ما يشبه القصيدة، بعد أن اشترت رواية نائل عمران: "ما ألذّ الماء! الماء! نائل عمران يا صانع الأوهام لا تدخل في المرايا، تعال ادخل الماء، ادخل الشلال، ادخل الأنهار الفائضة، ادخل البحار"، ص19.
وإذ ترتَفِعُ اللغة إلى مستوى التثقيف تستدعي حضوراً ذهنياً عالياً، وتتطلّب قارئاً من طراز خاص، يستطيع إقامة العلاقات المفترضة بين نصّ الكاتب والنصّ الذي استدعاه، نسمع في رواية جبرا، صوت الطيب الهادي صديق نائل، وهو يتلو القرآن الكريم:
"راح الطيب يتلو بصوته العميق، ونحن نعبر الساحة العريضة المائجة بالناس: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)(2)
، صمت لحظة مرسلاً عينيه بعيداً ثم أضاف: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهون * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) (1).
كما نقرأ إشارات سردية متعددة أخرى تحيل إلى الثقافة العربية من مثل قبور أبي العلاء المعرّي التي تتزاحم فيها الأضداد(2)،  وابن حزم(3) الذي كان حاضراً  بين العاشقين ليوصّف الحالة التي يعيشانها. قال نائل: "هذا هو الهيمان الذي تحدّث عنه ابن حزم الأندلسي، الهيمان الذي يسبق الجنون. (...) ضحكتْ: رحمك الله يا ابن حزم.. ألا ترى أنني تخطّيتُ الهيمان، ودخلتُ مرحلة الجنون، ومنذ زمان؟"، ص170.
ولم تغب الثقافة الغربية عن السرد، فتمت الإشارة في عتبة الرواية إلى الفردوس المفقود(4)، وفي تضاعيفها إلى الكوميديا الإلهية(5)، وأليس في بلاد العجائب(6)، وراسين(7) وكورني(8) وستانلافسكي(9) ودوستويفكسي(10)، كما تمتّ الاستعانة بالأساطير، على نحو ما نرى في إشارة نائل، في حديث له مع سراب، إلى هيلانة(11) التي اشتعلت من أجلها حرب طروادة.
ولم يغب الفن والنحت والموسيقى عن الإشارات السردية، فتمت الإشارة إلى الأكروبوليس(12) في أثينا، وإلى الموسيقى التي كانت تملأ آذان نائل وصديقه الطيب الهادي في باريس، قبل أن يبدأ الأخير بترتيل الآيات القرآنية، كما تمت الإشارة إلى سوناتة بيتهوفن/ الأباسيوسوناتا (13) التي امتزجت بلذة القبلات بين العاشقين، وإلى أغنية فرنسية قديمة هي بليزير دامور(14) التي انبعثت من مقهى فندق الأانسام بينما كانا يجلسان معاً.
ولعلنا نشير هنا إلى صعوبة التلقّي الذي يربك السرد، خاصة لقارئ ليس لديه مرجعية عن هؤلاء أو عن بعضهم، وهذه مشكلة أزلية تفترض أن يتغيّر أحد الطرفين (المرسل بتغيير خطاب الرسالة ـ والمتلقي بتثقيف نفسه)، حتى يكون الاتصال على أفضل وجه ممكن. كما أن مناقشة القضايا الفكرية الصرف في بعض السياقات السردية، أدت إلى جنوح اللغة نحو ذهنية تعيق انسياب السرد الحكائي؛ بسبب حاجتها إلى كدّ عقلي. ومن ذلك السياقُ الذي كتبته سراب، ثم قرأته لنائل، عن الأرقام ورمزيتها وأثرها في الكون: "وهي عندنا ترمز للعنة ظهرت لنا من زاوية غير مرئية، واحتلت الجسد الإنساني، محدثة انشقاقاً بالرمز نفسه، الرمز الذي يطلبه الفكر، ويوجهه الظرف المحيط بكثافته الخرقاء اللزجة. وتبدأ حالة الانفصال بين الذات والنفس والفكر، وتنتهي بأشكال متناهية من التكوين الأحادي لكل منها، يتطابق زمنيا مع لحظة المواجهة الحقيقية مع جسد آخر"، ص158.
وثمة إشارة أخيرة لا بد منها إلى السياقات الشعرية التي درج جبرا على استخدامها في رواياته؛ إذ لم تكن هذه الرواية خارجة عن هذا الديدن، وقد تمّ فيها تقديم عدد من النصوص الشعرية التي رفعت من سوية اللغة ذاتها، غير أنني يمكن أن أقول بشيء من الصراحة أنّ افتقار هذه القصائد إلى الموسيقى (وهذا رأي شخصي)، حال دون ارتقائها إلى سوية الشعر الحقيقي، وإذا كانت هذه القصائد قد اعتمدت على وحدة النص وتناميه وكثافة صوره، فقد بدت مثل شعر جميل منقول من لغة أخرى. ومن ذلك القصيدة التي كتبها طلال الصالح، وأهداها لسراب، وهي قصيدة تقوم على وحدة موضوع، لشاعر لا يريد الإجابة عن سؤال حبيبته: "(أتحب عيني؟)" إلا بعد أن يتغنى بجمالها الكلي: خديها/ الفاكهتين وشفتيها/ الجمرتين ونهديها/ العابثين وقوامها/ الصفصافة، وساقيها/ السيفين، وكاحليها/ المنوّرين، وقدميها/ الحمامتين؛ ليقول أخيراً:
"فقلت: آه، عيناك؟
أأستطيع التحديق في الشمسِ
إذا سطعتْ؟
دعي عنك شمسين اثنتين.
قالت: إذن لمن كحّلتُهُما؟
قلت: للدنيا، لكي تُشرقا
حتى في ظلمة الليلِ"، ص142.
هوامش:
(1)    الباقة من البقل: الحزمة منه، والأصوب أن يقال: طاقة الورد.
(2)      سورة فاطر: 33.
(3)      سورة يس: 55ـ 56.
(4)      أبو العلاء المعري (363ـ 449 هـ): شاعر مكفوف، من أشهر شعراء العصر العباسي، لقّب نفسه "رهين المحبسين"، بينما لقّبه النقاد "شاعر الفلاسفة" أو "فيلسوف الشعراء"، وهو صاحب "اللزوميات" و"رسالة الغفران". والنسق السردي المشار إليه يحيل على قول المعرّي: ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً/ ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ.
(5)      ابن حزم الأندلسي (384ـ 456 هـ): عالم ومفسّر وفقيه وأديب، من أشهر كتبه الأدبية "طوق الحمامة في الألفة والألاف".
(6)      "الفردوس المفقود": ملحمة شعرية للكاتب الإنكليزي جون ملتون (1608ـ 1674م).
(7)      "الكوميديا الإلهية": ملحمة شعرية طويلة للكاتب الإيطالي دانتي أليجيري (1265ـ 1321م).
(8)      أليس في بلاد العجائب: رواية للأطفال، كتبها تشارلز لوتويدج دودسون، باسم مستعار هو لويس كارول (1832ـ 1898م)، وتحكي عن أليس التي تسقط من خلال جحر أرنب في عالم خيالي تسكنه مخلوقات غريبة، فتعيش سلسلة مشوّقة من المغامرات.
(9)      جان راسين: كاتب مسرحي فرنسي (1639ـ 1699م)، من مسرحياته: "فايدرا" و"أندروماك".
(10)      بيير كورني: شاعر مسرحي فرنسي (1606ـ 1684م). من مسرحياته: "أوديب"، و"هوراس".
(11)      قسطنطين ستانلافسكي: ممثل ومخرج مسرحي روسي (1863ـ 1938م).
(12)      فيدور دوستويفكسي: كاتب وصحفي وفيلسوف روسي (1821ـ 1881م). من رواياته: الجريمة والعقاب" و"المقامر".
(13)      تقول الأسطورة الإغريقية أنّ دعوة وجّهت لكل الآلهة؛ لحضور أفراح بيلي وتيتيس على جبل الأولمبوس، باستثناء إلهة الشقاق إيريس. فقامت إيريس انتقاماً لذلك بإلقاء تفاحة ذهبية في الحفل، وكتبت عليها: "هذه التفاحة هي للأكثر جمالاً". فدبّ الخلاف بين ثلاث من إلهات الإغريق (هيرا وأتينا وأفروديت)؛ إذ زعمت كل منهن بأنها الأجدر بالتفاحة، فحكم كبير الآلهة زيوس بأن التفاحة تعود إلى أفروديت (إلهة الحب)، بعد أن وعدته أن يفوز بقلب هيلانة التي خطفها فيما بعد، وكان ذلك سبباً لنشوب حرب طروادة التي تنتهي بخدعة الحصان الشهيرة، وقد تمّ توثيق الأسطورة في ملحمتي هوميروس: الإلياذة والأوديسة. أما حرب طراودة الحقيقية فقد جرت حوالي سنة 1200 قبل الميلاد؛ بسبب الصراع على سيادة التجاره في الدردنيل.
(14)      الأكروبوليس: معبد قديم يقع على تلة من تلال العاصمة اليونانية أثينا، وهو يعد من أشهر المعابد اليونانية القديمة. وتعني كلمة أكروبوليس: المدينة العالية.
(15)      الأباسيو سوناتا: هي إحدى سوناتات البيانو الشهيرة التي ألفها لوفيج فان بيتهوفن (1770ـ 1827م).
(16)      بليز ير دامور: هي أغنية للمغنية الفرنسية نانا موسكوري، ومن كلماتها: لذات الحب، ما أسرع ما تزولَ أحزانُ الحب، ما أطول ما تدوم"، تمكن مراجعة الرواية، ص168.

 

تعليق عبر الفيس بوك