قصة قصيرة:

بندقية الحاج مغني


علي السباعي | العراق

((إِنَّ ما يمنعني عن التفكير في الموت أنَّ في داخلي قدراً كبيراً من الحياة)).((ألبيركامو))
سرقه صوت الرصاص مما هو فيه من خدر، حطم جدران الأمان، تصدعت سقوف الخدر، هيهات بعد ذلك أن يحصل على الاستقرار، تساءل في ذات نفسه، من يا ترى قد توفيّ في القرية؟
استأنف رجال القرية إطلاق الرصاص، والسماء تزغرد مزدانة بنجوم مضيئة سرعان ما تتخافت، تذوب أمام برد السماء الحبلى بالنجوم الغازية من فوهات ملتهبة.
هرع  ((الحاج مغني)) متأثراً لوفاة عزيزه، وصديقه ((الحاج دنيف)) اجتاحته أحاسيس فقدان جزء من الروح، غالبته دموعه، هاجت في مقلتيه تكسر جدراناً شفافة من الروح العذبة.
بدأت الشمس ترسل أشعتها دافئة، وثمة أسراب من الطيور تستحم بالدفء تحت وهج الشمس، حضر ((الحاج مغني)) مجلس الفاتحة، وبمعيته مجموعة كبيرة من الرجال. أطبقت  الظلمة في طريق عودته، وجد باب داره مفتوحاً، ولجه مستغرباً، جال في خاطره العديد من المخاوف صرخ عالياً:
ـ بنت الناس!
فلم يأته أي جواب، فعاود الصراخ:
ـ بنت الناس...! يا بنت الناس...!!!
تسمر ((الحاج مغني)) مذهولاً، شعر بأنه محاصر بعاصفة من القلق القاتل الذي بدا ينهش أحشاءه، تجهم وجهه وشرع يبحث في كل مكان عن زوجته: (بنت الناس رمان) التي تزوجها على نسائه الخمسة، مما حدا بأولاده الكبار الاعتراض على والده لزواجه من امرأة شابة- غانية ـ إلا أنه في لحظاته القادمة تبادر إلى ذهنه خطف امرأته، خرج إلى المنازل المجاورة يسألهم عن زوجته، جاءه الرد، كما توقعه، انبجست الدموع الحبيسة من عينيه، وقد لاحت خيبة الأمل على محياه، قال بصوت مفجوع:
ـ لن أدعها تضيع مثلما ضاعت سنوات عمري بين الأرض، وقأقأت نساء الدجاج.
أتم الليل نصب خيمته السوداء على القرية، هاجت أحاسيس تنمو في الصدر، وكأنها طحلب يمد فروعه في كل مكان، وعواصف ربد بدأت تجوب طرقات مظلمة، موحشة، تخفق فيها تساؤلات يتيمة كأنها جراح حبيب خلفته تجربة حب شقي، فتنزف جراح القلب ما دامت العاصفة مستمرة من شدة العذاب عض على نواجذه من وطأة الحسرة.
أراد أن يعبر عن اختطاف زوجته بالفعل عقد عزمه على أخذها بالقوة، بهذا ساقته خطواته إلى منزله ليأخذ معه بندقيته التي رافقته في حروبه كلها، أمسكها بقبضتيه القويتين، ضغط بشدة عليها فشعر كأنه مارد باستطاعته أن يقاتل جيشاً عصرياً لوحده، فيما مضى خاض معارك عديدة دفاعاً عن القرية ـ عن أرضه ـ عن ماله. أما الآن وقد شارف على السبعين فمعركته هذه إثبات وجوده، معركة مع ذاته، وليس مع أولاده، معركة تجعله يرفض كل قيد ـ كل شرط ـ كل ما بإمكانه أن يمس وجوده.
وبينما هو سادر في عزمه لمقاتلة أولاده، انطلقت صليات متتالية من الرصاص فوق رأس ((الحاج مغني)) من رشاش ابنه البكر، بعدما تموضعوا بساتر ترابي أمام دارهم، فلم يأبه بصلياتهم وكأنها أسراب من البعوض، مما دفع ابنه إلى معاودة إطلاق صليات متعددة، متعاقبة، غرضها ثني والده عن عزمه. قال ((الحاج مغني)) بصوته الهادر:
ـ اضربوا ما استطعتم! فأنا قادم.
قال ابنه الأوسط لأخيه:
ـ تنح جانباً لكي أكسر ساقيه بقناصتي هذه.
فشل في إصابة أبيه، وبدلاً من إصابته بساقيه فإذا بالرصاصات تترك ثقوباً في ثوب أبيهم بعدما ألقته على الأرض، وبهذا استمرت رشقات بنادق أولاده، فاض قلبه في فمه، تمنى لو كان صقراً لحلق في الفضاء هارباً من مقاتلة أبنائه.
صرخ بهم من جديد بعدما نهض من على الأرض:
ـ اضربوا فأنا قادم.
غذَّ السير نحو هدفه، وصدى الرصاص يتناهى إلى مسمعه وكأنه همسات عتاب. فملأه بالاعتزاز، والانعتاق مما هو فيه من حالةٍ لا يحسد عليها، قال باحتجاج عنيف:
ـ إنني أعيش حلماً مزعجاً. آه واحسرتاه.
قالها ((الحاج مغني))، وقد جف حلقه، تيبست شفتاه، شعر بالحزن لأجل ذلك، خاض بمجاذيف حزنه وسط بحر الرصاص الهادر ـ وماهي ـ إلا لحظات، وإذا به ينتصب وكله ثقة، وأمله يرفرف أمامه كرايات بيض تتجاسر ملوحة لكل أهل القرية من الشيوخ والشبان الذين تجمعوا لوقف حرب الأب مع أبنائه، تأملهم قائلاً:
ـ أحضروا لي زوجتي قبل أن....
قاطعه أحدهم قائلاً:
ـ هدئ من روعك يا حاج.
أجابه مستغرباً:
ـ كيف تريدوني أن أهدأ وأنت تشاهد بأم عينيك ما يفعله أبنائي؟
قالها، ولمعان الأبوة يشع في عينيه السوداوين. سألهم في ذعر:
ـ أين زوجتي؟
أجابه ابنه البكر:
ـ إنك تحرق نفسك بيديك، وتجعلها ملعونة دنيا وآخرة، لقد جعلتنا مضغة على كل لسان من أجل مو....
تناول بندقيته مباعداً عتلة أمانها متهيئاً للرمي، فتراه كمن يصارع غولاً حين سماعه كلمات ابنه الكبير، اجتاحته رعشة لا مرئية من الغضب ـ فصوتها يسري في جسده كفحيح أفعى، أخذ ((الحاج مغني)) نفساً عميقاً استعداداً لرمي أولاده ـ لولا ـ تدخل أحد شيوخ القرية في لحظة شروعه برميهم قائلاً:
ـ لك ما تريده هدئ من روعك يا أبا مطرود.
هتف ابنه معترضاً، وصوته يسابق فعله:
ـ لن يأخذها إلا على رقابنا.
صدم ((الجاج مغني)) بجواب ابنه، امتلأت عيناه بدموع حارقة تلهب وجنتيه، تملأان عينيه غشاوة، غاب عن الحياة برهة.. تلك الحياة التي أخذ العمر فيها يذهب كخيط الدخان وسط صحراء قاحلة، وصوت أنفاسه اللاهثة كأنها أنفاس أفراس النهر المهتاجة من شدة الجوع، دقات قلبه متسارعة تشابه دقات قلب عداء المسافات الطويلة، قال برزانة:
ـ خاب أملك يا بني، فما زلت أستنشق البارود وصفا الرصاص يحرسان صدري. تمرق رصاصات غادرة فوق رأس ((الحاج مغني))، لكنها كهالة تحيط بالقمر، فكان مشعاً ككتل الضوء التي تحملها حشرات صغيرة في مؤخرتها، وبأجنحتها الشفافة تدخل به إلى عالم لم يألفه، كان ينظر إليه فيما مضى على أنه الوجود الحقيقي في مقارعة أعدائه. أما الآن فلا. كيف يحارب أولاده؟ أي وجود سيثبته لنفسه بمقاتلتهم؟ فقال في نفسه ملتاعاً:
ـ سأرتكب جرماً إن قاتلتهم.
تدخل أحدهم مانعاً حدوث كارثة بقوله:
ـ اذهب يا مطرود لإحضار زوجة أبيك، لأنني سأحل القضية وأتعهد بذلك أمام الجميع.
حضرت ((بنت الناس رمان)) مطرقة الرأس، شعر ((الحاج مغني)) بأن روحه تركض قبل قدميه لاستقبالها، سحبها من ذراعها، وسار ممسكاً إياها من يدها، وباليد الأخرى يمسك بقوة واعتداد ببندقيته، قال والغبطة تفيض من شقوق وجهه المتعب:
ـ يا بنت الناس! مستعد لأن أحارب جيشاً جراراً من أجل عينيك. تحسست ((بنت الناس رمان)) عينيها، راقبت السماء بنجومها المتلألئة تخترق عباءة السماء لتجعل الليل كله مضاءً بمشاعل تحترق نيرانها سعادةً بعودته سالماً برفقتها، فقالت مستفسرة:
ـ ما الذي أخرك عني حتى هذا الوقت؟
تردّد ((الحاج مغني)) وقال:
ـ ها أنذا الآن أمامك يا عزيزتي.
فردت برقة، ولين، ونشوتها عامرة بالحب:
ـ ألهذا الحدّ تحبني يا حاج، رغم كوني..
رفع يده الممسكة بكفها، وضعها على فمها يمنعها من إكمال كلامها، قال بكلمات دافئة:
ـ كنت مستعداً لأن أقتطع جزءاً من الليل لأصنع لك عباءة تحميك من الأعين الحاقدة.
أشاعت كلماته فيها الدفء، قالت منتشية:
ـ الله يحرسك ليّ يا حاج، وإلى الأبد.
استطردت تقول:
ـ كانت قناعتي بك بلا حدود، كنت واثقة بأنك ستأتي لتأخذني، تحملني فوق كفيك كما الطفل الرضيع، لتخلصني من طيش أولادك، وبطشهم، فالساعات المنصرمة كانت فيها كل عذابات حياتي تتلاشى تجاه ـ العذاب ـ الذي أعانيه جراء فراقك، وقلقي من  عدم الرجوع إليك يا حاج!
فبادرها مجيباً:
ـ نعم! يا بنت الناس.
فتساءلت بخبث:
ـ يا حاج مغني! أتحبني أكثر أم نساءَك الأخريات؟
يجيبها وطيف ابتسامة فتانة ترتسم على شفتيه:
ـ أنت بالتأكيد.
تداعبها نسمات الفجر العليلة محملة برائحة الأعشاب المستحمة بندى الصباح الجميل، تترك عباءتها تدفعها نسائم الفجر، ليظهر جسدها مغرداً بالفرحة وطافحاً بالصحة، لتقول متغابية:
ـ كيف بالله عليك؟
زمّ شفتيه بانتشاء:
ـ يا بنت الناس! أنا مثل نخلة ((البرحي)) بدون أرضها ومائها تموت، فأرضي هي: قريتي، والماء أنتِ.
تبتسم بدلال قائلةً:
ـ لقد أشعلت الحرارة في دمي يا حاج مغني.
تتراقص ملايين العصافير مزقزقة فوق وجنتيها الطافحتين دماً، وفي عينيها لمعان مشع متأت من ثقتها بمحدثها، فعقب قائلاً:
ـ شعرت بمتعة لا حدود لها، وأنا أستردك، وحينما لمستك ولدت فيّ ملايين الخلايا، حينها أحسست بأن دماء الشباب تجري في عروقي.
أشاحت بوجهها، لتقول بغنج:
ـ افتقدتك يا حاج لأنك رجلي، واشتقت إليك لكونك أثمن مشاعري على الإطلاق.
ردّ قائلاً:
ـ لن يخيب أملك فيّ أبداً. أبداً.

 

تعليق عبر الفيس بوك