نِفاق بالإكراه..!

غسان الشهابي

أعود للقول بأن المشاركة في المؤتمرات الإقليمية أو العالمية لها الكثير من الفوائد التي تتعدى ما يجري في قاعات المؤتمر؛ فلربما ما يجري على الهامش أكثر غنًى.. وإليكم هذه الحكاية.

على طاولة العشاء؛ حيث أَخَذَنا المنظِّمون إلى مكانٍ بعيدٍ عن الفندق لتغيير الجو، وبعد أن ساد جوٌّ من الإلفة بين بعض الجالسين، سأل أحدهم آخر عمَّا وصل إليه في عمله، فردّ عليه أنه ترك وظيفته قبل أكثر من عامين، ثم استطرد قائلاً: "في الحقيقة، لقد كان عليّ تركها!"، هنا التفتَ جميع من على الطاولة المستديرة إليه، وتركزت عليه الأنظار: "كنت أشغل منصب الوكيل المساعد في وزارتي، وتعرَّضت والدة "الكبير" لأزمة صحية، ولكنها شفيت منها، فأخذت الصحف تنشر إعلانات التهنئة بسلامة الأم. في اليوم الأول قلت في نفسي ربما الأمر لا يتعدَّى بضع جهات رسمية وأخرى أهلية وتنتهي القصة، ولكنني رأيت أن الأمر استمر يومين وثلاثة، فقلت: الأمر سيكون محرجاً لو لم ننشر كالباقين إعلاناً بالتهنئة، مع أن هناك تعليمات بضبط النفقات وعدم نشر إعلانات بالتهنئة، ولكن ها هم الجميع ينشرون. فرفعت السماعة لمن ينسقون مع الصحف، وطلبت نشر نصف صفحة إعلانا ملونا في جميع الصحف اليومية الكبرى باسم الوزارة، فسألني المنسق إن كان النشر في الصفحة الثالثة من الصحف؟ لم أفكر لثانية، ورددت عليه: بل في الأولى.

تمَّ نشر إعلانات التهنئة، واتصل بي الوزير شاكراً؛ لأنه لم يخطر على باله القيام بهذه الخطوة، فلقد قمنا بالواجب "القومي" كما ينبغي، وعوّضنا تأخرنا في الأيام، بتصدّر الصفحات الأولى، وختمها بكلمة: برافو!

بعد حوالي أربعة أشهر، يستدعيني الوزير إلى مكتبه ليمدّ يده برسالة من جهاز ضبط النفقات الحكومية تُشير إلى مخالفتنا للأنظمة واللوائح بنشر إعلانات التهنئة، فقلت للوزير: ولكن الجميع هنّأ. فكان ردّه: لقد اتصلوا بتلك الجهات ووجّهوها لإرسال التهاني، هل اتصل بك أحد؟ قلت: لا، فقال: وهل وقّعت أنا على أمر النشر؟ هنا انخفض صوتي أكثر وبدا مخنوقاً وقد انخفض كتفاي: لا! فجاء كلام الوزير مشحوناً بلسان غيره قائلاً: لقد أحرجتني وأحرجت الوزارة برمّتها بهذا التصرف!

لم تطل الأيام حتى رأيت ريشي يُنتزع الواحدة بعد الأخرى... فكان عليّ أن أدفع الثمن؛ لأنه من غير المسموح لك حتى أن تنافق ما لم تؤمر بذلك"!